الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

بين تكفير وتكفير... !

ففوجئت أنه أكثر المنشورات التي كتبتُها على الإطلاق انتشارًا بين المتابعين... وأكثرهم كان كل تركيزه على أن فلانًا كافر بعينه!

بين تكفير وتكفير... !
أحمد يحي الشيخ
الأربعاء ٣٠ أكتوبر ٢٠١٣ - ١٨:٠١ م
2871
26-ذو الحجة-1434هـ   30-أكتوبر-2013      

كتبه/ أحمد يحيى الشيخ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

1- هي بالفعل متع شاذة...

متعة إرضاء شهوة النفس لإثباتِ كفرَ فلانٍ بعينه فقط -بغض النظر عن كونه قد يكون كافرًا فعلاً-!

متعة تفريغ شحنة الحماسة المكبوتة في شيء ما، ولو لم يترتب عليه عمل!

متعة التكفير للهروب من التهمة بالإرجاء!

وتظهر هذه المتع فيمن يفرح بنبرة التكفير دون تمييز بين ما يُكفَّر به وما لا يُكفَّر، ومتى يُعذر الفاعل ومتى لا يُعذر!

2- كنت قد كتبتُ منشورًا على صفحتي على "الفيس بوك" عن تكفير أحد المعينين ممن نطق بكفر ظاهر، فقال مخاطبًا غيره بما خاطب به شاعر العُبيديين أميرَه قائلاً:

ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ             فـاحكـم فأنت الواحدُ الـقهارُ!

ففوجئت أنه أكثر المنشورات التي كتبتُها على الإطلاق انتشارًا بين المتابعين... وأكثرهم كان كل تركيزه على أن فلانًا كافر بعينه!

وهذا في العموم أمر لا يبشر بخير، بغض النظر عن هذه المسألة، فنحن لا يهمنا إثباتُ أن فلانًا كافرٌ بقدر ما يهمنا تقرير عقيدة أهل السنة في هذا الباب "مع أن ثبوت الفعل أو القول بوسائل الإعلام أو صفحات الفيس أو المواقع لا يعد كافيًا في الشهادة على أحد بفعل أو قول بحال من الأحوال"؛ ولذلك أوردت مقالته الكفرية دون ذكر اسمه.

3- ما يعذر به وما لا يُعذر به من أنواع الجهل:

الجهل ثلاثة أنواع:

أ- جهل الإعراض: أن تصله أدلة النهي التي تقوم بها الحجة، فيُعرض عنها، كجهل كفار قريش ومن شابههم في الإعراض، وهذا النوع لا عذر فيه.

ب- جهل العاقبة: أن يفعل الشيء مع علمه بالتحريم، ويجهل عاقبته كالحد -إن كان في بعض الكبائر- أو الردة -إن كان في المكفّرات-، وهذا النوع أيضًا لا عذر فيه "وغالبًا ما يقترن بجهل الإعراض".

فإن كان في شيء فيه الحد أقيم عليه الحد بمجرد الفعل -إذا توافرت شروط الحد-، وإن كان في شيء من المكفرات كفر بمجرد الفعل إن كان من أهل التكليف "بعد ثبوت الفعل أو القول".

فقصد الكفر غير معتبر في التكفير، ولكن يُنظر إلى قصد الفعل فقط، وقد نقل الإجماع على ذلك شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله-، فلا يشترط أن يكون الفاعل قاصدًا للكفر، بل متى علم أن هذا مما يُنهَى عنه وفعله -ولو لم يعلم أنه كُفر- كَفر من ساعته.

وهذا بإجماع أهل السنة على وقوع الكفر بالقلب والجوارح، وعدم اشتراط قصد الكفر للتكفير، وهذا مثلما حكم الله على المستهزئين بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بالكفر في سورة التوبة.

ج- الجهل الناشئ عن عدم البلاغ: أن يجهل التحريم أصلاً، ويظن إباحة الفعل؛ لعدم بلوغه تحريمُه، وهذا الذي فيه العذر بالجهل، ولكن بضوابطه أيضًا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وإذا عُرف هذا، فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يُحكم عليه بأنه من الكفار، لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر.

وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين، مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحدًا من المسلمين "وإن أخطأ وغلط" حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة" (مجموع الفتاوى 12/ 500).

4- كثيرًا ما يقع الخلط بيْن الجهل الناشئ عن عدم البلاغ وبين جهل العاقبة أو جهل الإعراض، فيظن أن العذر في الجميع، أو أنه لا عذر في الجميع؛ وهذا بسبب أن بعض الآيات وصفت المشركين بالجهل، كقوله -تعالى-: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ(التوبة:6).

والبعض يورد كلام ابن القيم -رحمه الله- في الطبقة السابعة عشرة من طبقات المكلفين عن "المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبعًا لهم، يقولون: إنا وجدنا آباءَنا على أُمة، ولنا أُسوة بهم... فغاية هذه الطبقة أنهم كفارٌ جهالٌ غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفارًا، فإن الكافر من جحد توحيد الله وكذب رسوله: إما عنادًا، وإما جهلاً وتقليدًا لأهل العناد" اهـ.

فيظن البعض أن هذا الكلام في العذر بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ، وإنما هو في جهل العاقبة وجهل الإعراض؛ إذ أنهم كذبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأشركوا بالله اتباعًا لآبائهم وتقليدًا لكبرائهم، وليس هو فيمن صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- ظاهرًا وباطنًا، وهو متبع له ظاهرًا وباطنًا.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "العذاب يُستَحق بسببين: أحدهما الإعراضُ عن الحجة وعدمُ إرادتِها والعملِ بها وبموجَبها. الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها؛ فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها؛ فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل" (طريق الهجرتين ص414).

5- فأصل العذر بالجهل ثابت في كل أحكام الشريعة، لا فرق بين مسائل الأصول ومسائل الفروع، أو المسائل العلمية والمسائل النظرية، أو مسألة وأخرى من نفس الجنس.

قال ابن تيمية -رحمه الله-: "هذا مع أني دائمًا ومَن جالسني يعلم ذلك مني؛ أني من أعظم الناس نهيًا عن أن يُنسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافرًا تارة وفاسقًا أخرى وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية" (مجموع الفتاوى 3/ 229).

6- لكن ما لا يُتصور فيه الجهل أو التأويل أو الخطأ -من المعلوم من الدين بالضرورة-؛ فمرتكبُه كافرٌ بمجرد فعلِه، والمعلوم من الدين بالضرورة يختلف من مكان لآخر ومن زمان لآخر.

جاء في فتاوى اللجنة الدائمة (فتوى 11043): "يختلف الحكم على الإنسان بأنه يُعذر بالجهل في المسائل الدينية أو لا يُعذر باختلاف البلاغ وعدمه، وباختلاف المسألة نفسها وضوحًا وخفاءً، وتفاوت مدارك الناس قوة وضعفًا" اهـ.

وقال ابن قدامة -رحمه الله-: "وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله، لا يحكم بكفره حتى يُعرف ذلك، وتزول عنه الشبهة، ويستحله بعد ذلك. وقد قال أحمد: من قال (الخمر حلال) فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وهذا محمول على مَن لا يخفى على مثله تحريمه؛ لما ذكرنا" (المغني 12/ 277).

وقوله: "على مثله" أي: في الزمان والمكان والإدراك.

فلا يعتبر فهمُ نفس الشخص للحجة واقتناعُه بها، بل يكفي أن تكون الحجة مفهومة لمن هو مثل ذلك الشخص في الزمان والمكان والإدراك؛ فإن تصريحَه بعدم اقتناعه، أو بعدم فهمه بعد إقامة الحجة ممكن لكل أحد حتى بعد البيان.

7- (من لم يُكَفّر الكافر فهو كافر):

هذا صحيح في الكافر المتفق على كفره جنسًا: كاليهود والنصارى، أو عينًا: كإبليس، وفرعون، وأبي لهب.

