السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الرجوع إلى الحق وإنصاف المخالِفين من صفات العلماء الربانيين

وهذا الخُلُق من شيم الكرام، ومن أخلاق النبلاء، وأولى الناس به أهل العلم والدين الذين هم أخشى الناس لله وأعرفهم به

الرجوع إلى الحق وإنصاف المخالِفين من صفات العلماء الربانيين
محمود عبد الحفيظ
الاثنين ١٦ ديسمبر ٢٠١٣ - ٢٠:١٥ م
3394
13-صفر-1435هـ   16-ديسمبر-2013      

كتبه/ محمود عبد الحفيظ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن من صفات العلماء الربانيين وأخلاقهم التي يُعرفون بها: الرجوع إلى الحق والاعتراف بالخطأ، وهذا الخُلُق من شيم الكرام، ومن أخلاق النبلاء، وأولى الناس به أهل العلم والدين الذين هم أخشى الناس لله وأعرفهم به، فإنهم لا يُصرون على خطأ وقعوا فيه، بل يندمون على فعله ويبادرون إلى الاعتراف به، وتصحيحه، قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ(آل عمران:135)، وقال -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ(الأعراف:201).

ولقد صار هذا الخُلُق -فيما يبدو- من الأمور العزيزة التي لا تسمح بها نفوس كثير من الناس -إلا مَن رحم الله منهم-، وقد يصعِّب ذلك انتشار قول القائل ونقل الناس عنه، فتأخذه العزة بالإثم ويصر على التمادي على ما هو فيه، وإلى الله المشتكى!

بل قد يصل الأمر إلى حد الإصرار على الباطل والتمادي فيه، ورمي المخالف ونعته بأبشع النعوت من العمالة والخيانة، والإفتاء بما يخالف الشرع، وإباحة الدم المعصوم، وغير ذلك من التهم!

ولأن وقع ذلك مِن دهماء الناس ومن الرعاع؛ فلعمر الله ما أشده من أمر، وما أخطره!

فكيف إن وقع ممن يُحسب على دعوة إلى الله وأهل علم، وله تلامذة يسمعون عنه ويأخذون منه، ويقلدونه دينهم؟!

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الدِّرْهَمَ يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنَ الرِّبَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْخَطِيئَةِ مِنْ سِتٍّ وَثَلاثِينَ زَنْيَةً يَزْنِيهَا الرَّجُلُ، وَأَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ(رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة، وقال الألباني: صحيح لغيره)، وقال: (إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، اسْتِطَالَةَ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمِنَ الكَبَائِرِ السَّبَّتَانِ بِالسَّبَّةِ(رواه أبو داود وابن أبي الدنيا في الصمت، وصححه الألباني بمجموع طرقه). فكيف بمسبة مَن لم يسب ولم يتكلم في عرض أحد؟!

وهذا الوعيد والتحذير وإن كان في حق عامة الناس من أهل الإسلام، ولكن يزداد الأمر خطرًا إذا كان يتعلق بحق أحد من أهل العلم والدعوة إلى الله، والخير والصلاح؛ لما قد يؤدي ذلك إليه من خسارة الناس لعلمه وأدبه مع حاجتهم إليه.

يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "إن الذي يتصدى لضبط الوقائع من الأقوال والأفعال والرجال يلزمه التحري في النقل، فلا يجزم إلا بما يتحققه، ولا يكتفي بالقول الشائع، ولا سيما إن ترتب على ذلك مفسدة من الطعن في حق أحد من أهل العلم والصلاح، وإن كان في الواقعة أمرٌ فادح سواء كان قولاً أو فعلاً أو موقفًا في حق المستور، فينبغي أن لا يبالغ في إفشائه ويكتفي بالإشارة؛ لئلا يكون وقعت منه فلتة، ولذلك يحتاج المسلم أن يكون عارفًا بمقادير الناس وأحوالهم ومنازلهم، فلا يرفع الوضيع، ولا يضع الرفيع"(ذيل التبر المسبوك).

ولقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- تحذيرًا شديد اللهجة هذا الإنسان الذي لا يتحرى الصدق فيما يقوله وينطق به، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سمع(رواه مسلم في مقدمة صحيحه بسند صحيح).

يقول العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: "من الغلط الفاحش الخطر قبول قول الناس بعضهم ببعض، ثم يبني عليه السامع حبًّا وبغضًا، ومدحًا وذمًّا، فكم حصل بهذا الغلط أمور صار عاقبتها الندامة، وكم أشاع الناس عن الناس أمورًا لا حقائق لها بالكلية، أو لها بعض الحقيقة فنميت بالكذب والزور، وخصوصًا مَن عرفوا بعدم المبالاة بالنقل، أو عرف منهم الهوى، فالواجب على العاقل التثبت والتحرز وعدم التسرع، وبهذا يُعرف دين العبد ورزانته وعقله" (الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة).

ولقد حفل ميراثنا الإسلامي الذي ورثناه عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- وصحابته وتابعيهم بإحسان -رضي الله عنهم- بأمثلة فريدة على اختلاف العصور والأزمان تبيِّن كيف كان أهل الفضل والعلم يتحلون بهذا الخلق الفاضل ويحرصون عليه.

- عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ) فَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الخَطَّابِ شَيْءٌ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ) ثَلاَثًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ، فَسَأَلَ: أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لاَ، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَمَعَّرُ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي) مَرَّتَيْنِ، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا(رواه البخاري).

- وهذا الإمام ابن حزم -رحمه الله- على شدته وحدته على المخالفين -خلافًا لطريقة عامة العلماء- يقول: "ناظرت رجلاً من أصحابنا في مسألة فعلوته فيها لبكوء كان في لسانه -يعني في لسانه عيب-، وانفصل المجلس على أني ظاهر، فلما أتيت منزلي حاك في نفسي منها شيء، فتطلبتها في بعض الكتب فوجدت برهانًا صحيحًا يبيِّن بطلان قولي وصحة قول خصمي، وكان معي أحد أصحابنا ممن شهد ذلك المجلس فعرفته بذلك، ثم رآني قد علَّمتُ على المكان من الكتاب، فقال لي: ما تريد؟ فقلت: أريد حمل هذا الكتاب وعرضه على فلان، وإعلامه بأنه المحق وأني كنت المبطل، وأني راجع إلى قوله. فهجم عليه من ذلك أمر مبهت، وقال لي: وتسمح نفسك بهذا؟! فقلت له: نعم، ولو أمكنني ذلك في وقتي هذا لما أخرته إلى غد".

ثم علّق الإمام ابن حزم -رحمه الله- على هذا الموقف قائلاً: "واعلم أن مثل هذا الفعل يكسبك أجمل الذكر مع تحليك بالإنصاف الذي لا شيء يعدله، ولا يكن غرضك أن توهم نفسك أنك غالب، أو توهم من حضرك ممن يغتر بك ويثق بحكمك أنك غالب، وأنت بالحقيقة مغلوب، فتكون خسيسًا وضيعًا جدًّا، وسخيفا ألبتة، وساقط الهمة!" (التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية).

- وقال الإمام ابن العربي -رحمه الله- في كتابه أحكام القرآن: "أخبرني محمد بن قاسم العثماني غير مرة: وصلت الفسطاط مرة، فجئت مجلس الشيخ أبي الفضل الجوهري، وحضرت كلامه على الناس، فكان مما قال في أول مجلس جلست إليه: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- طلق وظاهر وآلى، فلما خرج تبعته حتى بلغت معه إلى منزله في جماعة، فجلس معنا في الدهليز، وعرَّفهم أمري، فإنه رأى إشارة الغربة ولم يَعرف الشخص قبل ذلك في الواردين عليه، فلما انفض عنه أكثرهم قال لي: أراك غريبًا، هل لك من كلام؟ قلت: نعم. قال لجلسائه: أفرجوا له عن كلامه. فقاموا وبقيت وحدي معه. فقلت له: حضرتُ المجلس اليوم متبركًا بك، وسمعتك تقول: آلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدقت، وطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدقت.

