الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

إثبات توحيد الربوبية والرد على الملاحدة (3) دلالة الفطرة على إثبات الخالق

على كل مَن يريد أن يواجِه الإلحاد أن يقرر الفطرة السوية في إثبات الخالق، ثم يستدل على وجوده بأنواع الحجج العقلية؛ لا سيما تلك التي استعملها "القرآن

إثبات توحيد الربوبية والرد على الملاحدة (3) دلالة الفطرة على إثبات الخالق
عبد المنعم الشحات
الجمعة ١٢ ديسمبر ٢٠١٤ - ١٣:٠٩ م
4351

إثبات توحيد الربوبية والرد على الملاحدة (3)

دلالة الفطرة على إثبات الخالق

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فنعيد التذكير بقضيتين تم تناولهما في المقالة الأولى من هذه السلسلة، وهما:

- منهجية مناقشة الملاحدة، وموقع دليل الفطرة منها.

- الفطرة بين إقامة الحجة والإفحام.

منهجية مناقشة الملاحدة وموقع دليل الفطرة منها:

إن أكثر الأمثلة انطباقًا على حال الملاحدة قول القائل:

كالعـيس في البيداء يقتلها الظما           والماء فـوق ظهـورها مـحمـولُ!

فالفطرة ما زالت داخلهم لم يقدورا على طمسها، ويبحثون عن شيء يسكتونها به؛ فتارة يلجئون إلى السكوت التام واللا إرادية فلا يطيقون فيهربون منها إلى دعوى الصدفة، ثم يخجلون فيفرون من كل هذه الدلائل الفطرية والعقلية إلى افتراضات "داروين!"؛ زاعمين أن هذا من باب العلم التجريبي، وهو لا يستند إلى حس أو عقل أو تجربة -كما سنبين!-.

وإذا كان حال هؤلاء كتلك "العيس البائسة" فالعجب ممن يأتيه هؤلاء البؤساء وهو على نهر جار فيخبرونه بخططهم في البحث عن الماء، وسرابهم الذي يتجارى بهم في كل وادٍ، فأراد أن يقيم الحجة عليهم فقام معهم في متاهاتهم وبيدائهم وسرابهم؛ والواجب عليه أن يصر على أن الذي أمامهم هو النهر الذي تراه أعينهم وتعتبر بآثاره عقولهم، وبعد أن يبيِّن لهم ذلك؛ فإن لم يقتنعوا فإن شاء أن يعرض عنهم فله ذلك، وإن شاء أن يقوم معهم فيبين لهم أن ما يبحثون عنه هو السراب بعينه فهو أحسن.

ولذلك فعلى كل مَن يريد أن يواجِه الإلحاد أن يقرر الفطرة السوية في إثبات الخالق، ثم يستدل على وجوده بأنواع الحجج العقلية؛ لا سيما تلك التي استعملها "القرآن"، ثم يطوف بهم في النفس والآفاق، ثم -من باب التنزل في المناقشة- يأتي على نظريات "داروين" وغيرها بالنقض، وعكس هذا الترتيب ينزل المسألة من درجة القطعيات إلى درجة وجهات النظر "وهو عين ما يريده الملاحدة".

كما تعرضنا في ذات المقالة لموضوع الفطرة بين الحجة والإفحام فنذكِّر به هنا؛ لتبقى الصورة واضحة في الذهن.

الفطرة بين إقامة الحجة والإفحام:

قدَّمنا أن الأدلة قد تضافرت على إثبات قضية الربوبية من الفطرة والعقل والحس "والوحي مرشد لنا إلى ذلك كله"، وأن دليل الفطرة هو آكدها وأعلاها وأوضحها، ولكن إذا كان دليل الفطرة بهذه الدرجة من الوضوح والسلاسة والإقناع؛ فلماذا إذن يُعرض عنه معظم المشتغلين في الرد على الملاحدة؟!

والجواب: في الواقع إن مَن يطلب إفحام الخصم فلا يكاد يوجد أمامه دليل غير الدليل العقلي الذي يسير بصاحبه إما إلى الإذعان أو مخالفة القطعيات العقلية؛ وهو طريق أغرى كل مناظر أن يبحث عنه مهما كان وعرًا؛ حيث يمكن للمخالف إذا احتججت عليه بالفطرة أو حتى بالحس المجرد أن يكابر ويعاند كما فعل "فرعون"، وكما في المثل القائل: "عنز ولو طارت!".

ولكن مَن يطلب هداية الناس لا يطلب إفحامهم في المقام الأول بقدر ما يقصد إيضاح الحق لهم، حتى وإن كابروا وعاندوا بعد ذلك، وهذا مما يوجب علينا أن نسلك هذا الطريق في دعوة هؤلاء القوم.

دلالة الوحي على الفطرة، ومدى منطقية استعمالها للاحتجاج على مَن لا يؤمن به:

قد تناولنا في المقالة الثانية من هذه السلسلة "الوحي" كدليل لإثبات وجود الله -تعالى-، وبـيَّـنـَّا أننا سنرجع إلى الوحي كمؤمنين به، ولكننا سوف نأخذ الأدلة العقلية الواردة فيه ونحتج بها على غير المؤمنين به كأدلة عقلية مجردة، وهذا ينطبق أيضًا على دليل الفطرة؛ فنحن قد علمنا من الوحي أمورًا كثيرة خاصة بالفطرة، ولكن علينا إعادة صياغتها بحيث تقدَّم إلى غير المقر بالقرآن كدليل عقلي وحسي.

معنى الفطرة، وهل لها وجود؟

من جهة الوحي وردت الفطرة في نصوص كثيرة، منها: قوله -تعالى-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (الروم:30)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ) (متفق عليه).

وهذه النصوص كلها تتجاوز إثبات مبدأ أن هناك شيئًا يسمى "الفطرة" إلى إثبات أن هذه الفطرة تتضمن قضايا، أهمها: "الإقرار بوجود الله -تعالى-، والإقرار باستحقاقه للعبادة"، وأن الخلق جميعًا قد سلمت فطرتهم في القضية الأولى إلا أندر النادر، بينما نازع الكثير منهم في القضية الثانية؛ ولذلك كان مِن ضمن حجج الرسل عليهم في القضية الثانية محاولة إيقاظ الفطرة وتجليتها، وهو ذات المسلك الذي ينبغي استعماله مع مَن طمست فطرته فيما يتعلق بالقضية الأولى.

ومعنى الفطرة المأخوذ من مادته اللغوية الدائرة حول معاني الخلق والانشقاق وما شابهها، ومن النصوص الشرعية التي تثبت القضايا التي تتضمنها هذه الفطرة - يعني أن الإنسان يولد ولديه بعض المعارف اليقينية التي لا تفتقر إلى تلقين أو إلى برهان أو استنباط، وأن الإنسان إن تُرك بغير تعليم مضاد سوف يجد في نفسه الاعتراف، بل اليقين بهذه القضايا، وأنه سوف يجد في نفسه الشعور أن هذا القضايا أسمى من أن يبحث لها عن دليل؛ فهي إذن قضايا تنشأ من النظر والاستدلال، وليس من التعلم والتلقين، وإن كان من الممكن أن تعتضد بهما أو بأحدهما، كما يمكن لطرق البراهين السوفسطائية، وللتلقين المعتمد عليها أو على التقليد أن يحرفها ويغيِّر يقين الإنسان تجاهها.

الفطرة والميثاق:

اختلف علماء الشريعة اختلافًا كبيرًا في علاقة الفطرة بالميثاق المذكور في قوله -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) (الأعراف:172)، وهم مختلفون في هذا الميثاق ذاته.

والراجح في هذا الباب: أن الميثاق المذكور في الآية كان ميثاقًا في عالم الذر، وأن الفطرة هي أثر ذلك الميثاق، وهي قضية تتعلق بها الكثير من التفاصيل التي تُبحث في كتب التفسير أو في كتب العقيدة، ولكن الذي نريد أن نقرره هنا أن هذه القضية لا علاقة لها إطلاقًا بقضية ثبوت الفطرة؛ بغض النظر عن وجود الميثاق الأول مِن عدمه، وعن علاقتها بهذا الميثاق.

الفطرة والمعرفة الضرورية:

إن أقرب معنى للفطرة من المعاني المستعملة عند غير علماء الشريعة هو ذات المعنى المعنون عليه عندنا الفطرة هو: "العلوم الضرورية"، وهو علم لم يقع بنظر واستدلال، ولا يحتاج في حصوله إلى كسب؛ فهو يحس بالاضطرار والبداهة والارتجال دون توقف، ومِن ذلك ما يكون راجعًا إلى الحواس كتصديقنا أن الشمس طالعة، ومنه ما لا يكون راجعًا إلى الحواس، بل ببديهة العقل كالعلم بأن الكل أكبر مِن الجزء، وأن الواحد نصف الاثنين، وهكذا.

الملاحدة: هل ينكرون وجود الفطرة أم ينفون دلالتها على وجود الخالق -جلَّ وعلا-؟!

إن مِن الأمور الهامة التي ينبغي بحثها مع أمثال هؤلاء الملاحدة أن يُسأل الملحد: هل لا يقر بوجود الفطرة وينفيها مِن حيث المبدأ أم أنه يقر بها، ولكن ينفي دلالتها على وجود الخالق؟!

فإذا كان ينفي وجود الفطرة مِن حيث المبدأ؛ فهذا داء عضال لا علاج له؛ حيث يلزم مِن هذا إنكار جميع البديهيات العقلية التي قام عليها ما تلاها من النظر العقلي، فلا الكل أكبر مِن الجزء، ولا الواحد نصف الاثنين، ولا يمكن الاتفاق على وجود الشمس في رابعة النهار، ولا يوجد معيار لإثبات أن الصدق حسن، وأن الكذب قبيح، بل لن نجد تعريفًا لمعنى الحسن والقبيح.

وسيجد قائل هذا الكلام نفسه متناقضًا مضطربًا؛ لأنه يصف نفسه بالصدق والحرص على نفع الآخرين، والالتزام بآداب الحوار، وغيرها مِن الأمور التي "فطر البشر على حسنها وادعاء الاتصاف بها".

وفي الواقع: إن إنكار الملحد لوجود الله -عز وجل- يوقعه في ورطة افتقار الدافع للتخلق بهذه الأخلاق الحسنة، ومنها: ادعاؤه حب الخير للناس وحرصه على تصحيح مفاهيمهم؛ وهو ما يدعيه كل الملحدين "بما في ذلك الذين يعملون بأجور ضمن مؤسسات دورها نشر الإلحاد!".

فإنكار الفطرة بالكلية أمر يتجاوز مسألة التناقض؛ إلا أنه يفقد صاحبه كل الموازين في كل القضايا، وهي حالة أشبه بحالات الجنون والغيبوبة، نسأل الله العفو والعافية!

ثم إن قضية الفطرة أعم من قضية الفطرة على الإيمان بوجود الخالق، كما أنها أعم من قضية الفطرة البشرية ذاتها، بل إنها في حق المخلوقات الأخرى أظهر، حيث شرف الله الإنسان بالعقل الراجح والقابلية الأعلى للتعلم؛ وبالتالي تجد أن اعتماد سائر المخلوقات -سوى الإنسان- على الفطرة أظهر وأوضح، ويشمل كل مظاهر حياتها تقريبًا.

ويتضح هذا بدرجة كبيرة في: الطيور، والأسماك المهاجرة، وغيرها مِن صور الفطرة التي سوف نناقشها لاحقًا في أحد صور الأدلة العقلية على وجود الله -تعالى-، وهو الدليل الذي يسميه بعضهم بـ"الملائمة" المنتزع مِن قوله -تعالى-: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه:50)، وهو جانب مِن التأمل يشتمل على دليل الفطرة "بمعنى إثبات وجودها واعتماد الكائنات عليها"، ويشمل دليلاً عقليًّا على وجود الخالق -جلَّ وعلا-.

الفرق بين الفطرة وبين العقائد الباطلة المنتشرة:

إذا ثبت وجود الفطرة كمبدأ؛ فيبقى لنا أن نعرف ما هي القضايا التي يمكن أن ننسبها إلى هذه الفطرة؟ وضابط هذا أن نجد أن البشر مضطرون في قرارة أنفسهم دونما الحاجة إلى برهان، ودونما الاتفاق بينهم على مسألة ما؛ فكل مسألة كان هذا شأنها فإنها تكون مِن مقتضيات الفطرة.

فإذا وجد الإنسان نفسه قد وصل إلى غير مقتضى هذه الفطرة بحس أو برهان أو تلقين؛ وجب عليه أن يقوم بما استقر في الفطر السوية للبشر، فمن ولد أعمى ثم وجد البشر متفقين على أنهم يرون الشمس تشرق وتغرب؛ فلا بد هنا أن يعترف بأنه هو مَن يعاني خللاً في حاسته، وأنه إذا أراد لحياته أن تستقيم فينبغي أن يعتمد فيما يتعلق بهذه الحاسة على الأصحاء لكي يستطيع أن تستمر بها حياته بلا متناقضات؛ وإلا لتعسرت حياته تمامًا.

وكذلك مَن يكون عنده آفة تذوق الماء العذب مرًّا، فلا بد وأن يُكرِه نفسه على شربه تسليمًا لحواس البشر الطبيعيين وإلا مات عطشًا؛ لإصراره على استعمال حاسته التي ثبت عطبها عندما تمت مقارنتها بحواس عامة البشر، ومع هذا فلا يلزم الإنسان أن يلتزم بقولٍ ما لكثرة عدد أتباعه إن كان مستندهم التقليد أو كان مستندهم البرهان -ما دام يمتلك نقدًا صحيحًا له-؛ لأنه لا يُؤمَن عليه الخطأ، ولأن الرجل قد يعرض مسألة باطلة ببرهان يَروج على عددٍ كبيرٍ مِن الناس.

ومن هنا نعلم: أن الاستدلال بالفطرة ليس استدلالاً بالكثرة مطلقًا -كما يظن البعض-؛ وإلا فإن عددًا لا بأس به من أهل الأرض قد تدنست فطرتهم في قضية أخرى مِن مقتضيات الفطرة، وهي "إفراد الله بالعبادة"؛ فقد تقدَّم أن عامة أهل الأرض عبر التاريخ قد سلمت فطرتهم في باب إثبات وجود الخالق، بينما تدنست فطرتهم في باب إثبات استحقاق الله وحده بالعبادة؛ ولذلك احتاج الأمر إلى برهان يثبت أن ما هم عليه يخالف الفطرة؛ لردهم إلى مقتضى الفطرة الأولى، وهذا يقودنا إلى بحث المسألة التالية:

هل تتبدل الفطرة أم تتغير؟!

لا يبدو هذا البحث ذا فائدة كبيرة بالنسبة للملحدين، ولكنه ذو أهمية كبيرة لنا في طريقة مناقشتنا للملحدين، فهل نعتبر أن فطرتهم قد تبدلت وتغيرت بحيث لا يبقى أمامنا إلا أن نحيلهم لفطرة غيرهم، ونقنعهم بأن فطرتهم كانت على هذا النحو يومًا ما، أم ماذا؟!

من الناحية الشرعية: اختلف العلماء في هذه المسألة بناءً على طريقة جمعهم بين قوله -تعالى-: (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (الروم:30)، وبين قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ) (متفق عليه).

وحاصل الأمر أن للعلماء في ذلك مسلكين:

الأول: حملُ قوله -تعالى-: (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) على الإنسان عند ولادته؛ فلا يمكن أن يولد أحد على غير هذه الفطرة.

الثاني: أن قوله -تعالى-: (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) عام حتى فيمن غيَّر أهله مقتضى فطرته؛ ومِن ثَمَّ يبرز هنا أهمية التفريق بيْن نوعين مِن التغيير، وليكن الاصطلاح على تسمية الأول: "تبديلاً"، والثاني: "تغييرًا"، ويكون "التبديل" المنفي في الآية هو محو الفطرة تمامًا من النفوس، وأن هذا منفي عن كل أحد، وإن كان يمكن أن يحدث تغييرًا في أن يَطغى التعليم بالتقليد أو البرهان الفاسد على مقتضى الفطرة، ولكن مع هذا يبقى للفطرة أثر حتى مع هذا التغيير، وهذا هو الأقرب للأدلة والواقع؛ فكم نرى في البلاد التي تنادي بالحرية الجنسية من استهجان أن يقع ذوو الوجاهات منهم في مثل ذلك، وما هذا إلا للأثر الباقي من الفطرة، وهكذا، ومما يؤكد هذا أن القرآن قدَّم براهين مِن شأنها أن تذكِّر مَن "تغيرت" فطرته بأصل فطرته.

الشدائد وأثرها في استعادة الفطرة:

قدَّمنا أن الإنسان مفطور على أن له خالقًا، كما أنه مفطور على أنه يجب أن يلجأ إلى هذا الخالق، وذكرنا أن كلاً مِن هاتين القضيتين قد تعرضتا للتغيير، وإن كان نسبة مَن تعرضت فطرته للتغيير في القضية الأولى أقل بكثير جدًّا ممن تعرضت فطرته للتغيير في القضية الثانية؛ ولذلك كان حوار القرآن في معظمه مع هذا النوع الثاني، ولكن الأسلوب ذاته يصلح بلا شك مع النوع الأول.

ومِن هذا أن القرآن قد أرشد الناس في سبيل معرفة الفطرة التي ولدوا بها لأن يلجأوا إلى أسلوب هو أقرب إلى الأسلوب التجريبي "ونحن نعلم أن لهذا الأسلوب مكانة خاصة في الفكر الالحادي"، والتجربة عادة ما تقوم على تحييد كل العوامل والنظر في العلاقة بين ظاهرة ما وبين عاملٍ وحيدٍ مِن عواملها، وإذا كانت المعارف الإنسانية تأتي إما من الفطرة أو التعليم سواء أكان عن طريق التقليد أو البرهان؛ فإن الله قد ركَّب في سننه الكونية أن الإنسان عندما يتعرض للخطر تتولى الفطرة قيادة دفة الأحداث بعيدًا أكثر مِن الأمور المتعلَّمة تعليمًا أو برهانًا "وهذا في حد ذاته دليل على وجود الفطرة".

ومِن الطرائف التي وقعت أكثر مِن مرة: أن الشرطة مِن الممكن أن ترد أشخاصًا يريدون الانتحار عن طريق تهديدهم بإطلاق النار عليهم، وفي حالة كون الشرطي الذي يقوم بهذا الإجراء محترفًا والشخص المقدِم على الانتحار لم يتلقَ التدريب الكافي على مواجهة هذا الموقف؛ فالغالب أن هذا التهديد يأتي بثماره ويتراجع الشخص عن موقفه الانتحاري تحت تهديد الخوف من النيران!

المهم هنا: أن الشدائد مناسبَة جيدة لدراسة السلوك الفطري الإنساني؛ ومِن ثَمَّ كان المشركون الذي يؤمنون بالله ربًا، ولكنهم يشركون معه غيره في العبادة إذا كانوا في الشدائد، ومع كثرة مَن تم حشو أدمغتهم من أن هؤلاء شفعاؤهم عند الله، وأنهم يعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى فقال -تعالى-: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ) (الإسراء:67).

وفي الواقع: إن نفس الأسلوب يمكن اتباعه في حالة منكري الربوبية، ويوجد في الكتب التي تتناول قضية الإلحاد الكثير مِن القصص التي تثبت أن بعض الملحدين وجد نفسه يهتف ويستغيث بالإله الذي كان ينكره، وقد كتب بعض الفلاسفة قصة أسطورية تحاول محاكاة وضع طفل ليس معه إلا الفطرة والنظر؛ لكونه وحيدًا في جزيرة ليستبعد بذلك أثر التلقين، وليصل مِن خلال ذلك إلى أنه في الجملة سوف يكتشف عددًا من السنن الكونية، وأنه سوف يهتدي أيضًا في الجملة إلى وجود الرب، وسوف يشعر بالحاجة إلى مناجاته؛ وبالطبع فإن القصة لا تخلو من مضامين فلسفية غير موافقة للوحي، ولكن الشاهد هنا هذه المحاكاة لحالة ليس فيها إلا الفطرة والنظر.

البراهين العقلية على وجود الله -تعالى-:

بعد استفراغ الوسع في محاولة إحياء فطرة الملحد ستجد لذلك أثرًا -بفضل الله- يقوى حينًا ويضعف حينًا، ولكن لا بد مِن وجود أثر؛ وهنا يأتي دور البرهان الذي يتمم دور دليل الفطرة ويؤكده.

ويفضَّل في باب البراهيين العقلية على وجود الله أن نتفنن فيها، ونطنب في ذكرها مِن باب تحريك العقول والقلوب.

ويَجمل أن نعتني بدرجة أكبر بما كان منها أقرب إلى دليل الفطرة ومكملاً له: كالتدبر في العالم، وإدراك الحكمة في الخلق، ومعرفة كيف "فطر" الله كل مخلوق على ما يصلحه...

وهذا ما سنتناوله في المقالات القادمة -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com