وأما إيقاع الكفر على معينٍ ثبت له أصل الإسلام ثم وقع في كفر غير معلوم من الدين بالضرورة = فهو من موارد الاجتهاد، بناءً على الاختلاف في إقامة الحجة من عدمها، وقد يكون الخلاف سائغًا في ذلك، وقد يكون غير سائغ بناءً على معرفة الواقع، والتورع عن التكفير في مثل هذا النوع أسلم وأبرأ لدين المسلم.

وأيضًا فالتورع عن التكفير ليس معناه أن الكفرَ تصورٌ ذهنيٌّ محضٌ لا وجود له في الواقع، والحق وسط بين طرفين.

8- العذر في عدم التكفير لا يمنع من الإغلاظ في النكير والعقوبة إن وجد تقصيرٌ من جهة الفاعل، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع من طلبوا أن يجعل لهم ذات أنواط، وكما فعل الصحابة مع الخوارج.

9- بالنسبة للكلام في تكفير المعيَّن... فالأهم هو بيان أصل المسألة، وما يترتب على ذلك من عمل، وفائدته عمليًّا في واقعنا في المخالطين لمن صدر منه الكفر كزوجة وورثة، فليس من الصواب الانشغال بمسألة الحكم على المعينين، فضلاً عن عقد الولاء والبراء على ذلك، فالدعوة والبيان لا تتوقفان على الحكم على الأشخاص.

10- كل الناس يغدو؛ فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

والحمد لله رب العالمين.


26-ذو الحجة-1434هـ   30-أكتوبر-2013      
عدد الزوار: 17

كتبه/ أحمد يحيى الشيخ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

1- هي بالفعل متع شاذة...

متعة إرضاء شهوة النفس لإثباتِ كفرَ فلانٍ بعينه فقط -بغض النظر عن كونه قد يكون كافرًا فعلاً-!

متعة تفريغ شحنة الحماسة المكبوتة في شيء ما، ولو لم يترتب عليه عمل!

متعة التكفير للهروب من التهمة بالإرجاء!

وتظهر هذه المتع فيمن يفرح بنبرة التكفير دون تمييز بين ما يُكفَّر به وما لا يُكفَّر، ومتى يُعذر الفاعل ومتى لا يُعذر!

2- كنت قد كتبتُ منشورًا على صفحتي على "الفيس بوك" عن تكفير أحد المعينين ممن نطق بكفر ظاهر، فقال مخاطبًا غيره بما خاطب به شاعر العُبيديين أميرَه قائلاً:

ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ             فـاحكـم فأنت الواحدُ الـقهارُ!

ففوجئت أنه أكثر المنشورات التي كتبتُها على الإطلاق انتشارًا بين المتابعين... وأكثرهم كان كل تركيزه على أن فلانًا كافر بعينه!

وهذا في العموم أمر لا يبشر بخير، بغض النظر عن هذه المسألة، فنحن لا يهمنا إثباتُ أن فلانًا كافرٌ بقدر ما يهمنا تقرير عقيدة أهل السنة في هذا الباب "مع أن ثبوت الفعل أو القول بوسائل الإعلام أو صفحات الفيس أو المواقع لا يعد كافيًا في الشهادة على أحد بفعل أو قول بحال من الأحوال"؛ ولذلك أوردت مقالته الكفرية دون ذكر اسمه.

3- ما يعذر به وما لا يُعذر به من أنواع الجهل:

الجهل ثلاثة أنواع:

أ- جهل الإعراض: أن تصله أدلة النهي التي تقوم بها الحجة، فيُعرض عنها، كجهل كفار قريش ومن شابههم في الإعراض، وهذا النوع لا عذر فيه.

ب- جهل العاقبة: أن يفعل الشيء مع علمه بالتحريم، ويجهل عاقبته كالحد -إن كان في بعض الكبائر- أو الردة -إن كان في المكفّرات-، وهذا النوع أيضًا لا عذر فيه "وغالبًا ما يقترن بجهل الإعراض".

فإن كان في شيء فيه الحد أقيم عليه الحد بمجرد الفعل -إذا توافرت شروط الحد-، وإن كان في شيء من المكفرات كفر بمجرد الفعل إن كان من أهل التكليف "بعد ثبوت الفعل أو القول".

فقصد الكفر غير معتبر في التكفير، ولكن يُنظر إلى قصد الفعل فقط، وقد نقل الإجماع على ذلك شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله-، فلا يشترط أن يكون الفاعل قاصدًا للكفر، بل متى علم أن هذا مما يُنهَى عنه وفعله -ولو لم يعلم أنه كُفر- كَفر من ساعته.

وهذا بإجماع أهل السنة على وقوع الكفر بالقلب والجوارح، وعدم اشتراط قصد الكفر للتكفير، وهذا مثلما حكم الله على المستهزئين بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بالكفر في سورة التوبة.

ج- الجهل الناشئ عن عدم البلاغ: أن يجهل التحريم أصلاً، ويظن إباحة الفعل؛ لعدم بلوغه تحريمُه، وهذا الذي فيه العذر بالجهل، ولكن بضوابطه أيضًا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وإذا عُرف هذا، فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يُحكم عليه بأنه من الكفار، لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر.

وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين، مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحدًا من المسلمين "وإن أخطأ وغلط" حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة" (مجموع الفتاوى 12/ 500).

4- كثيرًا ما يقع الخلط بيْن الجهل الناشئ عن عدم البلاغ وبين جهل العاقبة أو جهل الإعراض، فيظن أن العذر في الجميع، أو أنه لا عذر في الجميع؛ وهذا بسبب أن بعض الآيات وصفت المشركين بالجهل، كقوله -تعالى-: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ(التوبة:6).

والبعض يورد كلام ابن القيم -رحمه الله- في الطبقة السابعة عشرة من طبقات المكلفين عن "المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبعًا لهم، يقولون: إنا وجدنا آباءَنا على أُمة، ولنا أُسوة بهم... فغاية هذه الطبقة أنهم كفارٌ جهالٌ غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفارًا، فإن الكافر من جحد توحيد الله وكذب رسوله: إما عنادًا، وإما جهلاً وتقليدًا لأهل العناد" اهـ.

فيظن البعض أن هذا الكلام في العذر بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ، وإنما هو في جهل العاقبة وجهل الإعراض؛ إذ أنهم كذبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأشركوا بالله اتباعًا لآبائهم وتقليدًا لكبرائهم، وليس هو فيمن صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- ظاهرًا وباطنًا، وهو متبع له ظاهرًا وباطنًا.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "العذاب يُستَحق بسببين: أحدهما الإعراضُ عن الحجة وعدمُ إرادتِها والعملِ بها وبموجَبها. الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها؛ فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها؛ فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل" (طريق الهجرتين ص414).

5- فأصل العذر بالجهل ثابت في كل أحكام الشريعة، لا فرق بين مسائل الأصول ومسائل الفروع، أو المسائل العلمية والمسائل النظرية، أو مسألة وأخرى من نفس الجنس.

قال ابن تيمية -رحمه الله-: "هذا مع أني دائمًا ومَن جالسني يعلم ذلك مني؛ أني من أعظم الناس نهيًا عن أن يُنسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافرًا تارة وفاسقًا أخرى وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية" (مجموع الفتاوى 3/ 229).

6- لكن ما لا يُتصور فيه الجهل أو التأويل أو الخطأ -من المعلوم من الدين بالضرورة-؛ فمرتكبُه كافرٌ بمجرد فعلِه، والمعلوم من الدين بالضرورة يختلف من مكان لآخر ومن زمان لآخر.