وقلتَ: وظاهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا لم يكن، ولا يصح أن يكون؛ لأن الظهار منكرٌ من القول وزورٌ؛ وذلك لا يجوز أن يقع من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فضمني إلى نفسه وقبَّل رأسي، وقال لي: أنا تائب من ذلك، جزاك الله عني من معلم خيرًا، ثم انقلبت عنه، وبكَّرت إلى مجلسه في اليوم الثاني، فألفيته قد سبقني إلى الجامع، وجلس على المنبر، فلما دخلت من باب الجامع ورآني نادى بأعلى صوته: مرحبًا بمعلمي؛ أفسحوا لمعلمي، فتطاولت الأعناق إليَّ، وحدقت الأبصار نحوي، وتعرفني يا أبا بكر -يشير إلى عظيم حيائه، فإنه كان إذا سلَّم عليه أحد أو فاجأه؛ خجِل لعظيم حيائه، واحمر حتى كأن وجهه طلي بجلنار- قال: وتبادر الناس إليَّ يرفعونني على الأيدي ويتدافعوني حتى بلغت المنبر، وأنا لعظم الحياء لا أعرف في أي بقعة أنا من الأرض، والجامع غاص بأهله، وأسال الحياء بدني عرقًا، وأقبل الشيخ على الخلق، فقال لهم: أنا معلمكم، وهذا معلمي؛ لما كان بالأمس قلت لكم: آلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطلق، وظاهر؛ فما كان أحد منكم فقه عني ولا رد عليَّ، فاتبعني إلى منزلي، وقال لي كذا وكذا؛ وأعاد ما جرى بيني وبينه، وأنا تائب عن قولي بالأمس، وراجع عنه إلى الحق؛ فمن سمعه ممن حضر فلا يعول عليه، ومن غاب فليبلغه من حضر؛ فجزاه الله خيرا، وجعل يحفل في الدعاء، والخلق يؤمِّنون".

ثم علـَّق الإمام ابن العربي -رحمه الله- على هذا الموقف قائلاً: "فانظروا -رحمكم الله- إلى هذا الدين المتين، والاعتراف بالعلم لأهله على رءوس الملأ من رجل ظهرت رياسته، واشتهرت نفاسته، لغريب مجهول العين لا يعرف مَن ولا مِن أين، فاقتدوا به ترشدوا" اهـ.

فأين أهل زماننا -إلا مِن رحم الله- من هذه الأخلاق وتلكم الفضائل؟! صار أكثر ما نراه ونسمعه الجرح والتجريح.

بل قد صار بعض الكبار من أهل العلم يقع فيما يتنزه عنه بعض صغار طلبة العلم، ويسمع ويصدق عجائب الأخبار والروايات التي يفوح منها الكذب والزور، ويشيع هذا الكذب وينشره في حق أهل العلم والدعوة إلى الله -تعالى-، ويصر عليه دون بينة! وهذا حتى وإن كان صحيحًا حاصلاً: أين حق المسلم على أخيه في نصيحته والستر عليه، وأين ضوابط الشريعة في الإنكار ومراعاة المصالح والمفاسد؟! لماذا تهدر كل هذه الضوابط في حق البعض "على وجه الخصوص" وتراعى ربما حتى مع الفساق أنفسهم؟!

وإن مما لا ينازع فيه أحد الآن أن مِن أكثر الرموز الإسلامية -إن لم يكن أكثرهم بالفعل- تعرضًا لحملات التشويه الممنهجة والقصف المتواصل عبر كافة الدوائر من الداخل والخارج - هو فضيلة الشيخ د."ياسر برهامي" -(ولا يخفى على أحد أن المراد ليس فقط شخص الشيخ ياسر، وإنما هي بداية فحسب بشخصنة الدعوة السلفية حتى يسهل هدمها وإزالة كيانها بالكلية بعد ذلك، وإنما الشيخ "ياسر" الباب ومَن نَقَـر على الباب فقد أراد الدخول، تمامًا كما سعت جماعة الإخوان لتجعل بديلاً من بعض الدعاة يقوم على أنقاض الدعوة السلفية، يعمل تحت مظلتها الفكرية ورؤيتها السياسية فلم يمكِّنها الله من ذلك)-.

- حتى وصل الحال إلى اتهام الشيخ بالعمالة لأمن الدولة! فيا لله العجب! عميل لأمن الدولة وهم يعدونه ويسمونه: "أخطر رجل في مصر وضد مصر!" وكذبوا -(نشرت روزا اليوسف الناطقة باسم نظام مبارك البوليسي ذلك كتوطئة وتمهيد كالمعتاد لضربة أمنية جديدة قبل تدخل أمن الدولة بتنفيذ المطلوب، وهذا بالتزامن مع دعوات تحريضية من بعض الدعاة المنحرفين عن منهج أهل السنة والجماعة يحرضون فيها النظام على قتل الشيخ ياسر والتخلص منه، وأنه حلال الدم!)-، عميل لأمن الدولة وهو يسجن ويعتقل مرارًا غير التضييق والحصار المستمر المضروب حوله وعليه... ! فأين يذهبون؟!

- ووصل الحال إلى أن كتب الأستاذ "الراشد" -وهو ليس من أهل مصر ولا من سكانها-، كتابًا عجبًا يتكلم فيه عن الدعوة السلفية وحزب النور، وعن قائدهم الشيخ "برهامي" الذي يزعم أنه تلقى ملايين الدولارات للعمل على إسقاط النظام الإخواني، إلى غير ذلك من الافتراءات التي لا شبهة دليل أو بينة عليها! ولا شك أن فساد هذه الادعاءات يغني عن إفسادها؛ وإلا فإن كل المراقبين والناظرين يعلمون جيدًا، ويشهدون أن الدعوة السلفية ليس لها مصادر مادية إلا بالجهود الذاتية.

- ووصل الحال بالشيخ الكبير "عبد الرحمن عبد الخالق" -غفر الله له ورده إلى الصواب ردًّا جميلاً- أن ذكر في أكثر من بيان الشيخَ "ياسر" بأقذع الأوصاف ورماه بأشنع التهم الباطلة، ووصفه بأنه عراب الانقلاب، وأنه أفتى بقتل المتظاهرين، ومِن عجب أن دعاة الشيخ "ياسر" إلى المباهلة فلم يستجب، ثم كرر الدعوة إليه وكانت المفاجأة الصادمة أنه أيضًا لم يستجب لطلبه! فلا ندري إن كان واثقًا ويتعبد لله بما ذكره من التحذير من الشيخ "ياسر"؛ فلمَ لا يستجيب لمباهلته، وإن كانت الأخرى؛ فلم لا يعتذر عن اتهاماته وإهاناته؟!

- وروَّج البعض -كالشيخ "القرضاوي"- لفرية ذهاب الشيخ إلى جهاز الشئون المعنوية للقوات المسلحة للإفتاء والتحريض على قتل المتظاهرين، رغم أن محترفي التسريبات لم يأتوا بكلمة واحدة -فضلاً عما فوقها من تصوير أو نحوه- تدل على زعمهم هذا، في الوقت الذي ظهر فيه البعض يتكلم بذلك أمام الناس بالصوت والصورة، ومع ذلك لا يزال البعض ينشر ذلك الإفك!

وإذا كان الحال كذلك، وكان هناك مَن يكذب ويزيف ويزور...

وهناك مَن يسمع ويصدِّق ذلك الإفك، بل ويؤكد وينشر...

وهناك مَن يستنكر دفع الباطل والظلم عن المظلوم، ويتهم مَن يذب عن أعراض المسلمين وعلمائهم بالحزبية والعصبية الجاهلية، بل والعبودية لهم أحيانًا! -(هذا في الوقت الذي وصلت به العصبية الحزبية الحقيقية بأمثال هؤلاء إلى درك محاولة طمس جهد العلماء وحذف دروسهم وتاريخهم الدعوي -كما يتصورون بصنيعهم ذلك- حيث قام أحد أكبر المواقع الإسلامية على شبكة الإنترنت في واقعة لا ينتهي منها العجب بحذف دروس ثاني صاحب أكبر صفحة وعدد لدروس ومحاضرات وسلاسل علمية كاملة وهو د."ياسر برهامي"، ولا ندري: هل يرون فيها فسادًا وإفسادًا، وشرًّا وضلالة... فلماذا سعوا إلى وضعها أولاً؟ ولماذا أعادوها ثانيًا بعد ذلك، وهذا يقع في الوقت الذي يعج به الموقع بالكثير من أصحاب الأهواء والأفكار المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة من محاضرات وغيرها، ولم يسعَ أحد إلى الآن إلى حذفها أو حتى تنقيتها! فليس إلا الخلاف السياسي والعصبية والهوى)-.

وهناك مَن يغتر بكل أولئك...

فكان لابد لنا من تلك الوقفة في التواصي بالإنصاف والرجوع إلى الحق والاعتراف بالخطأ، ونصرة أهل الحق والذب عنهم، وتوجيه رسالة إلى عامة المسلمين (وخصوصًا أهل العلم منهم).

ولا تجعلنا تهاويل المهولين واتهاماتهم الباطلة بالعصبية والتبعية والعبودية أن نـَفـْرَق من نصرة الحق وأهله؛ فرارًا من أقوالهم وتسمياتهم -التي يضعونها في غير موضعها-.

وإن المقصود ليس مجرد إنصاف رجل من أهل العلم والدعوة إلى الله فحسب، وإنما في المقام الأول الحفاظ على المنهج الذي يمثـِّله هذا العالِم وينافح عنه.

وقد كان السلف -رحمهم الله- يعدون الطعن على أهل السنة والمنافحين عنها من علامات أهل البدع والضلال, بل قد يعدون الرجل من أهل البدع بمجرد طعنه عليهم, قال أبو زرعة -رحمه الله-: "إذا رأيت الكوفي يطعن على سفيان الثوري وزائدة: فلا تشك أنه رافضي, وإذا رأيت الشامي يطعن على مكحول والأوزاعي: فلا تشك أنه ناصبي, وإذا رأيت الخراساني يطعن على عبد الله بن المبارك: فلا تشك أنه مرجئ, واعلم أن هذه الطوائف كلها مجمعة على بغض أحمد بن حنبل؛ لأنه ما من أحد إلا وفي قلبه منه سهم لا برء له" (طبقات الحنابلة).

- وقال نعيم بن حماد -رحمه الله-: "إذا رأيت العراقي يتكلم في أحمد بن حنبل فاتهمه في دينه, وإذا رأيت البصري يتكلم في وهب بن جرير فاتهمه في دينه, وإذا رأيت الخراساني يتكلم في إسحاق بن راهويه فاتهمه في دينه" (تاريخ بغداد).

- وقال قتيبة بن سعيد -رحمه الله-: "إذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلم أنه صاحب سنة وجماعة". وبالمقابل قال الغلاّس -رحمه الله-: "إذا رأيت الرجل يقع في أحمد بن حنبل, فاعلم أنه مبتدع".

ولم يكن هذا عصبية للعلماء أو تقديسًا لهم؛ وإلا فلا يزال العلماء وتلامذتهم عبر العصور يخالفون هؤلاء الأئمة كأحمد وغيره في كثير من المسائل ويرون الراجح في خلافها، بل حتى مِن أتباع المذهب نفسه؛ فما كان ذلك إلا لأن هؤلاء رموز للسنة يُقتدى بهم ويُتبعون على المنهج الحق، والإمام أحمد -رحمه الله- صار رمزًا من رموز السنة، ما يحبه إنسان إلا لأنه يحب دينه، ويحب عقيدته، ويحب مذهبه، ويحب صبره، ويحب ما كان عليه، والذي يبغض أحمد إنما يبغضه لدينه ومسلكه ومذهبه، وما كان عليه.

ومن هذا الباب: ما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ).

وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيَّ: أَنْ لا يُحِبَّنِي إِلا مُؤْمِنٌ، وَلا يُبْغِضَنِي إِلا مُنَافِقٌ".

