الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

خيانة أم نصيحة... ؟! (1)

اقرأ أولاً بهدوء بنود هذه المعاهدة... والتي كانت بيْن طرف يسمى "مسلمًا" وطرف صليبي

خيانة أم نصيحة... ؟! (1)
محمد إسماعيل أبو جميل - عثمان المنشاوي
الثلاثاء ٢٠ مايو ٢٠١٤ - ١٨:٤٤ م
4120

خيانة أم نصيحة... ؟! (1)

كتبه/ محمد إسماعيل أبو جميل - عثمان المنشاوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقبل أن تبني حكمًا متسرعًا... !

اقرأ أولاً بهدوء بنود هذه المعاهدة... والتي كانت بيْن طرف يسمى "مسلمًا" وطرف صليبي -(النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية لابن شداد ص 342-349, البستان الجامع لعماد الدين الأصفهاني ص603-605، تاريخ بيت المقدس للبطريرك جاكوب الفيتري ص 168، وانظر تفصيل المعاهدة في عيون الروضتين في أخبار الدولتين: النورية والصلاحية لأبي شامة ص190-191)- مستحضرًا أن هذه البنود جاءت بعد ظفر للمسلمين، وعز وإدالة على الصليبيين "هكذا قالوا لنا في التاريخ!".

وهذه البنود هي:

1- أن يُترك للنصارى "الصليبيين" حق الحج للقدس بحُرية -بعد أن دنسوها حوالي 90 عامًا ثم انتزعها منهم المسلمون-، وبغير أن يعارضهم أحد، وبغير ضريبة ولا رسم ولا مكس.

2- أن يترك للصليبيين حق المرور الآمن في بلاد المسلمين -أي رغمًا عن المسلمين، ولا يستطيعون منعهم- على الرغم مِن أن الصليبيين لا تزال أيديهم تقطر منها دماء المسلمين في الأقصى وبلاد الشام، والعكس!

3- أن يخرب قائد المسلمين "بنفسه" حصون المسلمين في عسقلان -آخر وأعظم وأصعب مدينة عجز عن اختراقها الصليبيون- فيخربها بنفسه، ويزيل هذا المانع الأخير من طريق الصليبيين، مع الحفاظ على أن يكون سكناها للمسلمين.

4- أن يعطي المسلمون نصف مدينة "اللد"، ونصف مدينة "الرملة" للصليبيين، ويسلموها لهم بعد أن كانت في حوزة المسلمين.

5- يكون للصليبيين المدن الساحلية من "صور" إلى "يافا"، بما فيها: "قيسارية، وحيفا، وأرسوف، وعكا"، والأعمال التابعة لكل مِن هذه البلاد.

6- المهادنة بين جيش المسلمين "صاحب الانتصارات والظفر" -هكذا أخبرنا التاريخ- وبين جيش الصليبيين 3 سنوات و3 أشهر، أي مدة رائعة ليأتي لهم المدد الكافي من أوروبا، ويعيدوا ترتيب جيوشهم، ثم... !

هذه هي بنود تلك المعاهدة، وبالطبع فالحكم الأَولي على ذلك القائد الذي أبرم هذه المعاهدة -بل والتي كانت بنودها من اقتراحه- هو: "الخيانة - موالاة أعداء الله - الكفر - الفسق - الركون للذين ظلموا - ... !".

ولكن لتقرأ المعاهدة مرة أخرى بعد أن تعرف طرفي المعاهدة، والظروف والملابسات التي أحاطت بها:

- التاريخ: "22 شعبان 588 هـ - 2 أبريل 1192م" (تاريخ ابن خلدون 5/ 392).

- قائد المسلمين: الناصر "صلاح الدين" يوسف الأيوبي.

- قائد الصليبيين: ملك بريطانيا "ريتشارد الأول" قلب الأسد.

حقيقة المشهد

1- حالة "الجيش المسلم":

- سقوط عكا "نتيجة الهزيمة بعد شدة القتال والحصار، وليس نتيجة الخيانة كما أشيع" (تاريخ ابن خلدون 5/ 387-388, النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية لابن شداد ص 244، تاريخ بيت المقدس للبطريرك جاكوب الفيتري ص 164, عيون الروضتين في أخبار الدولتين: النورية والصلاحية لأبي شامة 3/ 186, أخبار بني أيوب لابن واصل 2/ 355، البداية والنهاية 12/ 318).

- سقوط أكبر مساعدي "صلاح الدين" أسرى لدي الملك "فيليب" ملك فرنسا، والملك "ريتشارد" ملك إنكلترا "الأمير المشطوب الهكاري أمير عكا، والأمير قراقوش" (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية لابن شداد ص 244).

- مقتل أكثر من 3000 أسير مسلم ظلمًا وغدرًا، ورغم ذلك فلم يعتدِ "صلاح الدين" على الأسرى الذين هم في يده، بل وأرسل الثلج والفاكهة لريتشارد أثناء مرضه، بل وأرسل له طبيبه الخاص! (تاريخ ابن خلدون 5/ 388, البداية والنهاية 12/ 320-324, النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية لابن شداد ص 246-248، أخبار بني أيوب لابن واصل 2/ 355، الكامل في التاريخ لابن الأثير 10/ 207).

- سقوط حيفا ثم قيسارية في يد الصليبيين بعد ما خربها المسلمون حتى لا ينتفع بها الصليبيون (الحرب الصليبية الثالثة 2/ 52-60- 68, النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية لابن شداد ص 263).

- هزيمة الجيش الإسلامي أمام "ريتشارد" قلب الأسد في معركة "أرسوف" هزيمة مُنكرة راح ضحيتها أكثر مِن سبعة آلاف مسلم، ولم يُقتل من الصليبين إلا أقل من عُشر العُشر! (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية لابن شداد ص 275-277, الكامل لابن الأثير 10/ 98-99, الحرب الصليبية الثالثة 2/ 73-91, تاريخ ابن خلدون 5/ 388).

- هزيمة المسلمين وانسحابهم من "معركة يافا" أمام الصليبيين بعد أن كانوا منتصرين في أول المعركة (الكامل لابن الأثير 10/ 217, النوادر السلطانية لابن شداد ص 322-337، تاريخ الحروب الصليبية محمد سهيل طقوش ص 514-515).

2- حالة البيت من الداخل:

- الصراع بين الأمراء الأكراد والأمراء التركمان في الجيش (الكامل لابن الأثير 10/ 217, تاريخ ابن خلدون 5/ 390, النوادر السلطانية لابن شداد ص 322, 348-349, البداية والنهاية 12/ 323-324).

- رفض الأمراء لمقترحات "صلاح الدين" بأن يمكثوا داخل أبواب القدس ليدافعوا عنها ضد "ريتشارد" (الكامل لابن الأثير 10/ 217, تاريخ ابن خلدون 5/ 390, النوادر السلطانية لابن شداد ص 32, البداية والنهاية 12/ 323-324).

- الإرهاق الشديد والتذمر داخل الصفوف بسبب الحرب المستمرة لمدة 3 أعوام متتالية (النوادر السلطانية لابن شداد ص 322، البداية والنهاية لابن كثير 12/ 323-324).

- بدء حدوث خلافات أسرية داخل أسرة "صلاح الدين" (الكامل في التاريخ لابن الأثير 10/ 216, تاريخ ابن خلدون 5/ 385).

- مرض صلاح الدين وبادية شعوره بالإرهاق والنسيان (الجيش الأيوبي، محسن حسين، ص 469).

- اشرأبت فلول الفاطميين بأعناقهم منتظرين غفلة من "صلاح الدين" لينتفضوا "وبالأخص بالصعيد" (خطط المقريزي، البستان الجامع للأصفهاني، ص 440 , كنز الدرر لابن أيبك الدواداري، أخبار بني أيوب).

3- موقف العلماء:

- موقف مَن كان حيًّا مِن أهل العلم والفضل، ومَن جاء بعدهم:

أ‌- قال الإمام "الذهبي" -رحمه الله-: "قال القاضي بهاء الدين بن شداد: قال لي السلطان في بعض محاوراته في عقد الصلح: أخاف أن أصالح، وما أدري أيش يكون مني، فيقوى هذا العدو، وقد بقيت لهم بلاد، فيخرجون لاستعادة ما في أيدي المسلمين، وترى كل واحد من هؤلاء -يعني أخاه وأولادهم- قد قعد في رأس تله -يعني قلعته- ويقول: لا أنزل، ويهلك المسلمون. قال ابن شداد: فكان -والله- كما قال! اختلفوا، واشتغل كل واحد بناحيته وبَعُد، فكان الصلح مصلحة" (سير أعلام النبلاء، الطبقة الحادية والثلاثون 25/ 416-417).

ب‌- أما "القاضي الفاضل": فإن "صلاح الدين" ما قطع أمرًا مِن دون مشورته، وقد أورد "أبو شامة" في الروضتين آثار سعادة الفاضل بالصلح، وثناءه على الناصر لأجل ذلك، وما ورد عن الفاضل إلا كل ثناء عن "صلاح الدين" وأعماله، وكان هو كاتبه الأثير لديه ووزيره، ونائبه ومحل ثقته (النوادر السلطانية لابن شداد 4/ 193).

ت‌- ورد عن "ابن شداد" تعليقه على الصلح بقوله: "وما كان الصلح إلا توفيقًا وسعادة" (النوادر السلطانية لابن شداد ص 349).

ث‌- وأورد "ابن الأثير الجزري" في كتابه: "الكامل في التاريخ" ذكر الهدنة، وأورد أنه لما تمت الهدنة تفرغ "صلاح الدين" لإصلاح "القدس" وأسوارها، والبلاد، ثم ذكر فرح أهل دمشق به عند دخوله إليها، وأورد عبارات الثناء والمدح على شخص "صلاح الدين"، وكأنه دخلها منصورًا مُظفرًا (الكامل في التاريخ لابن الأثير 10/ 218-219).

ج‌- ذكر "ابن خلدون" -رحمه الله- في تاريخه الصلح مختصرًا، ثم أورد بعده تفرغ "صلاح الدين" لإصلاح أسوار القدس ودخوله دمشق، قائلاً: "وسرّ الناس بقدومه، ووهن عدوه"، وأثنى عليه (كتاب العبر 5/ 392-393).

ح‌- ذكر الإمام "ابن كثير" -رحمه الله- وقائع الصلح، وتأسف لعدم إطاعة الجند لـ"صلاح الدين"، وذكر ما جرى بعدها قائلاً: "وفرح الجانبين فرحًا شديدًا، وأظهروا سرورًا كثيرًا"، ثم ذكر إكرام "صلاح الدين" لرؤوس الصليبين، وإطعامه لهم، وعمل السماط "موائد الطعام" لهم في القدس، وهو يثني على "صلاح الدين" ولا يذكره إلا بالخير، ثم يرثيه بعدها بأفضل الرثاء، ويثني عليه خير ثناء (البداية والنهاية 12/ 234-325).

خ‌- روى "ابن كثير" أن آل المقدسي "محمد بن أحمد بن قدامة وأخوه، وابن خاله الحافظ عبد الغني المقدسي، والشيخ العماد" لا ينقطعون عن غزاة فيها "صلاح الدين"، وقد حضروا معه فتح القدس والسواحل وغيرها، وما ورد شيئًا في التاريخ عن هؤلاء إلا كل خير عن الناصر "صلاح الدين" (البداية والنهاية 13/ 39).

د‌- روى "أبو شامة" -رحمه الله- في الروضتين تفاصيل الصلح، وأن "صلاح الدين" قدَّم المصالحة "على الرغم من شدة الشروط"، وقال: "وكانت مصلحة علمها الله، وكان الصلح توفيقًا وسعادة من الله" (عيون الروضتين في أخبار الدولتين: النورية والصلاحية لأبي شامة، ص 193).

ذ‌- أورد "أبو شامة" أبياتًا شعرية في الثناء على "صلاح الدين" وصلح الرملة لبعض أهل العلم كـ: ابن المجاور، والأديب والشاعر الشهير بالساعاتي -رحمهما الله- (عيون الروضتين في أخبار الدولتين: النورية والصلاحية لأبي شامة 4/ 191-192).

ر‌- ورد ذكر "صلاح الدين" مصحوبًا بالثناء، وباسم "ملك السُّنة" عند شيخ الإسلام وابن القيم -رحمهما الله-، ولم يتناوله أحدٌ منهما مطلقًا بالذم على الرغم مِن شهرة "صلح الرملة" وآثاره المشهودة.

ز‌- تناول العديد من المعاصرين ذكر صلح الرملة: كالسويدان، وطقوش، والصلابي، ولم يذكره أحد بسوء.

س‌- لم نرَ مَن ذم صلح الرملة مِن المعاصرين أو المتأخرين إلا الشبكة العقائدية؛ إحدى مراجع الرافضة، وقد وصفوا "صلاح الدين" -رحمه الله- بأنه طالب سلطة، وخائن، وعميل؛ لأنه صالح الصليبيين وتخلى عن بعض بلاد المسلمين ولم يكمل الفتوح، واستهزءوا باستدلاله بتحقيق مصلحة البلاد وقتها!

4- رأي التاريخ:

- هذه المعاهدة أتاحت فرصة أخيرة للمسلمين، ولـ"صلاح الدين" لالتقاط أنفاسه، ولإيقاف جحافل الإنكليز والفرنسيين المنطلقة صوب بيت المقدس، ووقى الله -بفضله- المسلمين شر ضياع الأقصى مرة أخرى (تاريخ الحروب الصليبية لمحمد سهيل طقوش، ص 516-517).

5- رأي أعداء الله:

- شعور بالخيبة وعدم الانجاز؛ لعدم قدرتهم على إعادة القدس لحوزتهم! (تاريخ العصور الوسطى، رونسيمان 3/ 145).

- حقد يُتوارث من خلال القصائد الشعرية الشعبية.

- ضريبة فرضت في إنجلترا اسمها "ضريبة صلاح الدين Saladin tithe"؛ لتجهيز الجيوش لإعادة القدس للصليبيين! وترجمت هذه الأحقاد لما وصل الجنرال "غورو" لقبر "صلاح الدين" وركله بقدمه صائحًا: "ها قد عدنا يا صلاح الدين!" (صفحات من نضال ثائر، إبراهيم هنانو).

6- وبعد كل هذا... مِن الجدير بالذكر أن تعلم متى تم التحرير التام لبلاد الشام؟!

- خرج آخر جندي صليبي مِن آخر معقل لهم بالشام في "703 هـ - 1303م" -أي بعد 111 عامًا مِن تاريخ هذه المعاهدة- مِن جزيرة "أرواد" السورية المقابلة لساحل "انطرطوس" بعد تحصن لمدة 12 عامًا في عهد المماليك! (تاريخ العصور الوسطى، رونسيمان، ص 312).

إنها السنن لا تحابي أحدًا.

ولكنكم تستعجلون.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي

تصنيفات المادة