جاء في فتاوى اللجنة الدائمة (فتوى 11043): "يختلف الحكم على الإنسان بأنه يُعذر بالجهل في المسائل الدينية أو لا يُعذر باختلاف البلاغ وعدمه، وباختلاف المسألة نفسها وضوحًا وخفاءً، وتفاوت مدارك الناس قوة وضعفًا" اهـ.

وقال ابن قدامة -رحمه الله-: "وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله، لا يحكم بكفره حتى يُعرف ذلك، وتزول عنه الشبهة، ويستحله بعد ذلك. وقد قال أحمد: من قال (الخمر حلال) فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وهذا محمول على مَن لا يخفى على مثله تحريمه؛ لما ذكرنا" (المغني 12/ 277).

وقوله: "على مثله" أي: في الزمان والمكان والإدراك.

فلا يعتبر فهمُ نفس الشخص للحجة واقتناعُه بها، بل يكفي أن تكون الحجة مفهومة لمن هو مثل ذلك الشخص في الزمان والمكان والإدراك؛ فإن تصريحَه بعدم اقتناعه، أو بعدم فهمه بعد إقامة الحجة ممكن لكل أحد حتى بعد البيان.

7- (من لم يُكَفّر الكافر فهو كافر):

هذا صحيح في الكافر المتفق على كفره جنسًا: كاليهود والنصارى، أو عينًا: كإبليس، وفرعون، وأبي لهب.

وأما إيقاع الكفر على معينٍ ثبت له أصل الإسلام ثم وقع في كفر غير معلوم من الدين بالضرورة = فهو من موارد الاجتهاد، بناءً على الاختلاف في إقامة الحجة من عدمها، وقد يكون الخلاف سائغًا في ذلك، وقد يكون غير سائغ بناءً على معرفة الواقع، والتورع عن التكفير في مثل هذا النوع أسلم وأبرأ لدين المسلم.

وأيضًا فالتورع عن التكفير ليس معناه أن الكفرَ تصورٌ ذهنيٌّ محضٌ لا وجود له في الواقع، والحق وسط بين طرفين.

8- العذر في عدم التكفير لا يمنع من الإغلاظ في النكير والعقوبة إن وجد تقصيرٌ من جهة الفاعل، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع من طلبوا أن يجعل لهم ذات أنواط، وكما فعل الصحابة مع الخوارج.

9- بالنسبة للكلام في تكفير المعيَّن... فالأهم هو بيان أصل المسألة، وما يترتب على ذلك من عمل، وفائدته عمليًّا في واقعنا في المخالطين لمن صدر منه الكفر كزوجة وورثة، فليس من الصواب الانشغال بمسألة الحكم على المعينين، فضلاً عن عقد الولاء والبراء على ذلك، فالدعوة والبيان لا تتوقفان على الحكم على الأشخاص.

10- كل الناس يغدو؛ فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

والحمد لله رب العالمين.


26-ذو الحجة-1434هـ   30-أكتوبر-2013      
عدد الزوار: 17

كتبه/ أحمد يحيى الشيخ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

1- هي بالفعل متع شاذة...

متعة إرضاء شهوة النفس لإثباتِ كفرَ فلانٍ بعينه فقط -بغض النظر عن كونه قد يكون كافرًا فعلاً-!

متعة تفريغ شحنة الحماسة المكبوتة في شيء ما، ولو لم يترتب عليه عمل!

متعة التكفير للهروب من التهمة بالإرجاء!

وتظهر هذه المتع فيمن يفرح بنبرة التكفير دون تمييز بين ما يُكفَّر به وما لا يُكفَّر، ومتى يُعذر الفاعل ومتى لا يُعذر!

2- كنت قد كتبتُ منشورًا على صفحتي على "الفيس بوك" عن تكفير أحد المعينين ممن نطق بكفر ظاهر، فقال مخاطبًا غيره بما خاطب به شاعر العُبيديين أميرَه قائلاً:

ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ             فـاحكـم فأنت الواحدُ الـقهارُ!

ففوجئت أنه أكثر المنشورات التي كتبتُها على الإطلاق انتشارًا بين المتابعين... وأكثرهم كان كل تركيزه على أن فلانًا كافر بعينه!

وهذا في العموم أمر لا يبشر بخير، بغض النظر عن هذه المسألة، فنحن لا يهمنا إثباتُ أن فلانًا كافرٌ بقدر ما يهمنا تقرير عقيدة أهل السنة في هذا الباب "مع أن ثبوت الفعل أو القول بوسائل الإعلام أو صفحات الفيس أو المواقع لا يعد كافيًا في الشهادة على أحد بفعل أو قول بحال من الأحوال"؛ ولذلك أوردت مقالته الكفرية دون ذكر اسمه.

3- ما يعذر به وما لا يُعذر به من أنواع الجهل:

الجهل ثلاثة أنواع:

أ- جهل الإعراض: أن تصله أدلة النهي التي تقوم بها الحجة، فيُعرض عنها، كجهل كفار قريش ومن شابههم في الإعراض، وهذا النوع لا عذر فيه.

ب- جهل العاقبة: أن يفعل الشيء مع علمه بالتحريم، ويجهل عاقبته كالحد -إن كان في بعض الكبائر- أو الردة -إن كان في المكفّرات-، وهذا النوع أيضًا لا عذر فيه "وغالبًا ما يقترن بجهل الإعراض".

فإن كان في شيء فيه الحد أقيم عليه الحد بمجرد الفعل -إذا توافرت شروط الحد-، وإن كان في شيء من المكفرات كفر بمجرد الفعل إن كان من أهل التكليف "بعد ثبوت الفعل أو القول".

فقصد الكفر غير معتبر في التكفير، ولكن يُنظر إلى قصد الفعل فقط، وقد نقل الإجماع على ذلك شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله-، فلا يشترط أن يكون الفاعل قاصدًا للكفر، بل متى علم أن هذا مما يُنهَى عنه وفعله -ولو لم يعلم أنه كُفر- كَفر من ساعته.

وهذا بإجماع أهل السنة على وقوع الكفر بالقلب والجوارح، وعدم اشتراط قصد الكفر للتكفير، وهذا مثلما حكم الله على المستهزئين بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بالكفر في سورة التوبة.

ج- الجهل الناشئ عن عدم البلاغ: أن يجهل التحريم أصلاً، ويظن إباحة الفعل؛ لعدم بلوغه تحريمُه، وهذا الذي فيه العذر بالجهل، ولكن بضوابطه أيضًا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وإذا عُرف هذا، فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يُحكم عليه بأنه من الكفار، لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر.

وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين، مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحدًا من المسلمين "وإن أخطأ وغلط" حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة" (مجموع الفتاوى 12/ 500).

4- كثيرًا ما يقع الخلط بيْن الجهل الناشئ عن عدم البلاغ وبين جهل العاقبة أو جهل الإعراض، فيظن أن العذر في الجميع، أو أنه لا عذر في الجميع؛ وهذا بسبب أن بعض الآيات وصفت المشركين بالجهل، كقوله -تعالى-: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ(التوبة:6).

والبعض يورد كلام ابن القيم -رحمه الله- في الطبقة السابعة عشرة من طبقات المكلفين عن "المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبعًا لهم، يقولون: إنا وجدنا آباءَنا على أُمة، ولنا أُسوة بهم... فغاية هذه الطبقة أنهم كفارٌ جهالٌ غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفارًا، فإن الكافر من جحد توحيد الله وكذب رسوله: إما عنادًا، وإما جهلاً وتقليدًا لأهل العناد" اهـ.

فيظن البعض أن هذا الكلام في العذر بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ، وإنما هو في جهل العاقبة وجهل الإعراض؛ إذ أنهم كذبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأشركوا بالله اتباعًا لآبائهم وتقليدًا لكبرائهم، وليس هو فيمن صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- ظاهرًا وباطنًا، وهو متبع له ظاهرًا وباطنًا.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "العذاب يُستَحق بسببين: أحدهما الإعراضُ عن الحجة وعدمُ إرادتِها والعملِ بها وبموجَبها. الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها؛ فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها؛ فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل" (طريق الهجرتين ص414).

5- فأصل العذر بالجهل ثابت في كل أحكام الشريعة، لا فرق بين مسائل الأصول ومسائل الفروع، أو المسائل العلمية والمسائل النظرية، أو مسألة وأخرى من نفس الجنس.

قال ابن تيمية -رحمه الله-: "هذا مع أني دائمًا ومَن جالسني يعلم ذلك مني؛ أني من أعظم الناس نهيًا عن أن يُنسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافرًا تارة وفاسقًا أخرى وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية" (مجموع الفتاوى 3/ 229).

6- لكن ما لا يُتصور فيه الجهل أو التأويل أو الخطأ -من المعلوم من الدين بالضرورة-؛ فمرتكبُه كافرٌ بمجرد فعلِه، والمعلوم من الدين بالضرورة يختلف من مكان لآخر ومن زمان لآخر.

جاء في فتاوى اللجنة الدائمة (فتوى 11043): "يختلف الحكم على الإنسان بأنه يُعذر بالجهل في المسائل الدينية أو لا يُعذر باختلاف البلاغ وعدمه، وباختلاف المسألة نفسها وضوحًا وخفاءً، وتفاوت مدارك الناس قوة وضعفًا" اهـ.

وقال ابن قدامة -رحمه الله-: "وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله، لا يحكم بكفره حتى يُعرف ذلك، وتزول عنه الشبهة، ويستحله بعد ذلك. وقد قال أحمد: من قال (الخمر حلال) فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وهذا محمول على مَن لا يخفى على مثله تحريمه؛ لما ذكرنا" (المغني 12/ 277).

وقوله: "على مثله" أي: في الزمان والمكان والإدراك.

فلا يعتبر فهمُ نفس الشخص للحجة واقتناعُه بها، بل يكفي أن تكون الحجة مفهومة لمن هو مثل ذلك الشخص في الزمان والمكان والإدراك؛ فإن تصريحَه بعدم اقتناعه، أو بعدم فهمه بعد إقامة الحجة ممكن لكل أحد حتى بعد البيان.

7- (من لم يُكَفّر الكافر فهو كافر):

هذا صحيح في الكافر المتفق على كفره جنسًا: كاليهود والنصارى، أو عينًا: كإبليس، وفرعون، وأبي لهب.

وأما إيقاع الكفر على معينٍ ثبت له أصل الإسلام ثم وقع في كفر غير معلوم من الدين بالضرورة = فهو من موارد الاجتهاد، بناءً على الاختلاف في إقامة الحجة من عدمها، وقد يكون الخلاف سائغًا في ذلك، وقد يكون غير سائغ بناءً على معرفة الواقع، والتورع عن التكفير في مثل هذا النوع أسلم وأبرأ لدين المسلم.

وأيضًا فالتورع عن التكفير ليس معناه أن الكفرَ تصورٌ ذهنيٌّ محضٌ لا وجود له في الواقع، والحق وسط بين طرفين.

8- العذر في عدم التكفير لا يمنع من الإغلاظ في النكير والعقوبة إن وجد تقصيرٌ من جهة الفاعل، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع من طلبوا أن يجعل لهم ذات أنواط، وكما فعل الصحابة مع الخوارج.

9- بالنسبة للكلام في تكفير المعيَّن... فالأهم هو بيان أصل المسألة، وما يترتب على ذلك من عمل، وفائدته عمليًّا في واقعنا في المخالطين لمن صدر منه الكفر كزوجة وورثة، فليس من الصواب الانشغال بمسألة الحكم على المعينين، فضلاً عن عقد الولاء والبراء على ذلك، فالدعوة والبيان لا تتوقفان على الحكم على الأشخاص.

10- كل الناس يغدو؛ فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

والحمد لله رب العالمين.


www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي

ربما يهمك أيضاً