فأبناء الشيخ ياسر وتلامذته -بفضل الله- لا يتعصبون له لمجرد اسمه أو منصبه، وهو قد علم -بغرسه الطيب- أنه لو خالف الحق -نسأل الله له الثبات وحسن الخاتمة- فإننا لن نتابعه على خطأ ظاهر كما علـَّمنا هو ذلك، وعلمنا ما يسوغ فيه الخلاف وما لا يسوغ، وقد خالفنا غيره من شيوخ هذه الدعوة الذي تغير عليها وتخلى عن منهجها ورمى أبناءها وفي مقدمتهم الشيخ ياسر بأنهم عملاء لأمن الدولة -نسأل الله أن يرد إلينا الشيخ سعيد عبد العظيم ردًّا جميلاً وأن يصلح ذات بيننا وبينه- (هذا مع أنه صاحب المقال المشهور: (أبشر يا شيخ ياسر بما يسرك) والذي نشر في موقع صوت السلف قبل ثورة "25 يناير" بتاريخ: (18 يناير 2011م)، في تسلية حارة لرفيق دربه الشيخ ياسر، وكأنها زفرة مودع يرى بلحاظ الرأي ما بين السطور وما وراء الستور، ويعلم أن رفيق الدرب -د."ياسر برهامي"- قاب قوسين أو أدنى من ضربة أمنية موجهة إليه... بعد ما قامت روزا اليوسف بحملتها الشهيرة على الشيخ ياسر، ووصفته بأنه أخطر رجل في مصر، وضد مصر؛ فكيف بالله يكون من عملاء الأمن، وقد شهد له أعظم شهادة بأنه من أهل العلم والفضل والخير، والدعوة إلى الله؟!).

فإلى الأفاضل من أهل العلم والدعوة إلى الله:

أنصفوا يرحمكم الله...

قال الله -تعالى-: (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا(الأنعام:152)، وقال: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ(المائدة:8)، وقال: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(الحجرات:9)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا)(رواه مسلم).

- كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما-: "لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك - أن ترجع فيه إلى الحق، فإن الحق قديم، والرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل" (رواه البيهقي والدارقطني).

وإني وإن كنتُ صغيرًا ضئيلاً إلى جواركم... فقد قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "كان أئمة السلف المجمع على علمهم وفضلهم يقبلون الحق ممن أورده عليهم وإن كان صغيرًا، ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق إذا ظهر في غيره قولهم" (الفرق بيْن النصيحة والتعيير).

- وقال الإمام الآجري في أخلاق العلماء: "إن أَفتى بمسألة فعلم أنه أخطأ لم يستنكف أن يرجع عنها، وإن قال قولاً فرده عليه غيره ممن هو أعلم أو مثله أو دونه؛ فعلم أن القول كذلك، رجع عن قوله وحمده على ذلك، وجزاه خيرًا".

- وقال محمد بن سيرين -رحمه الله-: "ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم، وتكتم خيره"، فكيف إن لم يثبت عندكم سوء أصلاً؟!

ولا تكونوا -رحمكم الله-  ممن قال فيهم الإمام الشعبي -رحمه الله-: "والله لو أصبتُ تسعًا وتسعين مرة، وأخطأت مرة؛ لأعَدّوا عليَّ تلك الواحدة ".

وإلى شيخنا المبارك د."ياسر برهامي":

الذي يجوب البلاد شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا يدعو إلى الله، ولا تأخذه في الله لومة لائم... إلى شيخنا الذي برهن لنا أن هناك رجالاً تخلوا عن التنافس على الدنيا وتبادل الاتهامات، وترفـَّعوا عن مقابلة السيئة بالسيئة، ولم يعد يعنيهم إلا أمر دينهم وإسلامهم؛ فأكرمهم الله -تعالى- وجعلهم رموزًا للسنة، بها يُعرفون وإليها يُنسبون.

إلى شيخنا الذي يعلمنا كيف تكون الهمة العالية، وكيف يكون البذل في سبيل الله، وكيف يكون الداعي إلى الله المخلص له، كعملاق يطأ أقزام التثبيط والإرجاف بقدمه، ويمضي في طريقه قدُمُا.

نقول لك: جزاك الله عنا خيرًا.

ولقد حق قولُنا -إن شاء الله وبلا عصبية ولا هوى-: لقد أصبح شيخنا الحبيب د."ياسر برهامي" -ختم الله له بخاتمة السعادة والخير- علامة فارقة في تاريخ الصحوة الإسلامية المعاصرة؛ شاء مَن شاء، وأبى مَن أبى، ولا أدل على ذلك مما جعل الله له من نشر العلم والدعوة على يديه، والقبول والحب في نفوس المؤمنين، والشفقة على أهل الإسلام، وسعيه في مصالحهم، وحفظ دمائهم وأعراضهم.

ولقد أوشك -فيما نرى من فضل الله ومنته- أن يأتي زمان يُقال فيه: "إذا رأيتَ الرجل يبغض ياسرًا؛ فاتهمه على دينه".

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهدك أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.


www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي