الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

(الحاكمية (1

العالمانية وخطرها- منهج التغيير وواقع أليم- الشرك في الحكم- دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه

(الحاكمية (1
عبد المنعم الشحات
الأربعاء ٢١ يناير ٢٠١٥ - ١٣:٤٠ م
1761

الحاكمية (1)

الشيخ/ عبد المنعم الشحات

إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونستهديه ، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، إنه من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد :

العالمانية وخطرها [تطبيق الشريعة بين العالمانيين والإسلاميين] :

كنا قبل انتهينا من معظم ما يتعلق بباب « تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله » ، وذكرنا أن هذا الباب أورد فيه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب : أبرز أنواع الشرك الواقعة على ظهر الأرض ، وأورد لكل منها مثالًا في آية من كتاب الله تبين خطورة هذا النوع وشرك فاعله ، ولم يكن مقصوده : أن يحصر أنواع الكفر والشرك على وجه بقدر ما كان مقصوده أن يذكر أظهر الأمثلة وأبرزها ، فذكر : الغلو في الصالحين كأحد أهم أسباب الشرك .

ثم ذكر : موالاة الكافرين ، وقد ذكرنا الكلام فيها بشيء من التفصيل ، ثم ذكر الشرك في الحكم ، وهذه اقتضت منا أن نعرج على قضية العلمانية وجذورها ، ونشأة الدعوة إليها ، وكيف انتقلت -  فيما بعد - إلى العالم الإسلامي .

وبينا أن العالمانية هي نسبة إلى العالم ، أي : إلى الحياة الدنيا ، أي : إلى صياغة الدنيا بعيدًا عن الدين ، فهي دعوة لفصل الدنيا - ومنها : الحكم - عن الدين ، وليس مجرد فصل الحكم فقط ، ومن ثم بعد تقرير هذا المبدأ كمبدأ عام لدى دعاة العلمانية أنه ينبغي أن يفصلوا  الدين عن الحياة ؛ لجئوا إلى كل التراث البشري ، فالقيد الرئيسي عندهم أن لا يرجع أحد إلى الدين .

وذكرنا أنهم يعتبرون أن من جملة التنازل الذي يقدمونه أنه من الممكن أن يسمحوا لأي أحد ممن يرجعون إلى الدين أن يرجع إليه ولكن بشرط أنه إذا تكلم مع الناس ويتداول الأمر ؛ لا يرهب الآخرين ؛ ولا يقل هذا حكم الله ، بل يعرضه كرأي من الآراء ، وشرط رئيسي أنه يقرر مسبقًا أنه لو اعترض على هذا الكلام ؛ أن يسمع النقد،  و[ يستقبله ] بصدر رحب ، ويعتبر أن هذا رأي جدير بالاحترام على الأقل ، وجدير بالتطبيق إذا حازت عليه الأغلبية .

ومن أخطر الانحرافات لدى بعض الإسلاميين أن يوافق على هذا ، ويدعي أن في  هذا مصلحة ، وأنه سيتمكن من الدعوة ، فإلام يدعو بعد أن يقرر حرية الكفر ؟ ! ! وبعد ما يقرر حرية الجنس ! ! .

وكل هذا بدون أي قيد ، بل هو نفسه سيأتي بكلام من شرع الله تعالى يعرضه على الناس ، ويعرض الآخرون آراءهم على قدم المساواة من حيث حرية التعبير ، فيعبر المسلم كاليهودي وكالنصراني وكالملحد ، وكل هؤلاء يتساوون في حرية العرض ، ثم التطبيق لمن يحوز بالأغلبية , والعياذ بالله .

الحاصل أننا ذكرنا أن هذه الدعوة تدعوا إلى فصل الدين عن الحياة ، ولكن ماذا سنفعل حينئذ في الحياة ؟ ! فالحياة لا بد فيها من النظم في الحكم ، ونظم في الاقتصاد ، ونظم في الاجتماع ، فرجعوا إلى الجهد البشري ، وكان معظم رجوعهم إلى حضارة اليونان والرومان .

ولعلنا ذكرنا ارتباط أوربا عاطفيًا بهذه المرحلة التي تكونت فيها العقلية الأوربية ، وما زالت تحكم العقلية الأوربية إلى الآن ، ومن ثم كان معظم النظريات التي عادت إلى الحياة بعد تقرير مبدأ العالمانية نظريات رومانية الأصل ، ومنها : الديمقراطية وغيرها .

الحاصل أن هذا كان استطرادًا لعله ليس وثيق الصلة بالموضوع إلا أن معرفته في غاية الأهمية ، لا سيما مع وجود التموجات الكثيرة التي تحصل في مشارق الأرض ومغاربها ، ويبقى أننا ندرس القضية من الزاوية الشرعية كتقرير لهذه الجزئية .

لماذا خرجنا عن قضية الحكم وتكلمنا على العلمانية بصفة عامة ؟ !

الجواب أن تحكيم كتاب الله وسنة النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ( تحكيم شرع الله ) قضية أوسع بكثير مما نضعها فيه .

بداية نقرر أنه لو تم تبديل حكم واحد من أحكام الله فهذا كفر - والعياذ بالله -  ولكن القضية أخطر من هذا بكثير ، [ فإنهم يفرضون هذه الأحكام الوضعية على المجتمعات ، ] ويصر العالمانيون على عرض القضية من زاوية الكلام في النظام القضائي ، ثم يتكلم داخل النظام القضائي على العقوبات ، ثم داخل العقوبات يقولون  أن هذه ترك الشرع فيها الأمر فمن الممكن أن تسقط بشروط معينة ، أو من الممكن أن تقلب إلى تعذير , مع إن هذا من الكذب على الله وعلى رسوله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ؛ لأن القضية ليست كذلك ، فالقضية أعم من ذلك بكثير .

فالقضية أن الإسلام منهج حياة ، فالإسلام ليس علاقة خاصة بين العبد وربه كدين النصرانية ، ولذلك فإن الأعداء يدركون هذه الحقيقة جيدًا ، وبعضهم يقول : لا تحاولوا الضغط على الإسلاميين لكي يقدموا تنازلات ؛ لأن التنازلات التي يقدمها بعض الإسلاميين تخصه هو , تنازلات باسمه هو , وطالما أن القرآن موجود فإن القرآن في كل جزئية من جزئياته يشرع للناس .

فما الفائدة أن تحصل من بعض الإسلاميين على التزام أنه لن يطرح هذا التشريع ؟ ويقولون : ما الفائدة أن تحصل من بعض الإسلاميين بأنه سيقبل بالآخر ؟ فالإسلام بطبيعته رافض للآخر ، فالإسلام يجعل الناس فريقين ﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين ﴾ [ القلم : 35 ] إذن فالقضية محسومة في القرآن ، فالإسلام بطبيعته يرفض الباطل ، فالإسلام حق ، وما سواه باطل .

فلو حصل على التزام من بعض الإسلاميين أنه سيقبل الكفار على اختلاف مذاهبهم ، مع ملاحظة أن مسألة قبول أن يتعايشوا شيء ومسألة وقبول آرائهم أو اعتبار أنها على قدم المساواة مسألة أخرى ، فالإسلام يعتبر أن الكفر هو أعظم إجرام ، ناهيك عن الطعن في دين الله ، أو تحريم ما أحل الله ، أو تحليل ما حرم الله ، فكل هذا مما لا يمكن قبوله بحال من الأحوال .

فهم يقولون : لا تحاولوا فهذه محاولة فاشلة ؛ لأنك في النهاية تحصل على التزام من بعض الإسلاميين بأمر ما ، بينما الإسلام ذاته لا يمكن تبديله طالما أن القرآن موجود ، فالإسلام ذاته فيه منهج حياة وتشريع شامل ، والإسلام كقرآن وسنة محفوظين ، فيه براءة من الكفر وأهله ، وبراءة من الباطل وأهله ، ففي القرآن آيات الجهاد ولن تمحى بإذن الله .

ولذلك رأى بعضهم أنه من الأسهل أن يحصل من بعض الإسلاميين على وعد بأنه  لن يطرح قضية الجهاد ، لا حالًا ولا مستقبلًا ، قال : إذن فامحوها من القرآن - والعياذ بالله -، لأنه طالما أن هذه الآيات موجودة فلن يفيد التزام بعض الإسلاميين بترك الجهاد شيئًا ،  فإن القرآن سيبقى تحفظه الأجيال ، ويبين أن الجهاد له صراطه وأن نشر الدين عن طريق الجهاد أمر مجرب .

القضية أشمل من مجرد الكلام على النظام القضائي ، ثم في داخل النظام القضائي يتكلم عن العقوبات ، فنحن نقول أن الإسلام منهج حياة . 

منهج التغيير وواقع أليم :

ونقول للمتعطشين لتحكيم الشريعة والذي من الممكن أن يرتكب تحريفًا للشريعة من أجل تطبيقها , أن هناك جزء كبيرًا جدًا من الشريعة لا يحتاج إلى سلطة إلزامية من أجل تطبيقه , فلماذا لم يطبق ؟!

هذا هو السؤال الأهم ، فلماذا أبحث عن الشيء المفقود الذي [ هو موجود ] في أيدي الآخرين ؟ ومعلوم أن الآخرين لهم حسبتهم المعقدة جدًا فيذهب البعض فيزاحمهم في هذه الحسبة المعقدة ، ثم ماذا ؟ ! ويقول أن كل الناس يريدون الشريعة فهذا أمر فيه نظر ، نعم الناس يريدون الشريعة ؛ لأنه يقال لهم أن الشريعة ستطبق حد السرقة على السراق الكبار الذين نهبوا ثروات الناس ، فماذا لو علموا أننا نريد أن نطبقها أيضًا على السراق الصغار ؟ !

كشخص يسرق أحذية المصلين وهو من أشد الناس جرمًا فهو يؤذي من هو في بيت الله ، فإن أردت أن تؤدبه أو تعذره ، فربما تجد آلافًا ممن يقولون لك: اعذره لعله .. ولعله .. ويقولون انظر إلى مشكلته أولًا لم فعل ذلك ؟ ولكن لو نظروا ؛ لوجدوا أن هذا إجرام من أعظم الإجرام ففيه غير السرقة : صد زائد عن سبيل الله .

فهل هؤلاء الذين تأخذهم شفقة بالمجرم هم أنفسهم الذين يريدون أن يطبقوا الشريعة ؟ ! .

خذ مثالًا آخر : لو ناديت بالحجاب ، فأين نساء المسلمين من الحجاب ؟ فلو سألت كل هؤلاء : أتردن الشريعة ؟ سيقولون : نعم ، ولكن على أنفسهم : لا .

فالحجاب أمر يسير جدًا ، ولا يحتاج إلى سلطة تفرضه ، وما زال الأمر في بلادنا  بفضل الله  ـ عز وجل ـ  [ واسعًا] ، فمن تريد أن ترتدي الحجاب ارتدته ، ولا يوجد ما يمنعها ، ولكن ليس عندها الرصيد الإيماني الكافي لكي تتحجب .

ولو تخيلنا أن اتجاهًا إسلاميًا ما أصبحت له الكلمة العليا ، وقال : أنه لن ينفق على الكرة وفرقها ؛ لأن هذا تضييع لأموال المسلمين ، كيف سيكون حال الآلاف المؤلفة التي تحشد في المباريات وتدفع من أموالها من أجل التشجيع ؟ ! وهذا غير الملايين الأخرى الذين يشاهدون عبر شاشات التلفاز ، فهل هؤلاء سيرحبون بهذا القرار مع أنه شيء يسير جدًا ؟ ! ، ومن أيسر ما ينبغي أن يفعله الإنسان المسلم ، لو أنه أصبح قيمًا على مال المسلمين أن لا يضيعه هباء , وهذا غير الرقص .

وقد قال أحدهم عن هذا الأمر الأخير : إن الإسلاميين أصبحوا يرون أن وراءهم أصوات كثيرة ، وسيأمروننا أن نتوقف عن الرقص ولكننا لن نتوقف ، وسنبقى نعرض الرقص لأنه فن ! ! .

وللأسف يكون هذا في صدر صفحات الجرائد ، ويقول : من قبل أن يبدؤوا الكلام فنحن نعلم أن هؤلاء الإسلاميين سيطالبوننا بوقف الرقص ، ولذا من الآن فنحن نقول أننا لن نتوقف ، ويقولون : إن هذا الرقص فن راقٍ ولا يثير الغرائز ! ! .

فأين الذين يريدون تطبيق [ الشريعة ] ؟ وإن كانوا موجودين فلماذا لم يطبقوها ؟ وذلك لأن تطبيق الشرع ليس نظامًا قضائيًا، فإن تطبيق الشرع في كل صغيرة وكبيرة ، فهناك جزء كبير جدًا من الشرع مضيع بإرادة آحاد الناس ، فهو يقول : نعم أنا أتمنى أن تكون هناك عقوبات رادعة للمفسدين ، وأتمنى ... وأتمنى ... وهو يرى أن الشرع بلا شك سيحقق هذا ولكن السؤال : هل يريد هذا الشرع على نفسه ؟ .

خذ أمثلة من أمور يسيرة جدًا من واقع الناس حيث لا يطبقون الشرع فيها على أنفسهم مع أنهم يملكون الخيار الكامل في تطبيق الشرع على أنفسهم في الالتزام بالصلاة ، والالتزام بها في جماعة ، والتزام نساؤه بالحجاب ، وفي منع الفساد الذي يأتي به عمدًا إلى بيته .

وكذلك منع الدخان مثلًا ، لماذا لا يمتنع الناس من شرائه ؟ ! ، ناهيك عما هو أفسد ، فالقضية مشوهة في حس العالمانيين ، وللأسف قد تكون مشوهة في حس الإسلاميين أيضًا ! ! ، فتطبيق الشرع يعني تطبيق كل جزئية في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ، فهذا من تحكيم شرع الله ، ومن تحكيم كتاب الله ، ومن تحكيم سنة رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  .

فالخلل يطول الجميع بما ذلك نحن ، فإن قلت : أنا أطالب كل من عنده خلل أن يصلحه ، فهذا أمر حسن ، ولكن هناك أقرب ، فإن نفسك أقرب إليك من جارك ، وجارك أقرب إليك من البعيد ، والإنسان الذي تعتبره عدتك في حربك مع الظالمين والمانعين لتطبيق شرع الله أين هو من تطبيق الشرع ؟ ! .

أحيانًا عندما يصل الكلام لشعارات وهتافات نجد المتبرجات تبرجًا فاحشًا يهتفن ! ! وانظروا - يا إخواني - في كلمة «تبرج فاحش» إننا الآن نضطر عندما نتكلم أن نقول : تبرج فاحش ، وتبرج متوسط ؛ لأنه واقع مفروض علينا أن الملتزمين التزامًا كاملًا بالدين أمر نادر جدًا لدرجة أنك أصبحت تنظر إلى من يطبق جزء منه أنه قريب من الحق , ثم بعد ذلك تقول أن هناك مناسبات يظهر فيها أن هؤلاء البعيدون بعداً تاماً الذين ينادون مثلًا بالجهاد في فلسطين أو في غيرها أو أن هؤلاء الذين من الممكن أن يكونوا عدتنا في مواجهة العالمانية .

الإسلام منهج حياة , والعلمانية كذلك , ولكن مع الفارق :

فأحببنا أن ننبه أن العلمانية منهج حياة ، ولذا يقولون : كلمني عن الرقص قبل أن تكلمني عن النظام القضائي ، وها أنا ذا أخبرك من قبل أن تدخل ومن قبل القبول بقواعد اللعبة ، فإن اللعبة تقول : أن فيها رقص ، ويجب أن تقبله ؛ لأن الأغلبية تريد ذلك ؛ ولأنه ثقافة ، ولا يمكن أن ننعزل عن العالم أو نحو هذا .

إذن فالقضية عندهم قضية فكر يشمل جميع مناحي الحياة ، ونحن في المقابل نقول أن هناك منهجين للحياة ، والنظام القضائي جزء يتشرب بالنظام الذي هو جزء منه فالقضاء الإسلامي تشريعًا وإجراءات ستأتي الإشارة إليه .

والنظام الوضعي كإجراءات نظام ظالم ، تخيل الآن عندما يأتي شخص يغتصب منك أرضك مثلًا ويضع يده عليها وأنت معك المستندات الكافية تمامًا ولكن بطء إجراءات التقاضي من الممكن أن تجعله يأتي يساومك ويقول لك : من الممكن أن أقصر عليك الطريق ، ولكن أعطني كذا وأتركها لك القضية وهذا كلام واقع جدًا ، فإجراءات التقاضي الوضعية إجراءات ظالمة في حد ذاتها ، وهذا غير أن الحكم في ذاته جائر مخالف للشرع ، فالمسألة برمتها مسألة مختلفة تمامًا .

فأحببنا فيما تعرضنا له من بيان قضية العالمانية ، بيان أن هذا منهج كامل للحياة ، وهذا المنهج له فروعه : في الاقتصاد ، وفي الاجتماع ، وفي العلاقات الدولية ، وفي القضاء ، وفي نظام السلم والحرب ، وفي نظام الإعلام ، وفي نظام التعليم ، فهناك أناس سيقولون : نرجع للدين في هذا كله ، وهناك أناس سيقولون نجلس نفكر ؟ وأمثل هؤلاء طريقة يقولون : نسترشد بالدين ولكن يبقى الأمر أن السلطة في النهاية والقرار النهائي في يد الشعب أو في  يد الأغلبية ! ! وهذا هو الفرق الجوهري بين الأمرين .

وما نؤكد عليه الآن قبل الدخول في تفاصيل المسألة من الناحية الشرعية أن [ نبين أن ] مفهومنا كإسلاميين ندعو إلى تحكيم شرع الله ، أن تكون الدعوة شاملة ، فالإسلام منهج حياة ، فلا ندخل معهم في الحواري الضيقة بحيث يبدأ في تهميش القضية جدًا ، ويحصرنها في بعض النقاط ,  وهذه النقاط - مع أهميتها البالغة - تشغلنا عن تطبيق الشريعة في نقاط أخرى ربما تكون الدعوة إليها أيسر .

كتطبيق الشريعة في إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وسائر أركان الإسلام ، وفي معرفة العقيدة ، وفي تصحيح عبادات الناس ، وفي تصحيح عادتهم ، فهذا أيسر في منازعة أقوام ليتهم يتركونك تقول كلمة تأمر فيها بالمعروف وتنهى بها عن المنكر إلا أن تكون أنت شريكًا في المنكر ، فانظر إلى الخبث ، يقولون : أقر بأن هذا المنكر من حيث الأصل واجب التطبيق  إلى أن تزيله أنت ، فلا بد أن تعترف بأن هذا الأمر واجب وملزم ، وأنك محترم له من أوله إلى آخره ، ثم بعد ذلك لو عرف من داخله وبنفس الأساليب التي اشترطها أنك تغيره فلا بأس ، وهذا أمر في غاية الصعوبة .

النوع الثالث

الشرك في الحكم

يقول الشيخ ياسر: « الشرك في الحكم :

وهو الثالث من أنواع الشرك ، وهو ما يتعلق بمسألة وجوب الحكم بما أنزل الله ، وتحريم الحكم بغير ما أنزل الله ، قال تعالى : ﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون ﴾[ التوبة :31 ]  

وعن عدي بن حاتم قال : « أتيت النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  وفي عنقي صليب من ذهب » قال ( أي : عدي ) : فسمعته يقول : ﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِِ ﴾ قال : « قلت : « يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم »

الشرح :  

وهذا كان قبل إسلامه  ـ رضي الله عنه ـ  فقدم على النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  .

قوله : « إنهم لم يكونوا يعبدونهم » هذا لأن عدي بن حاتم  ـ رضي الله عنه ـ  ظن أنهم طالما لا يسجدون للأحبار والرهبان أنهم لا يعبدونهم , هم يعبدون المسيح  ـ عليه السلام ـ  ، ويعبدون أمه عبادة صريحة ، فهم يدعونهم ويستغيثون بهم ويصلون لهم ، ولكن الآية فيها أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ، فهذا أمر زائد عن فعلهم من عبادة المسيح ابن مريم وأمه ،  فهو لم يلحظ وجه عبودية هؤلاء لأحبارهم ورهبانهم .

يقول الشيخ ياسر : « قال (  أي عدي  ) : « قلت : « يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم » قال  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  : « أجل ، ولكن يحلون لهم ما حرم الله ؛ فيستحلونه ، ويحرمون عليهم ما أحل الله ؛ فيحرمونه , فتلك عبادتهم لهم » .

الشرح :

النسخ في الإسلام والتبديل من الكفر :

إذن فطاعتهم في تبديل شرع الله عبودية لهم ، وهذا أمر واقع في اليهود والنصارى حيث يعطون الأحبار والرهبان حق النسخ والتبديل ، والعجب العجاب أنهم يعيبون على الإسلام أن فيه نسخ رغم أن النسخ ليس من خصائص شريعة محمد  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  وحدها ، بل هو من خصائص شرع الله تعالى عامة ، وإلا فمن المعلوم قطعًا عند كل عاقل أن في شريعة آدم  ـ عليه السلام ـ  أن الرجل كان يجوز له أن يتزوج من أخته ، فإنه لم يكن هناك إلا أبناء آدم  ـ عليه السلام ـ  وهذه الشريعة نسخت .

والسؤال : متى نسخت ؟ وكيف نسخت ؟ هذا سؤال نسأله لهم ما دام أنهم يقولون أن النسخ عيب في التشريع ، ويدل على أنه ليس من عند الله ! إذن فهذا عيب فيما تؤمن به أنت ؛ لأن المجزوم به أن هذا الأمر كان في شريعة آدم ، ثم نسخ ، ولعله نسخ في شريعة التوراة ، أو أن هذا كان تشريع استثنائي ، فالنسخ يكون تشريع استثنائي لمرحلة ، ثم يكون هناك تشريع أفضل منه للمرحلة التي بعدها ، بمعنى أنه في المرحلة التي نزل فيها يكون هذا أكمل تشريعًا ، ثم بعد ذلك ينسخ بما هو أفضل منه .

ولذا كانت شريعة محمد  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  هي التي وصفها الله تعالى بالتمام ، بل لم يصفها بذلك إلا في حجة الوداع ، فإن الله تعالى لم ينزل وصفه بالتمام والكمال إلا في حجة الوداع ؛ لأن طوال هذه المراحل كان هناك تشريعات تنسخ - تشريعات استثنائية وقتية- ، ولذلك لما كان النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  هو خاتم الأنبياء والمرسلين وأنزل عليه قوله تعالى : ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ علم أن أجله قد اقترب ، وأن هذا التشريع سيستمر إلى قيام الساعة ، إذن فالنسخ وقع في شرائع جميع الأنبياء كما وقع في شريعة محمد  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  .

والعجب العجاب أنهم يعيبون علينا وقوع النسخ في دين الله بينما هم يؤمنون بوقوع النسخ في شرائع الأنبياء السابقين ممن يؤمنون بهم أو يدعون أنهم يؤمنون بهم ، والأمر الأشد من ذلك أنهم يعطون الأحبار والرهبان حق النسخ والتبديل ،  لدرجة أن بابا الفاتيكان الذي مات عما قريب أصدر وثيقة تبرئ اليهود من دم المسيح  ـ عليه السلام ـ  ، وهذا نسخ للأخبار ونسخ للوقائع .

ونحن نقول النسخ في التشريع « افعل » أو « لا تفعل » ، فيمكن أن يكون الأمر مقيدًا بزمن « افعل » فهذا هو الأفضل الآن ، ثم لا تفعل لأن هذا لم يصبح الأفضل ، وهذا أمر ليس فيه أي تناقض ، وليس فيه أي شيء يتعارض مع العقل ، فكيف يزعمون أن بشرًا من البشر ينسخ خبرًا يزعمون أنه من عند الله ، فإنهم يزعمون أن كتبهم كتبت بوحي من الروح القدس ، وفيها مسئولية اليهود المسئولية الكاملة عن دم المسيح  ـ عليه السلام ـ  ، فيما يزعمون أنه صلب ! .

والعجيب أن المسلمين يعتقدون بفضل الله أن عيسى رفع ومع ذلك لا يبرؤون اليهود من سعيهم إلى قتله ، فإنهم سعوا حقيقة في قتله ، أما هم فيقولون أنه صلب ولكن اليهود برآء من دمه فنسألهم : من قتله إذن ؛ إذا لم يكن اليهود هم قتلته ؟ ومن الذي سعى في قتله ؟ .

فإن الرومان أنفسهم لم يكونوا يعرفون هذه التفاصيل ، ثم إن الكتب التي في أيديهم تخبر أن اليهود هم الذين سعوا ، وقالوا أن هذا هو ملك اليهود الذي سيحررهم من الرومان ، انظروا إلى العجب العجاب ، فإذا كان ذلك كذلك فليتبعوه إن كانوا صادقين فهو أتى ليحررهم من ذل العبودية ولكن نفوسهم وطنت على العبودية .

إذن فهذا جزء من اتخاذهم أربابًا من دون الله أنهم أعطوهم حق تبديل الشرع ، فهم لا يبدلون الأوامر والنواهي فحسب ، بل رأينا أكثر من ذلك فإنهم أعطوهم حق تبديل الأخبار ، فيبدل الوقائع ويقول عن شيء أنه لم يحدث ، وإذا سألناهم ما الذي حدث إذن ماذا سيكون جوابهم ؟ ! وكأنه أمر لا يشغلهم .

فنقد الكفار لدين الله تبارك وتعالى يعتمد بدرجة رئيسية على أن الناس لا تعرف لا الإسلام ، ولا تعرف من باب أولى هذه الأديان ؛ لأنه ليس من الممكن مثلًا أن يعترض شخص على قضية النسخ وهو يعلم أن الناس تعلم أن عنده أن البشر ينسخون ، وينسبون إلى عيسى  ـ عليه السلام ـ  قولًا ، ولعله يكون صحيح في الجملة ؛ لأن القرآن لم يذكر عن عيسى  ـ عليه السلام ـ  إلا إنه جاء متمم لرسالة موسى  ـ عليه السلام ـ  فهم ينسبون إليه قولًا يتوافق مع ما عندنا ؛ لأنه قال : « ما جئت لأنقض الناموس إنما جئت لأتممه » .

إذن فكل ما في التوراة من تشريع المفروض أنه يلزم النصارى ، فهم نسبوا إلى بولس الذي هو مؤسس دينهم الحقيقي أنه أحل لهم كل شيء ، والسؤال : هل هذا نسخ أم لا ؟ ! ! ثم من هذا الذي نسخ ؟ فإن كانوا يقولون أنه أمر مشين أن الله تعالى يشرع لعباده شرعًا ثم يشرع لهم غيره ، فهم يقولون والعياذ بالله : أن معنى هذا أن الله تعالى اكتسب خبرة مثلًا ! ! .

ولكن القضية ليست كذلك ، فالقضية أن أحوال البشر هي التي تغيرت ، وفي علم الله تعالى الأزلي أنه سوف يشرع هذا التشريع زمنًا ثم ينسخه بغيره ، ولكن من أين جعلت أنت البشر ينسخون كلام الله تعالى ؟ ! .

لذا تجدهم لا يتورعون إباحة الخنزير ، وإباحة الخمر ، ويتركون التطهر ، وكل هذا لأن بولس قال أن كل شيء مباح بما في ذلك المبيتة وغيرها والعياذ بالله .

هل هناك إنسان عاقل يقدر أن يفتح باب الكلام على قضية النسخ وهو عنده هذا العور ؟ لكنه يعلم أن الناس لا تعرف .

ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا :

فمثلًا قضية الإعجاز اللغوي في القرآن لن نطالب بالمقارنة بين الأساليب والتراكيب والمفردات بل نريد أي شخص يقرأ القرآن ويقرأ الكتب التي ينسبونها إلى الله وينظر الفرق الشاسع ، فنحن مثلًا نقرأ القرآن في صلاتنا فنقرأه في مكبرات الصوت فيقولون : لا أخفضوا هذا الصوت فهذه فتنة للناس ، وهم في صلاتهم عندهم موسيقى فلما ذلك وهم عندهم الكلام الذي يزعمون أنه كلام الله ؟ ولكنهم لا يفعلون ذلك ؛ لأنه ليس فيه ما يرقق القلوب ، فيتركون كتبهم ، ويأتون بالأشياء التي تطرب القلوب ، فيأتون بكلام من كلام البشر مصحوب بموسيقى , وهذا كلام لا يحتاج إلى كبير تعمق في المعاني والمفردات والتراكيب ونحو هذا من الأمور .

فكل قضية يتكلم فيها هؤلاء عندما توازن ستجد أنه من الأفضل أن لا [ يتكلم فيها ]  فمثلًا قضية تدوين القرآن وتجميع القرآن - وسنتكلم فيها في علوم القرآن فنعطيها قدرًا كبيرًا من التفصيل إن شاء الله - إننا لا نريد أناسًا متعمقين يقرؤون ويفهمون ، فمبدأ القضية أن جمع القرآن كان في عهد أبي بكر  ـ رضي الله عنه ـ  .

أما كتبهم فكتبت بعد عيسى  ـ عليه السلام ـ  بثلاثمائة سنة وقد كتبت بالسريانية وترجمت للاتينية ومنها للإنجليزية فأين هذه الأصول ؟ ومن الذي ترجم ؟ ومن الذي كتب ؟ فهل هناك وجه للمقارنة ؟ ! .

وأيضًا عندما يتكلمون في علامات الإعراب – وقد نوهنا إلى كثير من هذه الأشياء في دروس التفسير- ومن يتكلمون في هذه المسائل أشبه بشخص مثلًا يأتي بشخص في سباق سيارات ، وهذا رجل على درجة عالية جدًا من الاحتراف ليس عنده شيء يسمى سرعة قانونية وليس عنده قواعد عندما يأخذ المنحنيات ؛ لأنه متمرس بدرجة تمكنه أن يفعل هذه الأشياء فلما يأتي شخص بليغ جدًا , لا تأتي وتقول له هذا فاعل وهذا مفعول ؛ لأنه من الممكن أن يقدم هذا ويؤخر هذا ، ومن الممكن أن يجعل الجملة الفعلية مكان الاسمية وفي النهاية المعيار الوضوح والإيجاز والتأثير .

فتخيل مثلًا لو أن شخصًا واقف في سباق سيارات يقول للسائق : أنت تجاوزت السرعة القانونية ! ! ويقول لهذا : هكذا أنت تأخذ المنحنى خطأ , لا بد أن يأخذ أمثالكم رخصة قيادة من جديد ! فهو يتكلم في شيء أشبه بذلك ، هو يطبق هذه القواعد للمبتدئين .

فقواعد النحو إنما وضعت لمن لم يتمرس على اللسان العربي فيقول له :خذ جزء من العربية تضمن أن الناس إذا سمعتك فهمتك وتضمن أنه مقبول لكنك لو تركت لسجيتك فمن الممكن أن تقول كلامًا لا يمكن أن يؤدي الغرض لكن اللغة عند أهلها لم يكن عندهم نحو ولا يمكنك أن تلزم فحول الشعراء بالنحو ، ناهيك أن يكون كلامًا من عند الله تبارك وتعالى .

لكن انظر في النهاية إلى البلاغة والإيجاز والتعبير ووفرة المعاني إلى غير ذلك من الأمور ، وإذا حاكمتني لقواعد اللغة العربية فأنا في أي شيء أحاكمك ؟ ! !  هل أحاكمك في قواعد اللغة السريانية التي لا يتكلم أحد بها الآن ؟ أم قواعد اللغة اللاتينية ؟ أم اليونانية ؟ وهؤلاء الثلاثة ماتوا بفضل الله , أم قواعد الإنجليزية التي ترجم إليها ؟ ولو فعلنا ذلك فأي ترجمة من الترجمات التي نلتفت إليها ؟ ! فهل هناك وجه للمقارنة ؟

كما ذكرنا أن كل مادة يفتحها فهو يعتمد اعتماد رئيسي على أن الناس لا تعرف الإسلام، ولا تعرف غيره ؛ لأن الذي يعرف الاثنين لن تكون هناك فرصة لكي يفكر ، أو أنه يقارن أصلًا ، كما ذكرنا لو أن الناس تعرف حقيقة النسخ في دين الله تعالى وحقيقة النسخ عند هؤلاء فإنه سيخجل أن يعرض القضية ابتداء .

الحاصل أن الآية وصفت فعلهم أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ؛ فاستشكل عدي بن حاتم  ـ رضي الله عنه ـ  هذا الأمر وكأنه رده على النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  وهذا قبل أن يسلم ، فبين له النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أن اتباع الغير في خلاف أمر الله في تحليل الحرام أو تحريم الحلال ، أن هذه عبادة .

 دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه :

وهذه قضية مهمة جدًا أيضًا أن المسألة ليست مسألة تشدد أو تسيب فإنه قد وقع وستأتي النقول إن شاء الله فالآن يقولون : أنتم تريدون أن تطبقوا العقوبات ، وهذه العقوبات شديدة ، والقوانين المعاصرة تخفف في أمر العقوبات .

لما أتى التتار وغلظوا العقوبات وأصبحت عقوبة معظم الجرائم عندهم القتل حكم العلماء بنفي هذا الذي حكموا به ، وحكموا بكفر من يتحاكم إلى الياسق وإلى غيره .

فالمسألة ليست مسألة تشدد ولا تسيب ولكن المسألة مسألة اتباع شرع الله بحذافيره ، بمعنى أننا لو افترضنا أن هناك أناس لديهم ميول في تشديد العقوبات [ لما كان هذا أمرًا مقبولًا ؛ لأن ] الله تعالى وحده هو الذي يحكم في عباده ، فالله تعالى هو الذي خلق الإنسان ، وهو الذي يحكم فيه ، فلا يجوز لك أن تعتدي على بدنه أو ماله بغير إذن من الله .

لذلك الذي يضع السارق في السجن فقد اعتدى عليه من جهة أخرى لأنه من حقه أن يعيش في الخارج ، فالسجن ظلم ؛ لأن الشرع أتى بعقوبة حاسمة ولكنها في نفس الوقت لا تمتهن آدمية الإنسان ، بعكس النظرية التي يقولونها تمامًا ، فإن الإنسان الذي يبتر منه هذا العضو الذي آذى به المجتمع مع وجود شروط في السرقة تقول أن هذا الذي يسرق بالفعل خطر على المجتمع وخطر على نفسه ، وبعد ذلك يترك لكي يتعلم دين الله ، ويتوب وليس كما يفعلون هم من الإتيان به وسط المجرمين ليزداد إجرامًا ، ويزداد خبرة ، وهذا أمر أعترف به الغرب .

فإن السجون في حد ذاتها مشكلة في عبئها المادي فتخيل شخصًا يسرق ، ثم يأتي ونقول له فلتأتي لتعيش في السجن على حساب الناس مرة أخرى ! ! ، انظروا ، سرقهم أولًا ثم ينفق عليه من أموال الجمهور ، والقوانين الأوربية المتعسفة جدًا تقول : نعيشه أرفع عيشة ! ! , وذلك يكون على حساب  الناس .. انظر .. يسرقهم أولاً ويسرقهم ثانيًا ! ! .

ثم هو بالإضافة إلى ذلك هو يجلس في وسط لا يساعده على التوبة ، ولا يساعده على الرجوع ؛ فيزداد إجرامًا ، ويزداد معرفة وخبرة كما هو الواقع الذي لا ينكره أحد ،  فمن جهة أنت اعتديت عليه بأن حبسته عن معاشه ، والشرع لم يأذن لك أن تحبسه عن معاشه إلا في نطاق ضيق جدًا ، فالحبس عقوبة استثنائية جدًا في الشرع ، وليس عقوبة أصلية .

ومن جهة أخرى تركت العقوبة الشرعية المقدرة ، ومن جهة ثالثة الحبس له ظلم للمجتمع كله حيث تنفق أموال المسلمين على رعاية المجرمين وزيادتهم في إجرامهم ، ومهما ادعوا أن هذه فرصة لكي ينصلح حالهم فكيف يكون ذلك ؟ ! ! .

إن الرجل الذي قتل مائة نفس أمره العالم أن يترك بلده فإنها بلد سوء ، وهذه البلد ليست كلها مجرمين ، ولكن كونها بها شخص بهذه الدرجة من الإجرام ، فمن المؤكد أنها بلد سوء إما أن غالبها إجرام ، وإما أنها تعين المجرم على إجرامه ، وأخبره أن لا يلحق بها وقال له : « الحق بأرض كذا وكذا فإن بها قومًا صالحين فاعبد الله معهم » .

إذن فصلاح المجرم أن تضعه في مجتمع صالح ، أما أن تضعه في مجتمع كله مجرمين ، ثم تطلب منه أن ينصلح [ فهذا أمر لا يقبله عقل فضلًا عن شرع الله  ـ عز وجل ـ  ] .

 ثم إنه كان يسرق لكي يعيش فالآن هو بعد أن سجن فهو يعيش حتى أنك تجد كثيرًا من المجرمين الذين هم خارج السجن كانوا في ضيق من العيش يقول : « أسرق مرة أخرى حتى أعيش داخل السجن ما دمت غير قادر على العيش خارجه ! ! » ناهيك عن البلاد التي تصنع له إقامة فندقية فهذا ماذا يريد أكثر من ذلك ؟ ! ! ! .

نقول : إن الله  ـ عز وجل ـ  هو الذي يحكم في المسلمين ، فحينما يغلظ أحد العقوبة فقد تعدى على شرع الله ، وتعدى على حق أخيه ، فإن كان يريد أن يحكم بين الناس ، فليحكم بينهم بما أنزل الله ، والله تعالى حكيم عليم خبير ، فتجد أن عقوبة كل جريمة في الشرع زاجرة عنها تمامًا لا تزيد ولا تنقص ، فلا تغلظ عقوبة يحصل الزجر فيها بقدر يسير ، والعكس بالعكس .

فالقضية ليست قضية تشدد ولا تسيب كما يزعمون ، وإنما القضية قضية تطبيق للشرع ، وذلك حتى إن قضية تحكيم الشرع بالنسبة لنا قضية أشمل بكثير من قضية العقوبات أو غيرها .

فهم كثيرًا ما يتهمون المتبعين للسنة بالتشدد ؛ وذلك  لأنهم يأمرون الناس بالحجاب ، ويأمرونهم بإقامة الصلاة ، ويأمرونهم بالصلاة في جماعة ، ويحرمون أنواعًا من المحرمات التي حرمها الله ، فلو أن هذا تشدد فمن الذي يتشدد عندما يموت شخص يقول لكم : لا تنفقوا أموالكم بل وأموال اليتامى أحيانًا على أمور لا فائدة فيها ، فإكرام الميت :  تغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه ، ولماذا الأنوار والزينات التي تتشابه في كثير من مظاهرها مع الأفراح ؟ ! .

فالقضية أن الشيطان يريد أن يحرف الناس عن الدين فهم هنا تسيبوا وقالوا : وسع علينا ولا تتشدوا فما الذي جعله يتشدد هنا ويلبس ثوب التشدد ؟ فلا بد أن يقيم للميت سرادق للعزاء ولا بد أن يأتي بمقرئ ، ثم بعد ذلك الأربعين وكذا وكذا ، ويتكلف أنواعًا من الأموال وأنواع من الجهد أليس هذا بتشدد ؟ ! .

وحين ننكر كثيرًا من الحفلات سواء الشخصية أو العامة تجد عند الناس الآن عشرات الأعياد ، وكل منها له عبؤه المادي والمعنوي ناهيك عن أعياد الميلاد وغيرها ، فكل هذه أمور ما أنزل الله بها من سلطان فمن المتشدد إذن ؟ ! .

فالقضية ليست قضية تشدد ولا تسيب ، وإنما القضية قضية تطبيق للشرع سواء كان هذا فيما يتعلق بالنظام القضائي كله ، أو يتعلق بالعقوبات كجزء منه ، أو بما يتعلق بالتشريع العام للناس ، ففي وقت من الأوقات كنا نقول : « تحرير تجارة العملة فيه خير للناس » فقالوا : « لا ، هذه خيانة عظمى » فمن الذي تشدد واعتبر هذا من المحرمات ، وهي ليست من المحرمات ؟ .

قضية التسعير إما إنه غير جائز أصلًا ، وهذا هو الراجح ، وإما أنه لا يجوز إلا في أضيق الحدود ، ففي وقت من الأوقات كان التسعير عند هؤلاء أمر لا بد منه فالمسألة تشمل جميع الفروع ، بل إن المسائل التي يظنوها تشديدًا في دين الله ، لو تأملت سوف تجدها تيسيراً فمسألة : « لا نكاح إلا بولي » مسألة كنا وما زلنا نؤكد عليها فالحديث صريح : « أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل » .

فكون الإمام أبو حنيفة : لم يصل إليه الحديث نقول : « الإمام أبو حنيفة حبيب إلينا والحق أحب إلينا » وقد قال : « إذا وجدتم قولي يخالف قول النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  فاضربوا بقولي عرض الحائط » .

فنحن نجزم أن الإمام أبا حنيفة أو غيره لو  بلغه الحديث لم يكن من الممكن أن يقول بخلافه ، فالحديث واضح وصريح لا يحتمل , إذن لا بد من القول بمقتضاه , ولكنهم قالوا : « مذهب أبو حنيفة في هذه المسألة أيسر ! ! » ، من قال أنه أيسر ؟ .

وحينما أتاهم النكاح العرفي « الزواج العرفي » وهو مفسدة اجتماعية تهدد كيان المجتمع ، وهو أن طلبة وطالبات في الجامعة يتزوجون زواجًا عرفيًا فما الفرق بين العرفي والرسمي ؟

الجواب : المأذون ، هل تقدر أن تقنع أي عاقل أن وجود هذا الرجل لا سيما مع الهيئة الإعلامية التي يقدم بها المأذون فليتهم جعلوا المأذون في صورة جيدة ، فالإعلام جعل من المأذون صورة كوميدية للإضحاك كوسيلة للطعن في الدين كله ، فهل يمكن أن أي عاقل أن هذا الزواج برمته باطل ؟ ! فتاة تجلس مع شاب في الجامعة ويأتون بالشهود فتقول له : « زوجتك نفسي ! » فيقول : « قبلت » هكذا الزواج باطل ، ولو ذهبوا لمكتب المأذون الذي سيقولون فيه نفس الكلام إلا إنهم سيدفعون فوق هذا مبلغًا سيزيد نتيجة أنهم ليس عندهم الأوراق القانونية الكافية لذا سيأخذ منهم زيادة في كثير من هؤلاء ، أهذا الذي سيكون فرقًا بين الشرعي وغير الشرعي ؟ هذا أمر غير مقنع بالمرة .

ولما أعدوا حملة لمحاربة الزواج العرفي قالوا : « إنه باطل لأنه بغير ولي ! ! ؛ لأن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  يقول : « أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل » فهل تغيرت مثلًا القوانين التي تبيح للمأذون أن يعقد الزواج بغير ولي ؟ ! لا , بل ما زالت موجودة .

إذن إباحة الزواج بغير ولي تعسير ، ولكن من الممكن أن ترى بادئ الأمر أنه ما دام قد حذف شرط فإن هذا تيسير ، فشخص يقول : « هذا الشرط لازم » وآخر يقول : « غير لازم » فقد يُرى بادي الأمر أن إضافة الشرع بطبيعة الحال ستفسر على أنها تعسير ، ولكن لا بد - وإن كان أشد من الأخرى في إطارها الشكلي - أن يكون لهذا الشرط فائدة وإلا لم يكن الشرع قد اعتبره ، وهذه الفائدة تظهر لما عندما تكون البنات صغيرات السن [ ودخلوا في الزواج العرفي خاصة ] ، بالذات إذا اكتملت الصورة من أن هناك إعلام يؤدي للشهوات ، وهناك كذا وكذا ، فسيروا أن المجتمع يكاد أن يدمر لذا يرجع ويقول : « لا بد من النكاح بولي » .

إذن فالقضية هنا قضية تطبيق كامل لشرع الله ، وقضية تحاكم إلى دين الله تعالى ، وهذا هو المقصود من هذه القضية ، ويشمل هذا  كل مناحي الحياة ، وكل مظاهر التشريع ، وهذا الخطاب موجه للجميع .

ومما يعتبر خللًا في قضية تحكيم الشرع من الابتداع ؛ لأنه يخالف شرع الله تعالى فيما يخترع من أنواع البدع ، وفيما يخترع من أنواع الأمور التي لم ينزل الله  ـ عز وجل ـ  بها من سلطان .

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

ربما يهمك أيضاً

الولاء والبراء -12
1563 ٢٧ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -11
1704 ١٨ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -10
2032 ١١ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -9
2028 ٠٤ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -8
1665 ٢٨ ديسمبر ٢٠١٥
الولاء والبراء -7
1429 ٢١ ديسمبر ٢٠١٥