الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

معركة الوعي (2)

هذا هو المنطلق الأول من منطلقات التغيير الشاملة والتي سميتها "منطلقات التغيير العشرة"

معركة الوعي (2)
سعيد حماد
الأحد ٠٧ سبتمبر ٢٠١٤ - ١٧:١٣ م
1609

معركة الوعي (2)

كتبه/ سعيد حماد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ـ وبعد؛

أيها الإخوة الأفاضل وأيتها الأخوات الفضليات، كتبت مقالي السابق بعنوان "معركة الوعي"، وذكرت أنه لا بد من القيام بالتغيير عملًا بقوله تعالى : (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، وقوله تعالى : (ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، وقوله تعالى للمؤمنين بعد هزيمة أحد : (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثلها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) ، إنها خمس كلمات واضحات .

)قل هو من عند أنفسكم) إنها إجابة القرآن للصحابة الكرام عندما التبس عليهم أمر الهزيمة، كيف نهزم ونحن أهل التوحيد وهم أهل الشرك وعبادة الأوثان؟! كيف نهزم ونحن أصحاب خير الرسل وسيد البشر؟!

)قل هو من عند أنفسكم) إنها النفس التي إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، ومن لم تشغله نفسه بمعالي الأمور شغلته الدنيا بسفاسفها، ومن ملك نفسه ووقته فقد امتلك الكثير؛ إذن لا بد من أن نغير ما بأنفسنا، ومن هنا نبدأ فالله لن يغير ما بنا إلا إذا غيرنا نحن ما بأنفسنا، تعالوا معي لنبدأ "إدارة التغيير" من خلال "إرادة التغيير"، إذا لا بد من إرادة (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) ، وهذا هو فصل الخطاب.

ماذا تريد؟ أين إرادتك؟ أين همك؟ أين فكرك؟ أين نيتك؟

(ومن كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه* ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب) ، (ومن كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذمومًا مدحورًا* ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا) (الإسراء:19) .

البون شاسع بين مريد العاجلة ومريد الآخرة، وتأمل قصص القرآن وتدبر قوله تعالى في قصة قارون : (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة) (القصص: 77)، وانظر إلى العبر والمعاني وإلى الدروس المستفادة والخاتمة وانقسام الناس إلى فريقين : (قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم)، هذا فريق يريد الحياة الدنيا وهذا منتهى علمه، (ولكن أكثر الناس لا يعلمون* يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) ، هؤلاء ابتعدوا وأعرضوا عن ذكر الله، فأمرنا الله ـ عز وجل ـ بالإعراض عنهم (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) (النجم : 29، 30)، هذا هو الفريق الأول وهذه هي إرادته وأمانيه وغاية علمه (يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم) .

أما الفريق الثاني، فهو الفريق الذي أوتي العلم والحكمة والرؤية الواضحة والبصيرة الثاقبة والإرادة الصحيحة، (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا ولا يلقاها إلا الصابرون) (القصص:80)، اللهم اجعلنا من الذين أوتوا العلم إنهم علماء الآخرة! إنهم الذين جمعوا العلم والحكمة (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا وما يذكر إلا أولوا الألباب) (البقرة: 269)، ويا ليتنا نقوم بعملية استقراء لآيات القرآن التي تصف الذين أوتوا العلم وتصف من هم أولوا الألباب، إن هذا يساعدنا كثيرًا على معرفة مفاتيح التغيير، فلنتعرف على الذين أوتوا العلم وعلى أولي الألباب، ونحاول أن نجد العلاقة الوثيقة بينهما والرابطة العجيبة من خلال الوصف القرآني الدقيق لها.

لقد أدرك الذين يريدون الحياة الدنيا الحقيقة عندما شاهدوا مشهد الخسف (فخسفنا به وبداره الأرض فما كان من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين) (القصص: 81)، وأدركوا نعمة الله عليهم (لولا أن من الله علينا لخسف بنا) ، ثم جاءت الخاتمة بهذه الفائدة العظيمة وهذا الدرس المستفاد الذي يوضح أحد معالم التغيير الكبرى (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين) ، فاللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وتوفنا وأنت راضٍ عنا!

هذا هو أحد منطلقات التغيير، أن ننطلق من هم الدنيا وفكر الدنيا ونية الدنيا إلى هم الآخرة وفكر الآخرة ونية الآخرة، وسوف نرى التغير في أفكارنا، والتغيير في مواقفنا ورؤيتنا، ولقد علمنا الرسول أن من كانت الدنيا همه فرق الله عليه شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يؤت من الدنيا إلا ما كتب له.

أما من كانت الآخرة همه فقد جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة... (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وابقى) (الأعلى: 14)، وما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدنا إصبعه في اليم (أي: في البحر) فلينظر بم يرجع! هذه الدنيا وهذا هو مثلها مجرد نقطة من هذا البحر العظيم الذي يمثل الآخرة، وعندما نكون من أهل الآخرة سوف ييسر الله لنا أمورًا عسيرة ويسهل لنا أمورًا شاقة.

)واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) ، (البقرة: 45)، إنهم الخاشعون الذين يوقنون بلقاء ربهم وأنهم إليه راجعون، هؤلاء هم الذين ييسرهم الله لليسرى، إنهم أهل التجرد والإنصاف وأهل العدل الذين يقيمون الوزن بالقسط ولا يخسرون الميزان (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين) (الشعراء:181-183)، (والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) (الرحمن: 7 ، 8، 9)، ولكن لماذا يخسر الناس في الميزان؟! الميزان الحسي من قياس طول أو مساحة أو كيل أو وزن، والميزان المعنوي من إبداء رأي أو شهادة أو مقالة أو توجيه أو نصيحة أو غير ذلك من الموازين المعنوية، لماذا لا يقيمون الوزن بالقسط؟! لماذا يُخسرون في الميزان؟!

إنها قضية الآخرة.. إنها قضية البعث.. إنها قضية أن يقوم الناس لرب العالمين.. ولو تأصلت هذه القضية واستقرت في وجداننا لتغيرت مواقفنا وأخلاقنا وسلوكياتنا وتحولنا من العنف إلى الرفق واللين (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 160)، ولتحولنا من القسوة إلى الرحمة؛ فالراحمون يرحمهم الرحمن "ومن لا يرحم لا يرحم.. ألم نتدبر قول الله تعالى في أسباب تطفيف الكيل والميزان (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُوْلَـئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـلَمِينَ) (المطففين 6:1)؟! لو علموا وتيقنوا أنهم مبعوثون لهذا اليوم العظيم الذي سوف يقوم الناس (جميع الناس) لرب العالمين- لا يمكن أن يكونوا بهذه الأخلاق ولا هذه السلوكيات، (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (الماعون: 1-3 )، سبحان الله!أرأيت هذا الرابط القرآني العظيم بين التكذيب بالدين وبين القضايا الاجتماعية والأخلاقية والسلوكية؟!

إنه التغيير الحقيقي والذي من خلاله تنتظم العلاقات وتتحول المجتمعات إلى مجتمعات متألفة متحابة متعاونة متعاطفة، تتبنى منظومة أخلاقية اجتماعية اقتصادية إعلامية سياسية راقية ومتميزة تمثل نموذجًا فريدًا يحتذى به بين الأمم، ونعود به إلى هذا النموذج الفريد من المهاجرين والأنصار من الصحابة والأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم (والذين تبوؤا الدار والإيمان يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (الحشر:9)، وبهذا تنتشر هذه الأخلاق العالية ونعلى سويًا معاني الصدق والحب والإيثار والنبل والمروءة والشهامة والنجدة والوفاء، هذا هو المنطلق الأول من منطلقات التغيير الشاملة والتي سميتها "منطلقات التغيير العشرة" لنحقق إدارة التغيير الشاملة.

 www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً