الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

تلخيص ميسر لأحكام الصيام في رمضان (1)

ويفرحون به غاية الفرح، وكانوا يستعدون لاستقباله على أتم ما يكون، وهم في غاية الشوق إليه!

تلخيص ميسر لأحكام الصيام في رمضان (1)
محمود عبد الحفيظ
الأربعاء ٢٥ يونيو ٢٠١٤ - ٢٠:٥٩ م
1846

تلخيص ميسر لأحكام الصيام في رمضان (1)

كتبه/ محمود عبد الحفيظ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد كان صفوة الخلق في هذه الأمة مِن الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- وتابعيهم بإحسان، يهتمون بشهر الصيام والقرآن "شهر رمضان" أعظم اهتمام، ويفرحون به غاية الفرح، وكانوا يستعدون لاستقباله على أتم ما يكون، وهم في غاية الشوق إليه!

- قال معلى بن الفضل -رحمه الله-: "كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أخرى أن يتقبل منهم".

- وقال يحيى بن أبي كثير -رحمه الله-: "كان مِن دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وسلِّم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلاً".

وكيف لا يفرحون بشهر تفتح فيه أبواب الرحمة وأبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وتغل فيه الشياطين، وتضاعف فيه الحسنات، وتغفر الخطايا والسيئات؟!

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا كَانَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ) (رواه مسلم)، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لَمَّا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِر) (رواه مسلم)، وقال: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (متفق عليه)، وقال: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (متفق عليه).

(إِيمَانًا): تصديقا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وخبره. (وَاحْتِسَابًا): طلبا للأجر والثواب من الله -تعالى-.

وقال الخطابي -رحمه الله-: "قوله: (إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا): أي: نية وعزيمة، وهو أن يصومه على التصديق به، والرغبة في ثوابه، طيبة نفسه غير كارهة له، ولا مستثقل لصيامه، ولا مستطيل لأيامه، لكن يغتنم طول أيامه لعظم الثواب".

وكيف لا يفرحون بشهر العتق من النيران؟!

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ) (رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).

ولكن مع فرح المسلمين برمضان وسعادتهم بهذا الضيف الكريم واستعدادهم لاستقباله؛ إلا أن كثيرا منهم -للأسف الشديد- لا يعتني بأحكام الصيام، ولا يحسن فقه هذه العبادة، بل هذا الركن من أركان الإسلام "رغم أنه فرض عين على كل مسلم عاقل بالغ -ويصح من المميز- مقيم قادر، ويزداد في حق المرأة أن تكون طاهرة من الحيض والنفاس" - ولهذا كانت هذه الكلمات المختصرة في بعض ما يتعلق بأحكام الصيام في شهر رمضان، وذلك مِن خلال إطلالة سريعة على آيات الصيام في سورة البقرة، وعامة هذه الأحكام -إلا النزْر اليسير، وسيتم التنبيه عليه- مستفاد من شروحات شيخنا الكريم د."ياسر برهامي" -حفظه الله- وسلاسله العلمية وفتاواه.

- "رمضان": مشتق من الرَّمَض، وهو شدة الحر؛ لأن العرب لما أرادوا أن يضعوا أسماء الشهور، وافق أن الشهر المذكور شديد الحر، وقيل: لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها، وهذا ضعيف؛ لأن التسمية به ثابتة قبل الشرع الذي عُرف منه أنه يرمض الذنوب، ولا يصح قول مَن قال بأن "رمضان" مِن أسماء الله -تعالى-؛ لأنه لم يرد في كتاب الله -تعالى- أو سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن رمضان مِن أسماء الله الحسنى.

- وقد فُرض صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وصام النبي -صلى الله عليه وسلم- تسع رمضانات.

- قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة:183-186).

- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا): خطاب محبب مِن الله -تعالى- لأهل الإيمان، فيه الحث لهم على الامتثال والانقياد؛ لأن الصيام مِن الإيمان والعمل الصالح الذي يسارع فيه مَن اتصف بالإيمان وكان مِن أهله.

- (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ): أي فُرض عليكم.

- والصيام لغة هو: الإمساك، ويُستعمل في كل إمساك.

- ويعرَّف شرعًا بأنه:  إمساك عن المفطرات مِن طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس بنية التقرب إلى الله -تعالى-، ويلزم التحري في توقيت الفجر والغروب.

ويتبين مِن التعريف السابق أن للصيام ركنين:

الركن الأول: "الإمساك عن المفطرات مِن طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس":

أجمع أهل العلم على أن مَن فعل شيئًا من هذه المفطرات ذاكرًا مختارًا؛ فقد بطل صومه، والخلاف في الاستمناء وإنزال المني بغير الجماع خلاف شاذ غير معتبر، فالصحيح أن تعمد إنزال المني مبطل للصيام وعليه القضاء؛ لأنه لم يترك شهوته لله -عز وجل-؛ يقول الله -تعالى- كما في الحديث القدسي: (الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ، وَأَكْلَهُ، وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي) (متفق عليه)، ولا تجب الكفارة عند جمهور أهل العلم إلا بالجماع، والرواية التي فيها عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَ رَجُلاً أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ: أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً، أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ، أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا" (رواه مسلم)، هي في الحقيقة قصة واحدة ومخرجها متحد؛ فحمل الجمهور قوله: "أَفْطَرَ" على المقيد بأنه أفطر بجماع أهله (انظر فتح الباري، والجامع لأحكام الصيام للشيخ أحمد حطيبة، ويرى فضيلة شيخنا د.ياسر برهامي في هذه المسألة: وجوب القضاء والكفارة على مَن أفطر متعمدًا -عدا مَن تقيأ عمدًا؛ لأنه لا شهوة في ذلك فعليه القضاء فقط- وهو مذهب مالك وأبي حنيفة -رحمهما الله-)، وأما مَن أُكره على شيء مِن هذه المفطرات أو أكل أو شرب ناسيًا؛ فلا يبطل صومه على الصحيح مِن أقوال العلماء.

وأما الركن الثاني وهو النية:

- فلابد مِن تبييت النية مِن الليل لكل صوم مفروض: "كرمضان، والنذر، والقضاء، والكفارات"؛ وهذا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصوم الواجب: (مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ، فَلا صِيَامَ لَهُ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، بخلاف صوم التطوع فيجوز أن يصبح صائمًا ولو بعد الفجر أو الزوال ما لم يطعم أو يشرب.

- وكذلك لابد مِن تبييت النية لكل ليلة مِن ليالي رمضان -على الصحيح-، ولا تكفي نية واحدة للشهر كله؛ لأن كل يوم عبادة مستقلة.

- وهذه النية لابد أن تكون على علم بدخول الشهر، وعلى سبيل الجزم بعد العلم لا أن تكون على سبيل التردد أو الاحتياط كمن يقول: "إن كان غدًا من رمضان فأنا صائم؛ وإلا كنتُ مفطرًا"؛ فهذا لا يصح.

- والسحور نية، ومَن قام ليشرب قبل أذان الفجر الصادق فقد نوى، ومَن نوى الإمساك عن المفطرات فقد نوى.

- ولا يجوز صيام يوم الشك -وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا لم يُرَ هلال رمضان- على سبيل الاحتياط لرمضان أو الاستقبال له؛ لحديث عمار بن ياسر -رضي الله عنهما- قال: (مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدَ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وصححه الألباني)، وحديث: (لا تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ اسْتِقْبَالاً، صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني)، إلا أن يوافق يوم الشك صومًا كان يصومه الإنسان ويعتاده؛ فيجوز له صيامه؛ لحديث: (لا تُقَدِّمُوا الشَّهْرَ بِصِيَامِ يَوْمٍ، وَلا يَوْمَيْنِ إِلا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

- ويثبت دخول شهر رمضان: بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا، أو برؤية الهلال؛ وهذا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ) (رواه البخاري ومسلم). (غُبِّيَ عَلَيْكُمْ): مِن الغباوة وهي عدم الفطنة، وهو استعارة لخفاء الهلال.

فدل ذلك على أنه لا يُعمل ولا يعتد بالحساب المجرد دون رؤية بصرية؛ فإن رؤية الهلال التي علَّق النبي -صلى الله عليه وسلم- الحكم عليها أخص مِن وجوده، فهو لم يقل -صلى الله عليه وسلم-: "صوموا لوجود الهلال أو ثبوته"، وإنما قال: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ)، وإن كان لا بأس مِن النظر في الحساب مع ذلك؛ فإن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا). يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَمَرَّةً ثَلاَثِينَ. (متفق عليه)، لا يفيد تحريم العمل بالحساب أو تعلمه؛ فإن الحِسَاب إن كان قطعيًّا متواترًا واتفق الحسَّاب عليه أفاد في نفي وجود الهلال وتخطئة الشهود لا في إثبات دخول الشهر؛ حيث يُحكم بدخول الشهر -وفق الشرع- بإكمال العدة ثلاثين يومًا أو برؤية الهلال بطريق الحس والمشاهدة بالعين الباصرة؛ إذ العلة في وجوب الصوم هي المشاهدة ورؤية الهلال بصريًّا، وليس مجرد وجوده علميًّا في السماء مِن غير رؤية حسية بالعين.

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ): هذه أمية مخصوصة فيما يتعلق بأمر العبادات والتكاليف الشرعية، أنها مِن سماحتها ويسرها لا تتوقف على حساب أو كتاب.

قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في شرحه على صحيح البخاري: "فتبين أن ديننا لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، كما يفعله أهل الكتاب مِن ضبط عباداتهم بمسير الشمس وحسباناتها، وأن ديننا في ميقات الصيام معلق بما يُرى بالبصر -وهو رؤية الهلال-، فإن غم أكملنا عدة الشهر ولم نحتج إلى حساب، وإنما علق بالشمس مقدار النهار الذي يجب الصيام فيه، وهو متعلق بأمر مشاهد بالبصر -أيضًا-، فأوله طلوع الفجر الثاني، وهو مبدأ ظهور الشمس على وجه الأرض، وآخره غروب الشمس، كما علق بمسير الشمس أوقات الصلاة، فصلاة الفجر أول وقتها طلوع هذا الفجر، وآخره طلوع الشمس، وأول وقت الظهر زوال الشمس، وآخره مصير ظل كل شيء مثله، وهو أول وقت العصر، وآخره اصفرار الشمس أو غروبها، وهو أول وقت المغرب، وآخره غروب الشفق، وهو أول وقت العشاء، وآخره نصف الليل أو ثلثه، ويمتد وقت أهل الأعذار إلى طلوع الفجر، فهذا كله غير محتاج إلى حسابٍ ولا كتاب".

- ويكفي في ثبوت هلال رمضان بالرؤية البصرية: شهادة عدل واحد مِن المسلمين -على الراجح-، وهو قول جمهور أهل العلم كما هو ظاهر حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلالَ، فَرَأَيْتُهُ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ" (رواه أبو داود، وصححه الألباني). "وعند جماعة مِن العلماء يلزم شهادة عدلين من المسلمين كسائر الشهور، وهو آخِر ترجيح شيخنا الكريم د.ياسر برهامي؛ لحديث: (فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فَصُومُوا، وَأَفْطِرُوا) (رواه النسائي، وصححه الألباني)".

- والعبرة في الصوم بحال البلد الذي فيه الإنسان: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال: (فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمُ تُضَحُّونَ، وَعَرَفَةُ يَوْمَ تُعَرِّفُونَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، ولم يكن الصحابة -رضي الله عنهم- يتكلفون في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا بعده أن يبنوا عملهم على عمل أهل البلاد الأخرى، بل قد علموا في أثناء الشهر أن البلاد اختلفت في رؤية الهلال، ومع ذلك عمِل كل أهل بلد برؤيتهم، فعن كريب -رحمه الله-: أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ، بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، قَالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ، فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا، وَاسْتُهِلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الْهِلالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلالَ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلالَ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ، وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: "لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلاثِينَ، أَوْ نَرَاهُ، فَقُلْتُ: أَوَ لا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟ فَقَالَ: "لا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (رواه مسلم).

فهذا تطبيق عملي من الصحابة -رضي الله عنهم- لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ) يدل على أن أهل كل بلد لهم رؤيتهم الخاصة بهم، وقد ذكر الترمذي -رحمه الله- بعد روايته لهذا الحديث في سننه أن العمل على هذا عند أهل العلم، فقال -رحمه الله-: "حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا الحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّ لِكُلِّ أَهْلِ بَلَدٍ رُؤْيَتَهُمْ".

- فمن سافر إلى بلد ما أو لعمرة أو غيرها فإنه يصوم مع أهل البلد الذي هو فيه، ويفطر معهم، وكذلك إذا عاد إلى بلده فيصوم ويفطر معهم؛ للحديث السابق: (الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ).

- (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ): أي في جملة أحكام الصيام، وإن كانت بعض الصفات مختلفة كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَكْلَةُ السَّحَرِ) (رواه مسلم)، لكنهم بدَّلوا وغيروا حتى صار صومهم مجرد امتناع عن بعض الأطعمة دون بعض مع كونهم يأكلون ويشربون ويعاشرون النساء مع زعمهم أنهم صائمون!

ولا يلزم مِن الآية الكريمة أن يكون "رمضان" قد افترض عليهم، بل الظاهر أنه مِن خصائص أمة الإسلام؛ فإنه لم يذكر في كتب اليهود والنصارى، ولم يشتهر عنهم كما اشتهر صوم عاشوراء عن اليهود. والله أعلم.

- (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ): فالتقوى هي الغاية التي خلق الله الخلق مِن أجلها، فكما خلق الله الناس ليعبدوه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، فقد خلقهم كذلك ليتقوه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21)، والتقوى كما قال طلق بن حبيب -رحمه الله-: "أن تعبد الله على نور مِن الله ترجو ثواب الله, وأن تجتنب معصية الله على نور مِن الله تخشى عقاب الله".

- (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ): قد مرَّ فرض الصيام في الإسلام بمراحل، حيث كان الصوم المفروض في أول الإسلام صيام ثلاثة أيام مِن كل شهر مع يوم عاشوراء، وكان الإنسان مخيرًا بيْن الصيام وبين الفدية، فهذه هي الأيام المعدودات -خلافا لمن ظن أنها رمضان-، ثم نسخ بفرض صوم رمضان وجوب صوم الأيام الثلاثة من كل شهر وصوم يوم عاشوراء، وبقي استحباب صيام هذه الأيام من كل شهر، مع استحباب صوم عاشوراء، كما نسخ جواز التخيير بين الصيام والفدية لعموم الناس، وبقيت الرخصة لمن شق عليه الصيام مشقة شديدة: "كالشيخ الكبير - والمرأة العجوز - والحامل - والمرضع".

وكان يحرم على الصائم الأكل والشرب والجماع مِن حين النوم بعد المغرب أو العشاء الآخرة؛ فأي ذلك وقع منه أولاً مِن النوم أو وقت العشاء الآخرة حصل به التحريم، ثم نسخ ذلك، وأبيح الجميع إلى طلوع الفجر سواء نام الإنسان أم لا؛ فضلاً ورحمة من الله -تعالى-.

- (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا): المقصود بالمرض: المرض الذي يشق معه الصيام أو يزيد بالصيام أو يتأخر معه الشفاء، فمن كان كذلك جاز له الفطر، فالصحيح أن العبرة بما ذكرنا، وليس أن أي مرض يجوز معه الفطر كما قال به بعض العلماء؛ لأن الإنسان لا يكاد يخلو مِن مرض.

(أَوْ عَلَى سَفَرٍ): أي السفر الذي تقصر في مثله الصلاة، شريطة أن يكون سفر طاعة أو سفرًا مباحًا، وليس سفر معصية كمن يسافر إلى أماكن المعاصي في رمضان؛ فيشاهد المنكرات والمحرمات، ومشاهد التبرج والانفلات؛ فمثل هذا السفر غير مأذون فيه، فلا يجوز لصاحبه أن يترخص فيه برخص السفر مِن: القَصْر، والفِطْر، والمسح على الخفين، ونحو ذلك.

- ومتى نوى المسافر الإقامة أكثر مِن ثلاثة أيام غير يومي الدخول والخروج أو ما يقدر بنحو "21 صلاة" فإنه يكون في حكم المقيم، وذلك مِن أول دخوله البلد التي يقيم فيها، ولا يجوز له الترخص برخص السفر مِن القَصْر، والفطر إلا في الطريق ذهابًا وعودة.

- ولا يجوز لمن عزم على السفر أن يعزم الفطر قبل ذلك ليلاً وأنه يصبح مفطرًا؛ لأنه لا يزال مقيمًا فيلزمه الصوم، والمسافر لا يبدأ أصلاً بالترخص برخص السفر إلا بعد مفارقة عامر قريته؛ لأنه يكون ضاربًا في الأرض فيجوز له الفطر وإن كان يرى البيوت؛ لحديث عبيد بن جبْر -رحمه الله- قال: رَكِبْتُ مَعَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفِينَةٍ مِنَ الْفُسْطَاطِ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ قَرَّبَ غَدَاءَهُ ثُمَّ قَالَ: اقْتَرِبْ، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ تَرَى الْبُيُوتَ؟ فَقَالَ أَبُو بَصْرَةَ: "أَرَغِبْتَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟!" (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، فلابد أن ينوي أنه يصبح صائمًا، ثم إذا سافر خارج البنيان مِن محلته أو قريته فله أن يفطر.

- وقوله -تعالى-: (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) يشمل كل ما سُمي سفرًا عرفًا، وما ورد مِن أحاديث فيها ذكر المسافة؛ فقد وقعتِ اتفاقًا لا نصًّا مِن النبي -صلى الله عليه وسلم- على اعتبارها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يَخْتَصُّ بِسَفَرٍ دُونَ سَفَرٍ؟ أَمْ يَجُوزُ فِي كُلِّ سَفَرٍ؟ وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي كُلِّ سَفَرٍ قَصِيرًا كَانَ أَوْ طَوِيلاً، كَمَا قَصَرَ أَهْلُ مَكَّةَ خَلْفَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَرَفَةَ وَمِنًى، وَبَيْنَ مَكَّةَ وَعَرَفَةَ نَحْوَ بَرِيدِ أَرْبَعِ فَرَاسِخَ. وَأَيْضًا فَلَيْسَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَخُصَّانِ بِسَفَرٍ دُونَ سَفَرٍ، وَلا تُقْصَرُ وَلا يُفْطِرُ، وَلا تَيَمُّمَ، وَلَمْ يَحُدَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَسَافَةَ الْقَصْرِ بِحَدٍّ، لا زَمَانِيٍّ، وَلا مَكَانِيٍّ، وَالأَقْوَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي ذَلِكَ مُتَعَارِضَةٌ، لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةٌ، وَهِيَ مُتَنَاقِضَةٌ، وَلا يُمْكِنُ أَنْ يَحُدَّ ذَلِكَ بِحَدٍّ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الأَرْضَ لا تُذَرَّعُ بِذَرْعٍ مَضْبُوطٍ فِي عَامَّةِ الأَسْفَارِ، وَحَرَكَةُ الْمُسَافِرِ تَخْتَلِفُ.

وَالْوَاجِبُ أَنْ يُطْلَقَ مَا أَطْلَقَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَيُقَيَّدَ مَا قَيَّدَهُ، فَيَقْصُرُ الْمُسَافِرُ الصَّلاةَ فِي كُلِّ سَفَرٍ، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسَّفَرِ مِنْ الْقَصْرِ وَالصَّلاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَمَنْ قَسَّمَ الأَسْفَارَ إلَى قَصِيرٍ وَطَوِيلٍ، وَخَصَّ بَعْضُ الأَحْكَامِ بِهَذَا وَبَعْضُهَا بِهَذَا، وَجَعَلَهَا مُتَعَلِّقَةً بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ، فَلَيْسَ مَعَهُ حُجَّةٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا. وَاَللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ" (الفتاوى الكبرى). (ويرى فضيلة شيخنا د.ياسر برهامي -حفظه الله- في هذه المسألة: التحديد بالمسافة؛ استدلالاً بحديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلاثَةِ أَمْيَالٍ، أَوْ ثَلاثَةِ فَرَاسِخَ -شُعْبَةُ الشَّاكُّ- صَلَّى رَكْعَتَيْنِ" (رواه مسلم). والفرسخ: 3 أميال هاشمية. والميل الهاشمي: 3 كيلومترًا. فيكون "ثَلاثَةِ أَمْيَالٍ": حوالي 9 كيلومترات خارج بلدته. و"ثَلاثَةِ فَرَاسِخَ": مسافة 27 كيلو مترًا خارج البلد الذي هو فيه.

- وأفضل الأمرين مِن الفطر أو الصيام في السفر هو الأيسر (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

- (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ): أي قضاء عدد ما أفطرتم مِن الأيام بعد انقضاء رمضان، وهذا القضاء ليس واجبًا على الفور، بل هو على التراخي -ما دام كان فطرًا مشروعًا- بشرط أن يقع القضاء قبل رمضان الذي يليه؛ وهذا لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلا فِي شَعْبَانَ، الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ بِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (متفق عليه)، فإن أخَّر القضاء بغير عذر إلى أن دخل عليه رمضان التالي فقد أساء، وعليه مع القضاء الفدية عند بعض العلماء عن كل يوم أخَّر قضاءه، وإن كان الراجح عدم وجوبها؛ لعدم الدليل، وإن أخرجها احتياطًا كان أفضل لأقوال الصحابة في ذلك. والله تعالى أعلم.

- وعلى ذلك: فيجوز التطوع بالصيام قبل قضاء هذه الأيام لمن أفطرها بعذر "وإن كان الأولى المبادرة بالقضاء وإبراء الذمة"، ويجوز للمرأة أن تبدأ بالست مِن شوال قبل قضاء ما عليها مِن رمضان، ولكن لا يُكتَب لها ثواب أنها صامتْ رمضان ثم أتبعته بستٍ من شوال إلا بعد قضاء رمضان.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي