السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

(نصيحة موضوعية للتيارات الجهادية (2

مراحل تشريع الجهاد ذكرها الدكتور علي بن نفيع العلياني في رسالته القيمة عن الجهاد في سبيل الله فسنلخصها وننقل عن علماء المذاهب الأربعة ما يوضح هذا الموضوع ويزيل عنه اللبس

(نصيحة موضوعية للتيارات الجهادية (2
محمد إسماعيل المقدم
الجمعة ٢٣ يناير ٢٠١٥ - ١٤:١٧ م
2606

نصيحة موضوعية للتيارات الجهادية (2)

د. محمد إسماعيل المقدم

المحاضرة الثانية

ذكرنا بعض الأمور التي تقتضي الكلام في هذا الموضوع الآن وأن هناك عوامل تمنع من الكلام وعوامل ترجح الكلام ولكن قلنا أنه من باب التناصح وتبيين بعض المفاهيم وإزالة الخلط بين الأوراق كما ذكرنا وجسامة العواقب المترتبة على الانحراف في فهم بعض هذه القضايا فلذلك كان الكلام في هذه الموضوع.

وذكرنا مقدمة حول خطة هذا البحث وما يحتويه وذكرنا أننا ننطلق من ثوابت لا خلاف فيها على الإطلاق بين الصف الإسلامي فهذه الثوابت المتفق عليها والمجمع عليها والتي لا تقبل النقاش بحال من الأحوال:

أولها:عدم الرضا بواقع هذه الأمة لأن من يرضى بواقع هذه ويقول ليس في الإمكان أحسن من هذا الواقع!! فإنه لن يتحرك للإصلاح بأي صورة من الصور فهذا ليس داخلًا في صف الدعاة إلى الله -سبحانه وتعالى- فالداعية هو الذي ينتدب نفسه للإصلاح ومحاولة تغيير هذا الواقع.

فداخل الصف الإسلامي الدعوي جميع الفصائل متفقة ومجمعة على أن هذا الواقع لا يرضي الله -سبحانه وتعالى- وليس هو وضع الأمة المحمدية التي أعزها الله تبارك وتعالى بهذا الدين.

يلي ذلك اعتبار آخر لا يقل عن هذا أهمية:

وهو أن الجميع متفقون على وجوب العمل لتغيير هذا الواقع، فقد يحصل الخلاف في كيفية الوصول لهذه النتائج المرجوة وقد يوجد في هذا خلاف سائغ وقد يوجد فيه أحيانًا خلاف غير سائغ تبعًا لموافقة أدلة الشريعة من الكتاب ومن السنة.

ذكرنا من قبل في الأسبوع الماضي- أن الكلام على أحكام الجهاد ينقسم إلى نوعين:

النوع الأول: حالة ما إذا كان للمسلمين دار دولة- وسلطان وقوة على الجهاد وكانوا ممكنين ففي هذه الحالة يكون الجهاد على نوعين:

الجهاد الأول: هو جهاد الطلب والابتداء وهو أن يتطلب الكفار في عقر دارهم يدعون إلى الإسلام فإن أبوا فإنهم يقاتلون حتى يخضعوا لحكم الله تبارك وتعالى وذكرنا أن حكم هذا النوع أنه فرض على مجموع المسلمين ودليله قوله تبارك وتعالى ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ...﴾ [التوبة: 5] إلى آخر آية السيف.

ثم ذكرنا بعد ذلك النوع الثاني من أنواع الجهاد وهو جهاد الدفاع وذكرنا أنه فرض عين على المسلمين جميعًا حتى يندفع شر الأعداء وهذا بإجماع علماء الإسلام.

وهذا الدفاع إذا غلب العدو على بلدة من بلاد المسلمين أو قطر من الأقطار ويجب على كل من في هذا القطر أن يخرج وينفر خفافًا وثقالًا شبابًا وشيوخًا كل على قدر طاقاته من كان له والدان فبغير إذن الوالدين ولا يتخلف أحد عن الخروج لصد هذا العدو وهذا الواجب يكون لكل من اقترب من المسلمين فيكون الفرض في حقه أقوى ممن ابتعد.

كما ذكرنا أنه لا خلاف في أحكام الجهاد فرض العين أو جهاد الطلب أو جهاد الدفاع أن أحكام هذا الجهاد هي إذا ما كان للمسلمين دار وسلطان وكان بهم قوة على جهاد أعدائهم أما إذا لم يكن لهم دار ولا سلطان ولم يكونوا ممكنين فينتقل الكلام إلى الموضوع الذي أجلناه إلى هذه المرة وهو الكلام على:

مراحل تشريع الجهاد

وقد ذكرها الدكتور علي بن نفيع العلياني في رسالته القيمة عن الجهاد في سبيل الله فسنلخصها وننقل عن علماء المذاهب الأربعة ما يوضح هذا الموضوع ويزيل عنه اللبس.

ذكرنا أن من قبل أن الجهاد الإسلامي مر بعدة مراحل قبل أن يصل إلى حكمه الذي تقدم بيانه.

فأول مرحلة من مراحل الجهاد أو المراحل المتعلقة بالجهاد هي:

مرحلة الكف عن المشركين والإعراض عنهم والصبر على أذاهم مع الاستمرار في دعوتهم إلى دين الحق وبيان دين الإسلام بالأدلة وبيان تفاهة معبودات الجاهلية وضلال أهلها وخسارتهم في الدنيا والآخرة.

وهذا أمر مهم جدًا فلا يعني عدم قيام المسلمين نتيجة بعض الظروف بالجهاد بأحد نوعيه السابقين لا يعني ذلك مهادنة الباطل أو التوقف عن الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- أبدًا بأي حال من الأحوال حتى ولو كان الإنسان في وسط الكافرين أنفسهم فلا بد أن يفزع مبلغًا دين الله تبارك وتعالى ومجاهدًا هذا الباطل ومنكرًا إياه بقدر استطاعته.

فالعجز عن الجهاد الفعلي لا يعني مهادنة الباطل أو إقراره أو التصالح معه بل كما سنلاحظ إن شاء الله أنه في هذه المرحلة التي كان المسلمون فيها في أشد مراحل الضعف والاضطهاد ومع ذلك أمروا بالثبات على الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- وتسفيه آلهة المشركين ولا أقول «سب» لأن هذا فيه تفصيل آخر- لكن أقصد تسفيه هذه الآلهة والدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له.

فقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه عن قتال أهل مكة في هذه الفترة فقال لمن قال له: «كنا في عز ونحن مشركون فلما آمن صرنا أذلة؟» كان بعض الصحابة يستحثه على قتال المشركين في الفترة المكية فكان -صلى الله عليه وسلم- يقول لهم: «إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا» رواه النسائي والبيهقي والحاكم وقال: «صحيح على شرط البخاري» ووافقه الذهبي.

تأمل هذا الأمر وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- مؤيدًا بالوحي ومع ذلك امتنع رغم أن أصحابه كانوا يعذبون وكانوا يبتلون فامتنع عن تحريض المسلمين على قتالهم، فكان الجهاد في هذه المرحلة محرمًا أو ممنوعًا أو محظورًا على المسلمين أن يقاتلوا المشركين فكان يقول لهم: «إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا».

ذكر الله -سبحانه وتعالى- هذا النهي في القرآن الكريم حين قال -عز وجل- ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ يعني لا تمتد أيديكم بقتال للمشركين ولا لأعداء الدين ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ﴾ لما فرض عليهم القتال بعد ذلك ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ [النساء: 77].

ولما استأذن النبيَّ أهلُ يثرب ليلة العقبة أن يميلوا على أهل منى فيقتلوهم فقال -صلى الله عليه وسلم-: «إني لم أومر بهذا».

وقال الحافظ ابن كثير : تعالى عند تفسير قوله تعالى ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ﴾ [الجاثية: 14] أي: يصفحوا عنهم ويحملوا الأذى منهم.

وهذا كان في ابتداء الإسلام، أمروا أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب، ليكون ذلك لتأليف قلوبهم ، ثم لما أصروا على العناد شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد. هكذا روي عن ابن عباس، وقتادة».

وقال ابن حجر: «فأول ما شرع الجهاد بعد الهجرة النبوية إلى المدينة اتفاقًا» يعني أن هذه أول مرحلة شرع فيها الجهاد وفرض على المسلمين أما قبل ذلك فمنع المسلمون من الجهاد.

وقال القرطبي : تعالى: «ولم يؤذن للنبي -صلى الله عليه وسلم- في القتال مدة إقامته بمكة» لأنه لا بد في الجهاد من تمايز واضح بين الصفوف ولا بد في الجهاد أيضًا من أرض تتخذها الأمة المسلمة قاعدة ترتكز عليها، لا بد من راية وإمام وأمير يجتمع عليه المسلمون لأن الجهاد - بالصورة التي نتكلم عنها- وظيفة أمة بكاملها وليست وظيفة أفراد معدودين وليست موكلة لآحاد من الناس وسيأتي مزيد بيان وتوضيح هذا الأمر.

حاول بعض الكتاب المعاصرين ومنهج الشيخ سيد قطب : استنباط حكمة الأمر بالكف عن القتال في تلك المرحلة المكية فنلخص ما قاله.

قال: «كانت الفترة المكية فترة تربية وإعداد؛ في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة، وكانت التربية في هذه البيئة تهدف على تربية نفس العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به؛  ليخلص من شخصه ، ويتجرد من ذاته».

أي أنها كانت عملية تربية على أن لا ينتصر لنفسه ولا ينظر لذاته.

يقول: «ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به ، محوراً لحياة في نظره ، ودافع الحركة في حياته.

وتربيته كذلك على ضبط أعصابه؛ فلا يهتاج لأول مهيج؛  ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته.

وتربيته على أن يتبع مجتمعاً منظماً له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته؛ ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره - مهما يكن مخالفاً لمألوفه وعادته -».

ثانيًا: قال: «ربما كان القتال دافعًا لقريش ذات العنجهية إلى مزيد من العناد ونشأة ثارات دموية جديدة كثارات العرب التي أثارت حرب داحس والغبراء والبسوس حتى تفانت قبائل برمتها ويتحول الإسلام من دعوة ، إلى ثارات وذحول تنسى معها فكرته الأساسية ، وهو في مبدئه.

وربما كان اجتناباً لإنشاء مقتلة في داخل كل بيت، فكان أولياء كل فرد يعذبونه ويفتونه ومعنى الإذن بالقتال في تلك  البيئة أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت ثم يقال: هذا هو الإسلام» أي: يقال: أن الإسلام أتى ليذبح الابن أباه والأب ابنه فيحصل تشويه لصورة الدعوة الإسلامية بأن دعوة دموية وأنها تقطع الرحم وتفعل وتفعل.

يقول: «ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال! فقد كانت دعاية قريش في الموسم، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة : إن محمداً يفرق بين الوالد وولده؛ فوق تفريقه لقومه وعشيرته! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد ، والمولى بقتل الولي . . في كل بيت وكل محلة؟.

وربما كان ذلك أيضاً» أي الأمر بالكف في تلك المرحلة «لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم، ويعذبونهم ويؤذونهم؛ هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته.

ألم يكن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في تلك المرحلة من بين هؤلاء الذين يعذبون المؤمنين؟! وكانت له جارية تسمى زهيرة فكان يعذبها أشد العذاب بسبب إسلامها.

«وربما كان ذلك أيضًا لقلة عدد المسلمين حين ذاك وانحصارهم في مكة حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة أو بلغت أخبارها متنافرة، فربما انمحت الجماعة المسلمة ولم يقم للإسلام نظام إذا تعجلوا المصادمة.

وفي الوقت ذاته لم تكن هناك ضرورة ملحة لتجاوز هذه الاعتبارات والأمر بالقتال ودفع الأذى لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كن قائمًا وقتها ومحققًا، هذا الأمر الأساسي هو وجود الدعوة، وجودها في شخص الداعية وشخص الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حماية سيوف بني هاشم فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع، والنظام القبلي السائد يجعل كل قبيلة تخشى أن تقع في حرب مع بني هاشم إذا هي مدت يدها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان شخص الداعية من ثم محميًا حماية كافية».

صحيح أن الحماية ليست في يد المسلمين لكنها كانت حماية طبعية لا شرعية فكانت محبة قومه له أو دفاعهم عنه من باب الحمية والعصبية القبلية هذا بخلاف المحبة الشرعية التي هي محبة الصحابة والمسلمين للنبي -صلى الله عليه وسلم-.

«وكان الداعية يبلغ دعوته إذن في حماية سيوف بني هاشم ومقتضيات النظام القبلي فلا يكتمها ولا يخفيها ولا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغها وإعلائها في ندوات قريش في الكعبة ومن فوق جبل الصفا وفي اجتماعات عامة ولا يجرؤ أحد على سد فمه ولا يجرؤ أحد على خطفه وسجنه أو قتله ولا يجرؤ أحد على أن يفرض عليه كلامًا بعينه يقوله يعلن فيه بعض حقيقة دينه ويسكت عن بعضها.

وحين طلبوا إليه أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف وحين طلبوا إليه أن يسكت عن عيب دين آبائهم وأجدادهم وكونهم في جهنم لم يسكت -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك.

وحين طلبوا إليه أن يدهن ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ [القلم: 9] حين طلبوا إليه أن يداهنهم فيجاملوه ويقابلوا هذه المجاملة بمداهنة بأن يتبع هو بعض تقاليدهم ليتبعوا هم بعض عبادته لم يدهن هو -صلى الله عليه وسلم-.

«وعلى الجملة كان للدعوة وجودها الكامل في شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محروسًا بسيوف بني هاشم، وفي إبلاغه لدعوته ربه كاملة في كل مكان وفي كل صورة وبالتالي فلم تكن هناك ضرورة قاهرة لاستعجال المعركة والتغاضي عن كل هذه الاعتبارات البيئية التي هي في مجموعها مساندة للدعوة ومساعدة في مثل هذه البيئية».

هذا ليس من كلام شخص عادي وإنما هو من كلام سيد قطب : تعالى في «الظلال».

نحن نعرف من خلال هذه المرحلة كيف لما أتى خباب بن الأرت -رضي الله عنه- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في الحديث الصحيح: «أتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلنا: «يا رسول الله ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟!» فقال -صلى الله عليه وسلم-: «لقد من قبلكم يؤتى بالرجل فيحفر له حفرة في الأرض ثم يوضع فيها ثم يوضع المنشار على رأسه ثم يشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يرده ذلك عن دينه، والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرت موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون».

فالمتكلم هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذن ليس التفسير الوحيد لمن يسلكون الحكمة والموعظة الحسنة في طريق دعوتهم ليس التفسير الوحيد في ذلك أنهم جبناء وأنهم ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ﴾ [التوبة: 87] وأنهم لا ينقصهم إلا أن يلبسوا كذا... وكذا... كما يفعل بعض الناس أو يقولون.

فهذا الكلام صدر من النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مؤيد بالوحي في مثل هذه المرحلة، فليس هذا هو التفسير بل هذا من سوء الظن - إن لم يكن من سوء الأدب- مع الشيوخ والعلماء والدعاة فهذا مما لا يليق أن يدفع في نحر من يخالفك في الرأي وأن تتطاول عليه بمثل هذه الأشياء.

فليس هذا كما ذكرنا هو التفسير الوحيد لعدم الرضا، وكما ذكرنا أنه تقع بعض الضغوط داخل الصف الإسلامي وخارجه فمن ضغوط الداخل:

وقابلة الناس بمثل هذه العبارات القاسية والفجة في سبيل فرض قناعة معينة على المخالفين.

فالنبي -صلى الله عليه وسلم- عدل عن الدعاء وهم يقولون: «ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟!» فانظر كيف علمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هذه سنة ماضية من الله -عز وجل- لا تتخلف أبدًا ولا يمكن أن يحصل تمكين إلا بعد الابتلاء.

صحيح أن لا تحتاج البلاء لنفسك لكن هذا قانون من قانون الدعوات، والأمر على الله يسير فهو قادر على أن يقول للشيء: «كن» فيكون، أليس الله -عز وجل- بقادر على أن يقول لكل من على وجه الأرض: «كن» فيكونون على أتقى قلب رجل واحد منهم؟! أليس هو بقادر أن يجعل كل من على وجه هذه الأرض على مثل قلب وإيمان عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-؟!

فالله قادر على ذلك، لكن هذا ينافي حكمة الابتلاء؛ لأن الملائكة هم الذين لا يعصون الله ما أمرهم، أما هذه فهي دار ابتلاء وامتحان.

فالله قادر بكلمة: «كن» أن يزيل كل ما على الأرض فساد ومحارة للمسلمين وأذية لهم وصد عن سبيل الله ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ [محمد: 4] ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: 25]  ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾ [الفرقان: 20]

فهذه حكمة الله -سبحانه وتعالى- فلا بد في الدعوة إلى الله من الابتلاء كما أنك مطالب بأن لا تستجلب الابتلاء بتقصير مثلًا أو باستعجال.

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاثبتوا» فعدل عن الدعاء لهم لما سألوه إياه فكأنه لما كان يخالف سنن الله لم يدع لهم لأنه لم يحن بعد لكنه عدل عن ذلك بمواساتهم بأن هذه سنة من سنن الله -سبحانه وتعالى- فهذه سنة جارية في الكون أنه لا بد من البلاء، ولذلك جاء في رواية أخرى لحديث خباب: «شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حر الرمضاء فلم يشكنا».

قال بعض العلماء أن المقصود بقولهم: «حر الرمضاء» أنهم أرادوا أن يستأذنوا في الإبراد بصلاة الظهر أي أن يؤخروا صلاة الظهر حتى يفيء الفيء في الطرقات فيتمكنون من الخروج للمسجد في هذا الفيء من شدة الحر.

وقال بعض العلماء كالحافظ ابن كثير في قوله: «شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حر الرمضاء» أي: تعذيب المشركين إيانا في حر الرمضاء، «فلم يشكنا» أي: فلم يزل شكونا ولم يدع لنا وإنما عدل كما في الرواية الأخرى إلى مواساتهم بأن هذه سنة ماضية من الله -سبحانه وتعالى-.

فكل إنسان يختار طريق الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- فلا بد أن يعرف من البداية طبيعة هذا الطريق، فإن اخترت من البداية هذا الطريق ورضيت أن يكون هدفك الجنة والفوز برضوان الله -سبحانه وتعالى- والفوز بالحسنى فلا بد أن تدفع ضريبة حتى تصل إلى هذا الهدف.

كما تفعل في الطرق السريعة المخدومة في البلد التي تقصدها بيسر وسماحة وسهولة لأنها طرق مخدومة فلا بد أن تدفع أولًا رسومًا لكي تمضي في هذا الطريق، فكذلك من رضي طريق الجنة فلا بد أن يدفع الثمن.

أما الذي يريد أن يلتزم بطاعة الله ولا يضحي ولا يعاني فهذا يختار طريق آخر لكن من أراد هذا الطريق فلا بد أن يدفع الضريبة حتى يصل أخيرًا إلى رضا الله -سبحانه وتعالى- لذلك لما سأل الإمام الشافعي وقيل له: «يا أبا عبد الله أيما خير للرجل: أيمكن أو يبتلى؟» أيما أفضل أن يمكن أو يبتلى؟! فقال الشافعي : تعالى: «لا تمكن حتى تبتلى».

ولذلك ارتبطت حتمية وقوع البلاء ببلاد الدعوة، فلما حصل ما حصل في ليلة القدر عندما نزل جبريل على النبي -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء كما هو معروف في رمضان وعاد إلى خديجة ليقول: «زملوني زملوني».

فاصطحبته إلى ورقة بن نوفل ابن عمها فلما أخبر بما حصل معه في الغار وقال: «لقد خشيت على نفسي» قال له: «هذا الناموس الذي أتزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا إذ يخرجك قومك» قال: «أو مخرجي هم؟!» قال: «نعم، لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا».

فما علم أحد بخبر هذه الدعوة ومع ذلك اقترن خبر ميلادها بخبر وقوع البلاء، إذن فالابتلاء سنة ماضية من الله -سبحانه وتعالى- ولا بد لكل من يسير في هذا الطريق أن يبتلى. وانظر في قصة الغلام والراهب لما بدت على هذا الغلام مخايل الولاية وأكرمه الله -سبحانه وتعالى- لما وقعت على يده بعض الكرامات قال له الراهب: «أي بني أنت أفضل منى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي» إلى آخر الحديث.

 إذن هذا الحديث يطول ولا نريد أن نخرج عن موضوعنا لكن هذه السنة حتمية في مرحلة من المراحل.

فينبغي حينما نتعامل مع مشاكل الواقع أن لا نفكر بطريقة مثالية وخيالية فنقفز فوق سنن الشرع والكون، فالسنن والقوانين - قوانين الله- لا تحابي أحدًا فليس لأجل أنك ملتحٍ وتقوم الليل وتصوم النهار وتسكن في الطابق العاشر فلا تتعجل النزول بأن تلقي نفسك من الطابق العاشر وتظن أن السنن سنة الجاذبية- ستحابيك لأن رجل صالح تعبد الله وتقرأ القرآن وتذكر الله، بل إذا ألقيت نفسك فستهلك.

فلا بد من احترام السنن ولا تستثني نفسك حتى تكون واقعيًا وتبدأ بداية صحيحة فبعض الناس مثلًا حينما يفكر في واقع المسلمين اليوم ويرى ما عليه الكفار من قوة ومن بأس وما عليه المسلمون من ضعف ما يريد أن يواجه المشكلة وأعباء الدعوة الحقيقية بل يبغي أمرًا من اثنين:

إما أن تأتي معجزة من السماء فلا بد من معجزة أو خارقة تخرج المسلمين من هذا الأمر فيقول: إما أن يخرج المهدي هكذا! ويمكن الله -سبحانه وتعالى- للدين ويعطل كل شيء في سبيل انتظار المهدي.

أو يقول: ستحصل حرب عالمية يدمر العالم فيها نفسه إلا المسلمين ثم بعد ذلك يقوم المسلمون من جديد على أنقاض هذه البشرية من جديد ليبنوها لأنه يخاف من المواجهة يخاف من أن يواجه الجاهلية أو يشفق على نفسه أو يكسل كما هي الحقيقة.

ونلاحظ أن كثيرًا من إخواننا إما أنه يشتعل إلى درجة الاحتراق وإما أنه يبرد إلى درجة التجمد لكن مرحلة بين الاثنين لا يريد أن يفكر وأن يتحمل مسئوليات الدعوة والصبر عليها وعلى تربية الناس وتغيير مفاهيمهم وغير ذلك من وظائف الدعوة.

بل إما أن يصطدم لدرجة الاحتراق ويتعجل هذه الأشياء ولا يريد أبدًا أ، يتحمل شيئًا كأنه لا توجد مرحلة متوسطة يستطيعها بل ربما نظر إلى نشاط الدعوة بنظرة الاحتقار والازدراء كما بينا وهذا إن شاء الله سنزيده تفصيلًا فيما بعد.

الشاهد أنه لا بد من سنة الابتلاء وأن من ارتضى لنفسه هذا الطريق فلا بد أن يدفع هذه الضريبة ويبذلها.

أما المرحلة الثانية فهي مرحلة: إباحة القتال من غير فرض:

أي أذن فيه ومن أدلة هذه المرحلة قوله تبارك وتعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 38-40]

يقول الحافظ ابن كثير : تعالى في تفسير هذه الآيات: «وقال غير واحد من السلف هذه أول آية نزلت في الجهاد، واستدل بهذه الآية بعضهم على أن السورة مدنية ... وإنما شرع الله -عز وجل- تعالى الجهاد في الوقت الأليق به؛ لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددًا، فلو أمرَ المسلمين، وهم أقل من العشر، بقتال الباقين لشَقَّ عليهم؛ ولهذا لما بايع أهلُ يثرب ليلة العقبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، - وكانوا نيفا وثمانين-، قالوا: «يا رسول الله، ألا نميل على أهل الوادي - يعنون أهل مِنَى- ليالي مِنى فنقتلهم؟» فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إني لم أومر بهذا».

فلما بَغَى المشركون، وأخرجوا النبي -صلى الله عليه وسلم- من بين أظهرهم، وهموا بقتله، وشردوا أصحابه شَذرَ مَذَر، فذهب منهم طائفة إلى الحبشة، وآخرون إلى المدينة. فلما استقروا بالمدينة، ووافاهم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، واجتمعوا عليه، وقاموا بنصره وصارت لهم دار إسلام ومَعْقلا يلجئون إليه - شرع الله جهاد الأعداء، فكانت هذه الآية أول ما نزل في ذلك، فقال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾» ا.ه أي: أبيح لهم

أما المرحلة الثالثة فهي: فرض الجهاد على المسلمين لمن يقاتلهم فقط:

أي جهاد الدفاع، فأوجب عليهم أن يقاتلوا من قاتلهم ومن أدلة هذه المرحلة قوله تعالى ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)﴾ [النساء: 90-91]

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : تعالى - مفصلًا ومبينًا هذه المرحلة-: «ولم يؤمروا بقتال من طلب مسالمتهم بل قال ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ﴾ [النساء: 89]».

أما من طلب المسالمة فهؤلاء لا يقاتلون.

يقول: «وكذلك من هادنهم لم يكونوا مأمورين بقتاله وإن كانت الهدنة عقدا جائزا غير لازم».

كذلك أيضًا مما يدل على هذه المرحلة مرحلة فرض القتال على المسلمين ممن يقاتلهم فقط السيرة الفعلية للنبي -صلى الله عليه وسلم-.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : تعالى: «فمن المعلوم من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- الظاهر علمه عند كل من له علم بالسيرة أنه -صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة لم يحارب أحدا من أهل المدينة بل وادعهم حتى اليهود خصوصا بطون الأوس والخزرج فإنه كان يسالمهم ويتألفهم بكل وجه.

وكان الناس إذ قدمها على طبقات: منهم المؤمن وهم الأكثرون ومنهم الباقي على دينه وهو متروك لا يحارب ولا يحارب وهو والمؤمنون من قبيلته وحلفائهم أهل سلم لا أهل حرب حتى حلفاء الأنصار أقرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على حلفهم».

فهذه هي المرحلة الثالثة أن القتال صار واجبًا فيقاتلون من قاتلهم فقط دون من سالمهم ووادعهم.

بعض الناس ينزعجون لهذا ويقول أن هؤلاء المتطرفون يعتبرونها مراحل، فالمسكين قلق على مستقبل الكفر يقول: «هم الآن يوادعون ويهادنون وكذا» بدلًا من أن يبقى فيما هو فيه من البلاء والشؤم ومحاربة دين الله -سبحانه وتعالى- فيكفيك هذا، أما أن تخطط لمستقبل الكفر أيضًا ولا تريد أن تقوم للإسلام قائمة حتى في المستقبل وتقول: «مراحل» فهذا على أنه ليس في قلوبهم حب للإسلام ولا خوف عليه ولا رغبة في التمكين له.

المرحلة الرابعة هي: قتال جميع الكفار على اختلاف أديانهم وأجناسهم ابتدءًا حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية على خلاف بين العلماء فيمن تؤخذ منهم الجزية.

هذه المرحلة بدأت منذ انقضاء أربعة أشهر من بعد حج العام التاسع من الهجرة ومن انقضاء العهود المؤقتة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والعمل على هذه المرحلة الأخيرة وعليها استقر حكم الجهاد، ومن بركات هذه المرحلة ذلك النور الذي عم الأرض من هذا الوقت إلى زماننا، هذا النور وهؤلاء البلايين الذين كتبوا عند الله من أهل الجنة إنما هو ببركة هذه المرحلة حينما انتدب الصحابة y وحملوا هذا الواجب وهذه الأمانة وبذلوا دماءهم وأموالهم وأنفسهم y وخرجوا إلى آفاق الأرض لينشروا هذا النور ويحرروا هذه الأمم من رق الكفر والشرك والوثنية والضلال والظلم فهذه بركات هذا الجهاد فكيف ينظر إلى هذا الجهاد على أنه قهر للأمم؟!.

فالصحابة y قهروا أممًا وما أكرهوا أحدًا على الدخول في هذا الدين ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]  كل ما في هذه القضية أن الله مالك هذه الأرض ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [آل عمران: 189] فالقضية أن الله -عز وجل- أمر بالجهاد وشرعه وهو مالك الملك -سبحانه وتعالى-، فهو الذي أمر هؤلاء الصحابة y المؤمنين بأن القرآن من عند الله وهو الذي أمرهم بأن يفتحوا بلاد الأرض لينقذوا الناس من الظلمات إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان.

ولو فتحت لهم البلاد بدون مقاومة وبدون قتال حتى يتمكنوا من تبليغ هذه الرسالة التي كلفهم بها خالقهم لما أريقت قطرة دم واحدة، لكن الذي حدث أن جيوش الكفر كانت تقف على حدود البلاد تمنع المسلمين من عرض هذه البضاعة وهذه الأمانة وهي هذا الدين وتبليغ هذه المسئولية فكانت تقف هذه الجيوش على حدود البلاد فتعوقهم عن أداء وظيفتهم وكان كل المطلوب أن تزال هذه العقبة حتى يتمكن المسلمون من أن يعرضوا على الناس مباشرة هذا الدين وإلا فأنتم تعلمون ما يحصل من وسائل الإعلام قديمة وحديثة من تشويه وصد عن سبيل الله حتى الآن فيظهر الدين للناس على خلاف حقيقته وآمَنُ الناس أن يحملوا هذا الدين على حقيقته هم أصحاب هذا الدين دعاته وعلماؤه-.

فلذلك كان الصحابة يزيلون هذه العقبة حتى يدلفوا إلى الشعوب مباشرة فيبلغوهم هذا الدين، فمن أسلم ونجا من النار فخير، ومن بقي على كفره يهوديًا أو نصرانيًا فيقر على ذلك ويخضع لحكم الله بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون.

بل إن أداء الجزية والصغار كان من رحمة الله بهؤلاء الكفار لأن الشريعة أبقتهم أحياء وفرضت عليهم الذلة والصغار حتى تبغضهم وتمقت إليهم هذا الكفر الذي أودى بهم إلى هذه المذلة، لأن الكفر إذا كان يورث المذلة والهوان فلا شك أن هذا كافٍ في التنفير من الكفر حتى يهتدوا إلى دين الإسلام.

والحديث يطول إن شاء الله فيما بعد فنفصل الكلام في هذا.

فهذه المرحلة - كما ذكرنا- بدأت بعد انقضاء أربعة أشهر من بعد حج العام التاسع ومن بعد انقضاء العهود المؤقتة وتوفي النبي -صلى الله عليه وسلم- والعمل على هذه المرحلة الأخيرة وعليها استقر حكم الجهاد.

من أدلة هذه المرحلة:

قوله تبارك وتعالى ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا﴾ يعني: أسلموا ووحدوا ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 5].

ومن أدلتها أيضًا:

قوله تعالى ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: 29].

ومن أدلتها:

قوله -صلى الله عليه وسلم-: «اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا فلا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال...» إل آخر الحديث الذي رواه مسلم.

ومن أدلتها: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله».

هذه باختصار المراحل الأربع التي مرت بها فريضة الجهاد.

نذكر الآن نصوص علماء من المذاهب الأربعة فنذكر من كل مذهب واحدًا يوضح لنا نصوص المذاهب في هذه المسألة:

فيما يتعلق بالمذهب الحنفي:

يقول الإمام السرخسي : تعالى: «وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مأمورا في الابتداء بالصفح والإعراض عن المشركين قال الله تعالى ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ [الحجر: 85] وقال تعالى ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: 94]

ثم أمر بالدعاء إلى الدين بالوعظ والمجادلة بالأحسن فقال تعالى ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]

ثم أمر بالقتال إذا كانت البداية منهم فقال تعالى ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ [البقرة: 191] أي: أذن لهم في الدفع وقال تعالى ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة:191] وقال تعالى ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: 61]

ثم أمر بالبداية بالقتال فقال تعالى ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [البقرة: 197].

أي: حتى لا يبقى على الأرض شرك، فهذا هو الهدف الأسمى للجهاد في سبيل الله وقوله ﴿حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ و«فتنة» هنا فاعل أي أن «كان» تامة، أيك حتى لا توجد فتنة، فتزول الفتنة من على وجه الأرض.

يقول: «وقال تعالى ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: 5]

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: «لا إله إلا الله» فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله».

فاستقر الأمر على فرضية الجهاد مع المشركين وهو فرض قائم إلى قيام الساعة» ا.هـ من «المبسوط» للسرخسي : تعالى.

في المذهب الشافعي:

يقول الإمام الشافعي : تعالى: «وأنزل الله -عز وجل- فيما يثبته به إذا ضاق من أذاهم ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّك يَضِيقُ صَدْرُك بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك﴾ إلى آخر السورة ففرض عليه إبلاغهم وعبادته ولم يفرض عليه قتالهم» يعني: عليك أن تبلغهم واجتهد في طاعة ربك.

يقول: «وأبان ذلك في غير آية من كتابه... ثم أذن الله -عز وجل- لهم بالجهاد ... ثم أذن لهم بأن يبتدئوا المشركين بقتال قال الله تعالى ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا من دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ الْآيَةُ وأباح لهم القتال بمعنى أبانه في كتابه فقال -عز وجل- ﴿وَقَاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ ... ولما مضت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مدة من هجرته أنعم الله تعالى فيها على جماعة باتباعه حدثت لهم بها مع عون الله قوة بالعدد لم تكن قبلها ففرض الله تعالى عليهم الجهاد بعد إذ كان إباحة لا فرضا فقال تبارك وتعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ﴾.

وهذا كلام الإمام الشافعي في «أحكام القرآن» باختصار.

المذهب المالكي:

يقول الإمام ابن رشد : تعالى: «وأول ما بعث الله نبيه u بالدعاء إلى الإسلام من غير قتال أمره به ولا أذن له فيه ولا جزية أحلها له فأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ذلك عشر سنين وهي التي أقام بمكة وحينئذ أنزل الله ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: 94] وقوله ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾ [المائدة: 13] وقوله ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256] وما أشبه ذلك من الآيات.

فلما هاجر إلى المدينة أذن الله تعالى له وللمؤمنين بقتال من قاتله وأمرهم بالكف عمن لم يقاتلهم فقال تعالى ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39] وقال تعالى ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 191] وقال تعالى ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾ [النساء: 90].

فكانت هذه سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين منذ هاجر إلى المدينة إلى أن نزلت سورة براءة وذلك بعد ثمان من الهجرة قاموا لله تعالى فيها بقتال جميع المشركين حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقال عليه الصلاة والسلام في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» إلا من كان له عهد عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن الله أتمه له إلى مدته فقال ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ إلى آخر الآية [التوبة: 4].

وفرض الله الجهاد حينئذ على جميع المسلمين كافة فقال ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 36] ا.هـ كلام الإمام ابن رشد.

المذهب الحنبلي:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : تعالى: «فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول الأمر مأمورا أن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده فيدعوهم ويعظهم ويجادلهم بالتي هي أحسن ويجاهدهم بالقرآن جهادا كبيرا قال تعالى في سورة الفرقان وهي سورة مكية ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 52]  وكان مأمورا بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك.

ثم لما هاجر إلى المدينة وصار له بها أعوان أذن له في الجهاد ثم لما قووا كتب عليهم القتال ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار فلما فتح الله مكة وانقطع قتال قريش ملوك العرب ووفدت إليه وفود العرب بالإسلام أمره الله تعالى بقتال الكفار كلهم إلا من كان له عهد مؤقت وأمره بنبذ العهود المطلقة» ا.هـ

وقال الإمام الحافظ ابن قيم الجوزية أيضًا: «فلما استقر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأيده الله بنصره، بعباده المؤمنين الأنصار، وألف بين قلوبهم بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم، فمنعته أنصار الله وكتيبة الإسلام من الأسود والأحمر، وبذلوا نفوسهم دونه وقدموا محبته على محبة الآباء والأبناء والأزواج، وكان أولى بهم من أنفسهم، رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة، وصاحوا بهم من كل جانب، والله سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح حتى قويت الشوكة، واشتد الجناح، فأذن لهم حينئذ في القتال، ولم يفرضه عليهم، فقال تعالى ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39] ...

ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقال: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: 190].

ثم فرض عليهم قتالَ المشركِينَ كافَّة، وكان محرَّماً، ثم مأذوناً به، ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورا به لجميع المشركين إما فرضَ عَيْنٍ على أحد القولين، أو فرضَ كِفاية على المشهور» ا.هـ

فخلاصة الكلام أن أمر الجهاد استقر على المرحلة الأخيرة التي ذكرت في سورة التوبة وهي قتال المشركين حتى يسلموا فإن أن يسلموا أو يقاتلون، وقتال أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية مع الذل والصغار.

وقال ابن القيم: «فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول «براءة» على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة، ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة».

روى الحاكم عن علي بن عبد الله بن عباس بقال: سمعت أبي يقول: «سألت علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: «لِمَ لَمْ تكتب في براءة «بسم الله الرحمن الرحيم»؟! قال: «لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان» ولهذا لم تبدأ بالبسملة كسائر السور.

وقال ابن كثير عند تفسير سورة التوبة: «هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما قال البخاري حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: «آخر آية نزلت: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ﴾  [النساء: 176] وآخر سورة نزلت براءة».

فلكون سورة براءة هي السورة المقررة لحكم المرحلة الأخيرة من مراحل الجهاد اعتبر علماء السلف أن المرحلة الأخيرة للجهاد ناسخة لما سبقها من المراحل.

نذكر أولًا من قال بالنسخ:

يقول الإمام ابن العربي : تعالى: «قوله تعالى ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾ ناسخ لمائة وأربعة عشر آية» فما من شك أن هذا الكلام- إذا قلنا أن النسخ بمعنى أزلت الحكم- لا يكون صحيحًا على الإطلاق بل يكون غلوًا من قائله.

وإذا رجعتم إلى كلام الإمام السيوطي في النسخ في محاولة حصره للآيات المنسوخة تجدها أقل من هذا بكثير بلا شك، وإن كان بالمعنى الذي سنبينه فيمكن أن يكون هذا مقبولًا.

والقول بالنسخ - أي أن آية السيف نسخت ما قبلها من الموادعة والدعوة بالحكمة والصفح والإعراض عن المشركين إلى آخره- هذا القول بالنسخ مروي عن الضحاك بن مزاحم، والربيع بن أنس، ومجاهد، وأبي العالية، والحسين بن فضل، وابن زيد، وموسى بن عقبة، وابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، وابن الجوزي، وعطاء.

وممن قال بالنسخ كذلك: ابن تيمية والقرطبي والشوكاني وجمع من العلماء في شتى العصور الإسلامية.

يقول الشيخ صديق حسن خان : تعالى : «وما ورد في موادعتهم أو في تركهم إذا تركوا المقاتلة فذلك منسوخ باتفاق المسلمين».

ذهب الإمام الزركشي : تعالى إلى أنه ليس في مراحل الجهاد نسخ بل يعمل بكل مرحلة عند الحالة المشابهة للحالة التي شرعت فيها وعاب على من قال بالنسخ.

قبل أن نستطرد نذكركم بحكم النسخ:

كلمة «النسخ» تطلق على عدة معانٍ وليس على معنى واحد فحينما يقال أن الأحاديث التي أوجبت على المسلم فرائض وواجبات أخرى فوق الشهادتين وفوق الأركان.

أحيانًا يقول العلماء هذه النصوص التي توجب الفرائض ناسخة للأحاديث التي فيها من قال: «لا إله إلا الله دخل الجنة» فهل معنى ذلك أنها أزالت حكمها؟!

لا، ما أزالت حكمها وإنما بينتها وأوضحت حقوقها ولوازمها.

والنسخ في اللغة يأتي بمعنى الإزالة، والنسخ عند الصدر الأول كان بمعنى مثلًا مطلق ثم قيد بعد، أو عام ثم خصص، أو مجمل ثم يبين، أو الإبهام بعد الإيهام بمعنى أن يأتي نص معين يوهم معنى معنيًا  ليس مرادًا للشارع فيأتي نص آخر بعده يزيل ويرفع هذا الإيهام فهذا كله يسمى نسخًا.

فلما وجد الإمام الزركشي علماء من السلف يقولون نسخت آية السيف كل موادعة فنسخت ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125] ونسخت ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾ [المائدة: 13] ونسخت ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ﴾ [الزخرف: 89] ونسخت ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ [الحجر: 85] ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ﴾ [الجاثية: 14]

فهم الإمام الزركشي من ذلك النسخ بالمعنى المتأخر الطارئ بعد ذلك في أصول الفقه.

فالنسخ في أصول الفقه له معنى اصطلاحي آخر هو أحد معاني المتعددة وهو الإزالة والرفع فقالوا في تعريف النسخ: هو أن يرد دليل شرعي متراخيًا أي: بعد فترة زمنية- عن دليل شرعي آخر مقتضيًا خلاف حكمه يستحيل الجمع بينهما، أي أن الحكمين متناقضين فهذا هو النسخ.

فظن الإمام الزركشي أن السلف الذين قالوا نسخت آية السيف كل موادعة وكل مهادنة وكل دعوة من قبلها قال: هذا لا يمكن، هذا غير صحيح.

والسبب في ذلك أنه حاكم عبارات السلف إلى مصطلحات وضعت بعدهم، وكان المفترض أن ينظر معنى النسخ عندهم، فهم ما أرادوا إزالة الحكم مثل النسخ في مراحل تحريم الخمر أو الربا، ما أرادوا ذلك لكنهم أرادوا أحد المعاني غير رفع الحكم وإزالته بحيث لا يجوز امتثاله بالكلية بالإجماع.

فالحكم المنسوخ لا يجوز العمل به، فقد حرمت الخمر على مراحل فلا يصلح الآن أن نقول لمدمن الخمر أنت الآن في المرحلة المكية فنبدأ معه بقوله تعالى ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219]  

ثم بعد فترة معينة نقول له ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء: 43] يعني: اشرب في أي وقت لكن وقت الصلاة لا تقرب الصلاة وأنتم سكارى ثم بعد ذلك نقوله له ﴿فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90].

هذا مستحيل لأنه لا يجوز العمل بالحكم المنسوخ بالإجماع، المنسوخ بمعنى النسخ الاصطلاحي في أصول الفقه وهو أن يرفع الحكم بحيث يحرم على المسلم أن يمتثله كلية، وكذلك الصلاة فهي في بداية تشريعها غير ما استقرت عليه في آخر الأمر وهكذا.

الشاهد أن هذا ما وقع مع الإمام الزركشي حيث قال أن من قال من السلف بأن آية السيف نسخت ما قبلها فهو مخطئ وعاب على من قال ذلك وقال هي ليست منسوخة بل هي منسوأة بالهمزة-. هذا كلام الإمام الزركشي :.

يقول: «قسم بعضهم النسخ من وجه آخر إلى ثلاثة أضرب:» ذكر الأول والثاني والثالث هو ما يهمنا.

قال: «الثالث: ما أمر به لسبب ثم يزول السبب كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر وبالمغفرة للذين يرجون لقاء الله ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحوها ثم نسخه إيجاب لذلك وهذا ليس بنسخ في الحقيقة وإنما هو نسء كما قال تعالى: ﴿أَوْ نُنْسِئُهَا﴾» هذا على قراءة أخرى والمُنَسَّأُ: المؤجل.

قال: «فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى».

فيقول الإمام الزركشي أن هذه عملية نسء وليست نسخًا أي: تأجيل، فيؤجل تطبيق آيات الجهاد حسب المرحلة التي فيها، فإن كانوا في حالة ضعف فينسأ أي يؤجل العمل بالحكم إلى أن يزول الضعف فإذا قووا عادوا إلى المرحلة التي تناسب المرحلة التي هم فيها.

كل هذا بناء على فهم الزركشي لاصطلاح السلف في النسخ لما قالوا: «نسخت براءة كل موادعة» أنهم يقصدون المعنى الاصطلاحي للنسخ.

يقول الزركشي: «وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف وليست كذلك بل هي من المنسأ بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر وليس بنسخ إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا».

هذه الفقرة الأخيرة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية : تعالى في كتابه: «الصارم المسلول».

فقول الإمام الزركشي : تعالى أن مراحل الجهاد يعمل بها في الظروف المشابهة للظروف التي شرعت فيها فهذا حق، أي أننا لا بد أن نراعي أمرًا مهمًا جدًا وهو أن كلا الفريقين المختلفين متفقون على موضوع المرحلية، واستصعب الزركشي وقوع النسخ هنا لكن النسخ في اصطلاحه هو النسخ المتأخر عند الأصوليين إذ حصر النسخ عندهم في معنى محدد، فما ارتضى الزركشي هذا وقال ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]

فقد يكون المسلمون في حالة ضعف فكيف يقال لهم: «افتحوا الأرض» وهم لا يستطيعون حتى مجرد الدفاع؟! كما أن القواعد الشرعية العامة تأبى تكليف الأمة بما لا يطاق، فقال أن هذه الآيات ليست بمنسوخة وخطأ من قال بالنسخ وقال بل هذا نوع آخر اسمه نسء.

فقول الزركشي :: «إن مراحل الجهاد يعمل بها في الظروف المشابهة للظروف التي شرعت فيها» حق ومتفق عليه.

أما تضعيفه لأقوال السلف القائلين بالنسخ ففيه نظر لأن السلف لا يقصدون بالنسخ المعنى قصده هو، وهو الإزالة حتى لا يجوز امتثال الحكم أبدًا وإنما يقصدون معنى أعم وأشمل من ذلك، فإن النسخ عندهم يشمل التقييد والبيان والتخصيص ونحو ذلك، فليس للإمام الزركشي : تعالى أن يحاكم السلف إلى اصطلاح المتأخرين .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : تعالى: «ولم يكن السلف يقبلون معارضة الآية إلا بآية أخرى تفسرها وتنسخها ؛ أو بسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تفسرها، فإن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تبين القرآن وتدل عليه وتعبر عنه وكانوا يسمون ما عارض الآية ناسخا لها فالنسخ عندهم اسم عام لكل ما يرفع دلالة الآية على معنى باطل وإن كان ذلك المعنى لم يرد بها».

يعني ولو لم تكن الآية ترد هذا المعنى الباطل، لكن فهمها بعض الناس خطأ فتأتي آية أخرى توضح هذا وترفع هذا المعنى الباطل الذي فهمه بعض الناس، ولا يقال أن بعض الآية تدل على معنى باطل لكن إذا معنى معارض للآية الأخرى فهذا الذي يسمى نسخًا وإنما يأتي البطلان في سوء فهم الناس فيفهم معنى باطل من الآية فتأتي آية أخرى فتوضح هذا فيسمى هذا نسخًا عند السلف.

يقول: «فالنسخ عندهم اسم عام لكل ما يرفع دلالة الآية على معنى باطل وإن كان ذلك المعنى لم يرد بها يرد بها وإن كان لا يدل عليه ظاهر الآية ؛ بل قد لا يفهم منها وقد فهمه منها قوم فيسمون ما رفع ذلك الإبهام والإفهام نسخا، وهذه التسمية لا تؤخذ عن كل واحد منهم.

وأصل ذلك من إلقاء الشيطان ثم يحكم الله آياته فما ألقاه الشيطان في الأذهان من ظن دلالة الآية على معنى لم يدل عليه سمى هؤلاء ما يرفع ذلك الظن نسخا كما سموا قوله: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ ناسخا لقوله ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾».

فشق ذلك على الصحابة فقالوا: «أينا يطيق ذلك؟!» فنزلت الآية الأخرى توضح لهم ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ فقالوا: أن قوله تعالى﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ ناسخ لقوله ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾  

 كذلك أيضًا اعتبروا قوله ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا﴾ ناسخًا لقوله تعالى ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه». هذا كلام شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» 13/30.

رجح بعض العلماء في العصور المتأخرة ما ذهب إليه الزركشي ظنًا منهم أن قول الزركشي يخالف قول السلف في العمل بالمرحلية في الجهاد فردوا على من قال بالنسخ في مراحل الجهاد وقالوا من قال من السلف أن آية براءة نسخت ما قبلها كلام غير صحيح وردوه وأبطلوه وقالوا بالمرحلية ظنًا منهم أيضًا أن معنى النسخ الذي استعمله الزركشي هو معنى النسخ الذي قصده السلف.

وحقيقة الأمر أن الخلاف بين الزركشي وبين علماء السلف هو في مسمى النسخ وليس في العمل بمراحل، فالخلاف في الذي يطلق عليه نسخًا وليس في موضوع مرحلية الجهاد أبدًا، وإلا فالسلف لا يكلفون المستضعفين من المسلمين - الذين شابهت حالهم حال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مكة- بالقتال وإنما الواجب عليه أن يجتهد لكي يصل إلى حال قوة يجاهد فيها الكفار لأنها الحال التي توفي عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي تمام الدين الذي يجب على المسلمين بذل قصارى الجهد لتحقيقها في الواقع البشري وهذه أقوال بعض السلف التي تؤيد هذا:

يقول الحافظ ابن حجر : تعالى عند الكلام على مهادنة الكفار بمال يدفعه المسلمون لهم في حال الضرورة، فقد أجاز العلماء للمسلمين في حال الضرورة والضعف أن يدفعوا مالًا للمشركين حتى يكفوا عنهم إلى أن يتقووا.

يقول: «وأما أصل المسألة فاختلف فيه فقال الوليد بن مسلم: «سألت الأوزاعي عن موادعة إمام المسلمين أهل الحرب على مال يؤدونه إليهم» فقال: «لا يصلح ذلك إلا عن ضرورة كشغل المسلمين عن حربهم» قال: «ولا بأس أن يصالحهم على غير شيء يؤدونه إليهم كما وقع في الحديبية».

وقال الشافعي: «إذا ضعف المسلمون عن قتال المشركين جازت لهم مهادنتهم على غير شيء يعطونهم لأن القتل للمسلمين شهادة وأن الإسلام أعز من أن يعطى المشركون على أن يكفوا عنهم إلا في حالة مخافة اصطلام المسلمين لكثرة العدو».

أي إذا خشوا أنهم إذا لم يهادنوهم ولم يدفعوا لهم يقول الشافعي: يمكن أن يصالحوهم دون أن يدفعوا لهم مال لأن المسلمين إذا قتلوا فهم شهداء ولأن الإسلام أعز من أن يدفع المسلمون مالًا للكفار حتى يكفوا عنهم الحرب.

قال: «إلا في حالة مخافة اصطلام المسلمين» إلا إذا كان الضعف شديد جدًا بحيث يخشى أن يصطلم ويباد المسلمون جميعًا.

يقول: «إلا في حالة مخافة اصطلام المسلمين لكثرة العدو لأن ذلك من معاني الضرورات وكذلك إذا أسر رجل مسلم فلم يطلق إلا بفدية جاز لا في حالة مخافة اصطلام المسلمين لكثرة العدو لأن ذلك من معاني الضرورات وكذلك إذا أسر رجل مسلم فلم يطلق إلا بفدية جاز». هذا في «فتح الباري».

وقال الإمام ابن قدامة: «لا تجوز المهادنة مطلقا من غير تقدير مدة لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية ... وتجوز مهادنتهم على غير مال لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- هادنهم يوم الحديبية على غير مال.

ويجوز ذلك على مال يأخذه منهم فإنها إذا جازت على غير مال فعلى مال أولى وهذا محمول على غير حال الضرورة.

فأما إن دعت إليه ضرورة وهو أن يخاف على المسلمين الهلاك أو الأسر فيجوز لأنه يجوز للأسير فداء نفسه بالمال فكذا هاهنا ولأن بذله المال إن كان فيه صغار فإنه يجوز تحمله لدفع صغار أعظم منه وهو القتل والأسر وسبي الذرية الذين يفضي سبيهم إلى كفرهم» هذا في «المغني».

وقال أبو حنيفة: «لا ينبغي موادعة أهل الشرك إذا كان بالمسلمين عليهم قوة، وإن لم يكن بالمسلمين عليهم قوة فلا بأس بالموادعة».

وقال الشيباني - بعدما ذكر كلام أبي حنيفة هذا-: «وإذا خاف المسلمون المشركين فطلبوا موادعتهم فأبى المشركون أن يوادعوهم حتى يعطيهم المسلمون على ذلك مالًا فلا بأس بذلك عند تحقق الضرورة».

ويقول الإمام ابن جَزِيٍّ المالكي الغرناطي: «لا يجوز الانصراف عن صف القتال إن كان فيه انكسار المسلمين وإن لم يكن فيجوز لمتحرف لقتال أو متحيز إلى فئة، والتحرف للقتال هو: أن يظهر الفرار وهو يريد الرجوع مكيدة في الحرب، والتحيز إلى جماعة حاضرة جائز» يعني: يفر منهم وينحاز إلى الجيش البعيد أو الموجود في المنطقة.

«واختلف في التحيز إلى جماعة غائبة من المسلمين أو المدينة ولا يجوز الانهزام إلا إذا زاد الكفار على ضعف المسلمين والمعتبر العدد في ذلك على المشهور، وقيل: القوة، وقيل: إذا بلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفًا لم يحل الانهزام ولو زاد عدد الكفار على الضعف.

وإن علم المسلمون أنهم مقتولون؛ فالانصراف أولى، وإن علموا مع ذلك أنه لا تأثير لهم في نكاية العدو وجب الفرار، قال أبو المعالي: لا خلاف في ذلك».

فهذه النقول عن هؤلاء الأئمة من المذاهب الأربعة وغيرهم تبين أن مقصود السلف بالنسخ في مراحل الجهاد ليس هو إزالة حكم المراحل حتى لا يجوز العمل بها مطلقًا فإن هذا من التكليف بما لا يطاق في حالة الاستضعاف والله -سبحانه وتعالى- يقول ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286].

فربط هذا الموضوع بالواقع المعاصر كما ذكرنا سنفصل الكلام فيه فيما سيأتي لأننا نستقبل أسئلة من الأخوة يكون فيها أحيانًا استعجال وقد قلت للإخوة في الأسبوع الماضي لا تتعجلوا حتى ننهي ثم ننظر إن شاء الله في هذه  الأسئلة.

مثل هذه القضايا كما بينا من قبل لا تتناول بالعاطفة ولا تتناول بأي نوع من الضغوط، فالإنسان يتكلم بما يعتقد أنه حق بغض النظر عن أمثال هذه الضغوط.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : تعالى: «فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب و المشركين.

وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين و بآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون».

ويقول الأستاذ سيد قطب : تعالى: «والعبرة في نهاية المراحل التي وصلت إليها المراحل الجهادية في الإسلام بأمر من الله لا بأوائل الدعوة ولا بأوساطها».

يعني: هذا تمام الإسلام ﴿أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].

ثم قال: «إن تلك الأحكام المرحلية ليست منسوخة بحيث لا يجوز العمل بها في أي ظرف من ظروف الأمة المسلمة بعد نزول الأحكام الأخيرة في سورة التوبة، ذلك أن الحركة والواقع الذي تواجهه في شتى الظروف والأمكنة والأزمنة هي التي تحدد عن طريق الاجتهاد المطلق أي الأحكام هو أنسب للأخذ به في ظرف من الظروف في زمان من الأزمنة في مكان من الأمكنة مع عدم نسيان الأحكام الأخيرة التي يجب أن يصار إليها متى أصبحت الأمة الإسلامية في الحال التي تمكنها من تنفيذ هذه الأحكام كما كان حالها عند نزول سورة التوبة وما بعد ذلك أيام الفتوحات الإسلامية التي قامت على أساس من هذه الأحكام الأخيرة النهائية سواء في معاملة المشركين أو أهل الكتاب».

وهو هنا يناقش أمرًا خطيرًا جدًا وهو أن بعض المهزومين كما سماهم كأنهم يستقبحون صورة الإسلام بتشريع بهذه الصورة فليس عندهم يقين أن هذا حكم الله صاحب هذا الملك والملكوت -سبحانه وتعالى- فيحاولون أن يعملوا في الإسلام عملية تجديد فيحذفون من الإسلام ما لا يوافق أهواء أعداء الله من اليهود والنصارى والمشركين وهذا للأسف الشديد يقع فيه أو يتورط فيه كثير ممن ينسبون إلى العلم وإلى الدعوة والإسلام بلا شك بريء من هذا الكلام كله.

فهو هنا يوضح أن هذه أحكام الله التي لا يملك أحد كتمانها أو تبديلها أو تزييفها.

يقول سيد قطب :: «إن المهزومين في هذا الزمان أمام الواقع البائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على أهل الجهاد في الإسلام يحاولون أن يجدوا في النصوص المرحلية مهربًا من الحقيقة التي يقوم عليها الانطلاق الإسلامي في الأرض لتحرير الناس كافة من عبادة العباد وردهم جميعًا إلى عبادة الله وحده وتحطيم القوانين والأنظمة والقوى التي تقهرهم على عبادة غير الله والخضوع لسلطان غير سلطان والتحاكم إلى شرع غير شرعه.

ومن ثم نراهم يقولون مثلًا: إن الله سبحانه يقول ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ [الأنفال: 61] ويقول ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ [الممتحنة: 8]

فالإسلام إذن لا يقاتل إلا الذين لا يقاتلون أهل دار الإسلام في داخل حدود هذه الدار أو الذين يهددونها من الخارج وأنه قد عقد صلح الحديبية مع المشركين».

ورأينا في يوم من الأيام من عقد مقارنة بين معاهدة اصطبل داود وبين صلح الحديبية وظل يذكر أوجه الشبه بينهما!.

وأقل شيء كما يحصل الآن من بيع فلسطين بأيدي هؤلاء الخونة الذين يعتبرون أنفسهم فلسطينيون، ففلسطين هي قضية المسلمين وليست قضية وطنية حتى يملك الفلسطينيون أن يتنازلوا عنها ويستحيل أن ينال اليهود السلام الأبدي الذي يحلمون به ولن يقع لهم ذلك أبدًا لأن الله قضى بخلاف ذلك في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: «يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعالى فاقتله» إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود».

وهم الآن يستكثرون من زراعة شجر الغرقد في فلسطين لأنهم يعلمون صدق هذا الحديث، فينادي الشجر والحجر: «يا مسلم يا عبد الله» وما يقول: «يا فلسطيني» «يا منظمة التحرير» «يا قومي» «يا عربي» «يا اشتراكي» بل يقول: «يا مسلم يا عبد الله».

فهؤلاء هم الذين سيعيدون فلسطين ونحن نسخر من الذي يحدث الآن لأننا لا نعلم - والله -سبحانه وتعالى- أعلم- ما الذي حدث في الكواليس المغلقة من التآمر على الإسلام والمسلمين.

وأنا لا أشك أن أحد البنود الأساسية في مثل هذه المعاهدات التي تحدث اليوم مع الفلسطينيين: القضاء على الحركة الإسلامية فلا بد أن يكون هذا هو  القربان والثمن.

ولذلك توقعوا إذا حصل لولا هذه الدويلة الهزيلة الممسوخة في غزة وأريحا إذا حصل وصار ياسر عرفات بك إمبراطور هذه الدويلة فانظروا ماذا سيفعل بإخواننا المسلمين ربما يكون اليهود أرحم من هؤلاء العالمانين فنسأل الله العافية وأن لا يكون ذلك.

لكن ما نتوقع من هؤلاء الخونة شيئًا، فالقضية التي تباع الآن - والقدس غدًا يتنازلون عنها بلا شك- ليست قضيتهم لأنها ليست قضية وطنيين بل هي قضية الإسلام وكل الحرب التي قامت إنما هي من أجل الإسلام وليس من أجل هذه الأرض المقدسة والتراب وغير ذلك.

فالدول التي تقوم دول علمانية دولة اليهود أفضل منها في نظر الشرع لأن العالمانين مشركون لا دين لهم أما الكتابي يهودي أو نصراني له دين يقر عليه والشرع يعطيه من الحقوق وهو أفضل من العالماني المشرك فنسأل الله السلامة وإن شاء الله ستنهار كل هذه الأشياء بلا شك قطعًا.

يقول سيد قطب : تعالى وهو يحكي كلام بعض المهزومين الذين دائمًا ما يأتون في حكمة اليوم كما يحصل في بعض الجرائد حسب الأوضاع السياسية فإن كان صلح مع اليهود يأتي في حكمة اليوم بقوله تعالى  ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ [الأنفال: 61].

وآخر يغزو بلدًا إسلاميًا وهم يناصرون هذا الغازي الذي يعتدي على إخوانه المسلمين فيأتي بقوله تعالى ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح: 1] أو ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ﴾ [النصر: 1] وهكذا فيطوعون آيات الله -سبحانه وتعالى- لهذا الواقع المرير.

يقول: «ومعنى ذلك في تصورهم المهزوم أن لا علاقة للإسلام إذن بسائر البشر في أنحاء الأرض ولا عليه أن يتخذ الناس بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله في الأرض كلها ما دام هو آمنًا داخل حدود الإقليمية وهو سوء ظن بالإسلام وسوء ظن بالله -سبحانه وتعالى-».

فلذلك نقول: إن هذه المواثيق وغسيل المخ الذي يحصل للشعوب الإسلامية الآن هذا كله باطل كحقوق الإنسان التي هي ضد الإسلام - كما سنزيد ذلك إن شاء الله تعالى وضوحًا- إذ فيها إقرار الكفار على كفرهم ولا باس أن يعبد كل شخص ما شاء فمن عابد للبقرة ومن عابد للفأر ومن عابد لصنم ومن عابد للمسيح إذ كل أحد حر في دينه! فهذا معناه عندهم حرية العقيدة.

وكلام الأستاذ سيد قطب : هنا من المواضع التي يمتاز بتناوله فيها بعزة واستعلاء يندر في هذا الزمان، وما من شخص أن هذه من فضائل سيد قطب : في اعتزازه بالإسلام رغم هذا الواقع الـمرير الذي عاشته الأمة وما زالت في عهده.

يقول: «فمعنى ذلك في تصورهم المهزوم أن لا علاقة للإسلام إذن بسائر البشر في أنحاء الأرض ولا عليه أن يتخذ الناس بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله على الأرض كلها ما دام هو أمنًا داخل حدوده الإقليمية وهو سوء ظن بالإسلام وسوء ظن بالله -سبحانه وتعالى- يمليه الهزيمة أمام الواقع البائس النكد الذي يواجهه وأمام القوى العالمية المعادية التي لا طاقة لهم بها في اللحظة الحاضرة.

وهذا الأمر لو أنهم حين يهزمون روحيًا أمام هذه القوى لا يحيلون هزيمتهم إلى الإسلام ذاته ولا يحملونه على ضعف واقعهم الذي جاءهم من بعدهم عن الإسلام أصلًا ولكنهم يأبون أن يحملوا ضعفهم هم وهزيمتهم هم على دين الله القوي المتين.

إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعًا معينًا وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام.

ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى وأن هذه نهاية خطوات هذا الدين إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدمًا في تحسين ظروفها وفي إزالة العوائق من طريقها حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في سورة التوبة والتي كانت تواجه واقعًا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية.

إن النصوص الأخيرة تقول في شأن المشركين ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ إلى قوله ﴿حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 1-6] وتقول في أهل الكتاب ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾ إلى قوله ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: 29].

فإذا كان المسلمون اليوم لا يملكون بواقعهم تحقيق هذه الأحكام فهم اللحظة ومؤقتًا غير مكلفين بتحقيقها و﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]  ولهم في الأحكام المرحلية سعة يتدرجون معها حتى ينتهوا إلى تنفيذ هذه الأحكام الأخيرة عندما يكونون في الحال التي يستطيعون معها تنفيذها ولكن عليهم أن لا يلووا أعناق النصوص النهائية لتوافق أحكام النصوص المرحلية وعليهم أن لا يحملوا ضعفهم الحاضر على دين الله القوي المتين.

وعليهم أن يتقوا الله في مسخ هذا الدين وإصابته بالهزال بحجة أنه دين السلم والسلام، إنه دين السلم والسلام فعلًا ولكن على أساس إنقاذ البشرية كلها من عبادة غير الله وإدخال البشرية كافة في السلم كافة إنه منهج الله هذا الذي يريد البشر على الارتفاع إليه والاستمتاع بخيره وليس منهج عبد من العبيد ولا منهج مفكر من البشر حتى يخجل الداعون إليه من الإعلان أن هدفهم الأخير هو تحطيم كل القوى التي تقف في سبيله لإطلاق الحرية للناس أفرادًا في اختيارهم».

فقضية الجهاد حتى نتمكن فقط من توصيل الدعوة للناس ليست قهرًا لأحد على الدخول في دين الله -سبحانه وتعالى- لكن حتى يصلهم حكم الإسلام مشوهًا بل كما أنزله الله -سبحانه وتعالى-.

هذه المفاهيم الآن من كل صوب توجد عملية غسيل مخ للمسلمين في مناهج التعليم وفي الأعلام، وأصبحت الشرعية الدولية لحقوق الإنسان كأنها دين يدان به وعامة المسلمين ينخدعون بهذا الكلام.

وإذا فتشت في أشد أعداء الإسلام في بلادنا هذه ستجد في ضمن القائمة الطويلة أعضاء حقوق الإنسان فإنه لا يصلح أن يكون عضوًا في لجنة حقوق الإنسان أو ينتمي للأمم المتحدة أو ما شاكلها إلا إذا بلا دين ما عدا بطرس غالي هذا فقط العدو الخبيث للمسلمين في كل موقف وهو شؤم على نفسه إن شاء الله.

فهم يقولون أن من يكون في مناصب الأمم المتحدة حتى في أتفه وظيفة لا بد أن يكون إنسانًا محايدًا لا دين له ولا تظهر عليه أي أمارات تحيز لدين من الأديان وإنما يجب أن يكون إنسانًا محب للإنسانية في زعمهم!!.

فإذا فتشت في لجان حقوق الإنسان في أي بلد إسلامي لا بد أن يكون بلا دين، وأحيانًا كنوع من ذر الرماد في العيون حيث يقولون أن تقرير لجنة حقوق الإنسان هذه السنة أنه يحدث تعذيب للإسلاميين في المعتقلات وغير ذلك، دموع  التماسيح!.

لكن انظر في موقف من المواقف وذلك حينما كان فرج فوده يطعن في دين الله -سبحانه وتعالى- ويسب الإسلام ويستفز بليون مسلم على سطح الأرض بالطعن في دينهم وشتم إسلامهم ومع ذلك يقولون هذه حرية رأي وحرية اعتقاد ولا يجوز لأحد أن يتعرض لها.

وكذلك الخبيث المدعو علاء حامد الذي ما سمعنا اسمه إلا في صفحات المجرمين في صفحات الحوادث فقط وما رأيناه في أدب ولا غيره وكتبه التي يطعن فيها في الإسلام وفي النبي -صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك يدافعون عنه.

وكذلك الأستاذ الجامعي الخبيث الذي تطاول على الإسلام في كتابه ومنع الشيوخ الأفاضل من قبول هذه الرسالة أيضًا قامت لجنة حقوق الإنسان.

فهذه هي وظيفتها الحقيقية وكذلك ما عدا ذلك ذر للرماد في العيون فهم ليس لهم مبدأ ولا دين على أساسه يحددون المواقف فلو راجعتم البيانات الرسمية التي أصدرتها لجنة حقوق الإنسان هنا في مصر بعد فتوى الشيخ الغزالي الأخيرة أصدروا بيانًا خطيرًا جدًا ينضح بكل الكفر الصراح فلا تنخدعوا فما يوجد ما يسمى حقوق الإنسان.

فأعظم حق من حقوق الإنسان وأعظم حق من حقوق البشر أن لا يحال بينهم وبين دين الإسلام لأنهم إذا حيل بينهم وبين دين الإسلام فإنه يحال بينهم وبين السعادة الأبدية فلا شك أن أي إنسان يحارب دين الله ويصد عن سبيل الله فهو عدو للإنسانية لأنه لا يريد خيرها.

فالمسلم يعرف أن خير الناس في هذا الدين كما قال بعض السلف: «نحن خير الناس نقودهم إلى الجنة بالسلاسل» يأسرون في الجهاد ويقادون بالسلاسل ثم يطلعون على الإسلام فيدخلون في دين الله تبارك وتعالى.

يقول الشيخ سيد قطب :: «إنه منهج الله هذا الذي يريد البشر على الارتفاع إليه والاستمتاع بخيره وليس منهج عبد من العبيد ولا منهج مفكر من البشر حتى يخجل الداعون إليه من الإعلان أن هدفهم الأخير هو تحطيم كل القوى التي تقف في سبيله لإطلاق الحرية للناس أفرادًا في اختيارهم.

إنه...» وتأملوا هذا الكلام لأنه يكتب بماء الذهب.

يقول: «إنه حينما تكون المذاهب التي يتبعها الناس مذاهب بشرية من صنع العبيد وحين تكون الأنظمة والشرائع التي تصرف حياتهم من وضع العبيد أيضًا فإنه في هذه الحالة يصبح لكل مذهب ولكل نظام الحق في أن يعيش داخل حدود آمنًا ما دام أنه لا يعتدي على حدود الآخرين، ويصبح من حق هذه المذاهب والأنظمة والأوضاع المختلفة أن تتعايش وأن لا يحاول أحدها إزالة الآخر.

فأما حين يكون هناك منهج إلهي وشريعة ربانية ووضع العبودية فيه لله وحده وتكون إلى جانبه مناهج ومذاهب وأوضاع من صنع البشر العبودية فيها للعباد فإن الأمر يختلف من أساسه ويصبح من حق المنهج الإلهي أن يجتاز الحواجز البشرية ويحرر البشرية من عبادة العباد ويتركهم أحرارًا في اختيار العقيدة التي يختارونها في الدينونة لله وحده.

والمهزومون الذين يحاولون أن يلووا أعناق النصوص ليخرجوا من الحرج الذي يتوهمونه في إطلاق الإسلام وراء حدوده الأولى ليحرر البشر في الأرض كلها من العبودية لغير الله ينسون هذه الحقيقة الكبرى وبأن هناك منهجًا ربانيًا العبودية فيه لله وحده، يواجه مناهج بشرية العبودية فيها للعبيد».

فهذه هي قضية الإسلام كما قال ربعي بن عامر: «الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد» هذه هي القضية: تعبيد الناس لربهم تبارك وتعالى فهذا الهدف لا نخجل منه وينبغي أن يكون هو الغاية العظمى لكل مسلم والذي لا يرغب في ذلك فهذا يقدح في إسلامه ودينه بلا شك.

فأهل الباطل هم دائمًا الذين يقبلون التنازل كما روي في السيرة ما حصل من المشركين من قولهم للنبي -صلى الله عليه وسلم-: «اعبد إلهنا سنة ونعبد إلهك سنة فإن كان الحق معك فتصيبه وإن كان معنا فنصيبه» فنزلت الآية تضع حدًا فاصلًا بين مرحلة سابقة ومرحلة تالية نزل قوله تعالى ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [الكافرون:1] فهل هناك أشد من هذا الوصف؟! وقوله: «يا أيها» كأنهم البعداء فهو بريء منهم وبعيد عنهم جدًا.

﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)﴾ الآن ﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ﴾ فيما بعد ﴿مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ﴾ يعني الباطل ﴿وَلِيَ دِينِ﴾ الحق ﴿أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 41] كلانا بريء من الآخر لأنني على الحق وأنتم على الباطل.

فدائمًا أصحاب الباطل وأصحاب المناهج البشرية هم الذين يناسبهم أن يقال لهم: نتعايش وكل منا يحترم عقيدة الآخر ورأي الآخر لأنهم أهل باطل جميعًا فيقبلون التنازل.

أنا صاحب الحق فيرى أن هذا حكم الله وليس من حقه أن يبدله أو يغيره أو يتنازل عن جزئية من أو يعمل له عملية تجميل لأن الإسلام لا يحتاج لتجميل فهو الدين الذي الله -سبحانه وتعالى- ودين العزة ودين الكرامة ودين السيادة.

فمقارنة الإسلام بهذه الأمم معناها أنك تسوي منهج البشر بمنهج الله والشاعر يقول:

ألم ترى أن السيف ينقص قدره *** إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا

فإذا كان هذا في سيف وخشبة فكيف بدين الله -سبحانه وتعالى-؟! فهذا ما يتعلق بكلام الشيخ سيد قطب : تعالى في موضوع المرحلية.

وهناك كلام يتعلق بأهداف الجهاد وغاياته ومع أهميته سنؤجل الكلام فيه - إن شاء الله- إلى آخر البحث وسنتكلم بالتفصيل، لكن لأن المقصود من الكلام أن نحاول أن نربط قضية الجهاد بالواقع الذي نحن فيه الآن وخلط الأوراق الذي نلاحظه عند إخواننا.

نعود من جديد إلى الموضوع:

فبالنسبة لموضوع الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى نقول لا يمكن أن يختلف ولا يقبل أن يختلف اثنان من المسلمين في مشروعية الجهاد بالمعنى الذي ذكرنا ولا يمكن لذلك أن يقع بحال من الأحوال، وضابط ذلك ائتونا بجهاد لا شبهة فيه وفي هذه الحالة لا ينبغي لأحد أن يتخلف عنه أبدًا أما إطلاق الجهاد على الأوضاع التي تحصل الآن في بلادنا فنحن نوضح الآن الأمر أن هذا لا يدخل تحت مسمى الجهاد، وسنأخذ الموضوع بتسلسل وعفوًا اصبروا حتى نخرج من البحث ونفتح باب الأسئلة إن شاء الله.

فشرعية الجهاد كجهاد لا يختلف عليها اثنان من المسلمين، ولما أقيم تنظيم الجهاد من عدة سنوات وأطلق عليه هذا الاسم «تنظيم الجهاد» واقترن دائمًا الجهاد ببغض قضية الجهاد وتخويف الناس من كلمة الجهاد فصار عند الناس حساسية من كلمة «الجهاد».

كلا، نحن ما نخاف من كلمة «الجهاد» لأن الجهاد ذروة سنام هذه الدين وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «من مات ولم يغز ولم يحث به نفسه مات على شعبة من نفاق» فالجهاد الشرعي لا يختلف عليه اثنان بحال من الأحوال بنوعيه كما ذكرنا.

وكما حصل أيضًا في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولنفترض أنه وقعت أخطاء من بعض الجماعات في تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم مراعاة آدابه وأحكامه فهل معنى هذا أن تنظر باقي الجماعات الإسلامية إلى قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما كنت في أحد المدن منذ زمن فطلب الإخوة أن أتكلم عن بعض المشاكل التي يعانون منها في المحاضرة فقال أحدهم: نريد منك أن تتكلم عن مشكلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟!

فهل أصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشكلة؟! قطب رحى هذه الدين وأكبر وظيفة من وظائف الدين نعبر عنه بأنه مشكلة؟!.

إذن ينبغي أن نحافظ على قدسية الأسماء الشرعية فنضع المصطلحات الشرعية في موضعها ولا نتسبب في تنفير الناس منها أو في تشويهها كما حصل الآن حيث أصبحت كلمة «الجهاد» علمًا على بعض التصرفات على أن هذا هو الجهاد، فلذلك نهتم جدًا بموضوع ضبط الأسماء لأن الاختلاف في الأسماء تترتب عليه عواقب الله أعلم بها، ويكفي تبغيض الناس في كلمة الجهاد أو تبغيضهم في كلمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حيث هو حكم الله لا شك فيه لأنه من أركان الدين بل ذروة سنامه أما من حيث أفعال الناس غير المعصومين فهذا ما نتكلم فيه.

فسؤالنا الآن على مدى شرعية التصرفات التي يسميها أصحابها خطأ جهادًا وبالتالي يرتبون على هذه التسمية سائر أحكام الجهاد، ومدى تحقق هذه المشروعية هل المشروعية متحققة في واقع معين وظروف معينة؟.

أيضًا نناقش قضية الطمع في الظفر لأن الطمع في الظفر له تأثير كبير جدًا على حكم الجهاد كما بينا، وتوقيت ذلك إلى آخره.

وكما ذكرنا أن العمل الإسلامي كله متفق على حتمية تغيير وضع الأمة والاختلاف هو ضرورة في تحقق شروط وانتفاء موانع، كشروط اشتراط البلاغ وإقامة الحجة ووجود الإمام لأن بعض الناس يتمسك بقول الفقهاء: «لا بد من وجود إمام» لأن وظيفة الجهاد التي نتحدث عنها وظيفة أمة وليست وظيفة أفراد فلا بد من وجود إمام، ولا بد من وجود أرض يرتكز عليها المسلمون ويأوون وينحازون إليها، لا بد من أن يحصل تزايل - أي: تمايز- بين الصفوف بحيث يكون جيش يحامي عن الكفر وجيش يحامي عن الإسلام وكل أحد يختار لنفسه ويرضى بما يصير إليه لأن الراية واضحة ومتميزة هذا ينحاز إلى الكفار وهذا ينحاز إلى المسلمين فيكون هناك تمايز.

ولذلك يقول تبارك وتعالى ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفتح: 25] فهذا هو الجهاد تميز واضح.

فالجهاد الشرعي الذي نتكلم عنه حينما نقول: الجهاد في سبيل الله هو جهاد معلن يقوده الخليفة الإمام- على أرض ينطلقون منها ويرتكزون عليها وراية معلنة وهو وظيفة أمة بكاملها.

وكما ذكرنا لم يشهد التاريخ الإسلامي قتالًا دون تمايز للصفوف وانحياز أهل الإسلام إلى إمامهم وإلى علمهم ورايتهم فلا بد من وضوح الراية لتكون حجة على الناس، فتكون راية إسلامية متميزة معلنة بإمام ممكن بأرض حتى نطلق عليه جهادًا شرعيًا مئة بالمئة.

أيضًا لا بد من دعوة الكفار أو المشركين قبل القتال، وبالنسبة لتطبيق هذا على واقعنا سنتكلم عن بعض التفاصيل المتعلقة بهذا الأمر لأن من بعض المغالطات في بعض المناقشات مع بعض الإخوة منذ زمن كنت أناقشه في موضوع تكفير الجنود ورجال القوات المسلحة.

فكان يقول لي: «إذا لم نكفرهم فلن نقاتلهم» فهو يفرض على نفسه أولًا حكمًا ثم يحاول لكي يستبيح قتالهم.

وهذا مما يعلم من حال بعض الجماعات أنهم يندفعون في تكفير الجنود أو رجال القوات المسلحة لكي يستبيح قتالهم، فماذا لو لم يكونوا كفارًا؟! فماذا تفعل بهذه الدماء؟ كيف تلقى الله بدماء مسلمين؟

وسنتكلم إن شاء الله في موضوع تكفير الجنود وضباط القوات المسلحة ليس خوفًا على أحد ممن يعادي الإسلام لكن خوفًا على أنفسنا أن نقول على الله بغير علم.

وسنتكلم إن شاء الله في حكم الأتباع المحكومين بغير ما أنزل الله -سبحانه وتعالى- فأنا أعلم أن بعض الجماعات تقول: لا يوجد عذر بالجهل والعساكر غير معذورين ودمارهم حلال وسنتكلم في هذا إن شاء الله بالتفصيل.

وكما ذكرنا من قبل أن الأمة الإسلامية استغرقت قرونًا كي تنهار كي ندلل على مدى القوة التي وصلت إليها أمة المسلمين، ومعلوم أن التحطيم والانهيار أسرع من البناء فالأمة استغرقت قرونًا حتى  تصل إلى الوضع الحالي فهل من يوم وليلة؟

بعض الناس يتصور دائمًا أن ما يصلح لغيرنا يصلحنا؟ فغيرنا تنفعه الإضرابات فلنضرب نحن أيضًا عن الطعام!

لا بل نحن محكومون بالشرع، غيرنا يمكن أن يصلح معه حرب عصابات فيظن أنه يمكن أن نسلك سلوك حرب العصابات، لأن هؤلاء ما يعرفون حرمة الدماء وما يعرفون دراسة العواقب، الحركات الثورية الفوضوية، لكن في الإسلام أنت منضبط في كل تصرفاتك في حبك وبغضك في حربك وسلمك لا أن تنضبط بحدود الشرعية.

الكلام متعلق بموضوع التسمية:

بناء على ما ذكرناه موضوع أننا نعبر عن الجهاد في سبيل الله سواء جهاد الدفاع أو جهاد الابتداء والطلب التعبير عن الجهاد أو التعبير عن قوة المسلمين بعبارة العنف أو الإرهاب هذه العبارة غير مقبولة وغير صحيحة ولا يجوز لمسلم أبدًا أن يصف النهي عن المنكر أ, الجهاد بأن عنف أو إرهاب أو غير ذلك.

والإرهاب غاية من غاية الجهاد بمعنى ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ ترهبون به المنافقين  الذين يعيشون بينكم والأعداء المشركين، وكل دول العالم إرهابية بهذا المعنى لأن كل الدول حريصة على تقوية جيوشها لكي ترهب أعداءها.

فمن غايات الجهاد إرهاب أعداء الله -سبحانه وتعالى- حتى لا يؤذوا المسلمين وحتى لا يقاتلوهم أو يتآمروا عليهم.

فكوننا نعبر الجهاد الشرعي - الجهاد في سبيل الله -سبحانه وتعالى-- بأنه عنف وأن الإسلام لا يقبل العنف أو التعبير عن الجهاد في سبيل الله بأن إرهاب أو تطرف وغير ذلك، فكل عبارة تشعر بذم هذه الفريضة التي هي ذروة سنام الإسلام فهذا لا يجوز؛ لأن القوة والإرهاب في حد ذاته يكون ممدوحًا في موقعه كما يقول تبارك وتعالى ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ﴾ الآية [الأنفال: 60].

وإطلاق اسم الجهاد على بعض الأعمال التي تمارسها بعض الجماعات الإسلامية فيه نظر لأن الجهاد الشرعي بكل أنواعه محمود على كل حال ولا يتصور أن يكون الجهاد مذمومًا في حال من الأحوال، فما زالت الآيات والأحاديث تصدح بالثناء على الجهاد والترغيب فيه وبيان فضائله.

فالجهاد الشرعي عند الإطلاق ينصرف إلى قتال الكفار لإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى والمعاونة على ذلك.

أما استعمال القوة بالذات في قضية الخروج على الحكام يكون مذمومًا في بعض الأحوال وليس محمودًا إطلاقًا كما هو الحال في الجهاد، فالجهاد في سبيل الله في كل الأحوال محمود، أما استعمال القوة في بعض التصرفات بالذات في الخروج على الحكام وهذا إن شاء الله سنفصله فيما بعد بالتفصيل- قد يحمد في بعض الأحوال وقد يذم في بعض الأحوال وقد يعذر أصحابه في بعض الأحوال دون مدح ودون ذم إذ حملوا أنفسهم ما لا يطيقون لكن هذا هو أحد الفروق الأساسية بين الخروج على الحكام سواء كان الحاكم كافرًا أم فاسقًا ظالمًا وبين أحكام الجهاد فالجهاد في كل الأحوال ممدوح، أما هذا فأحيانًا يباح وأحيانًا يستحب وأحيانًا يحرم على فاعليه فهذا أحد الفروق.

فهذه الأعمال إذا أردنا توصيفها وتكييفها فقهيًا فهي أقرب ما تكون إلى الخروج على الحاكم وليست إلى الجهاد سواء كان الحاكم كافرًا أم مسلمًا فاسقًا هذا الخروج ليس له حكم واحد بل يختلف بحسب من يُخرج عليه وبحسب قصد الخارج فلا يسمى جهادًا بل هو خروج وقتال.

ولا ينبغي أن التسامح والتساهل في إطلاق هذه التسميات لأنه إذا قيل جهاد في سبيل الله نزلت عليه كل النصوص الواردة في الجهاد وترتبت على التسمية أحكام الجهاد فأحكام الجهاد تطبق هنا وهذا بلا شك خطأ فاحش.

وقد يعبر العلماء عن الخروج على الحاكم بكلمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعتزلة يقوم مذهبهم على خمسة أصول:

منها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهم يقولون بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهذا أحد الفروق الأساسية بينهم وبين أهل السنة فهم يقولون بوجوب الخروج على الحاكم الفاسق الجائر حتى وإن كان مسلمًا فاسقًا أو جائرًا وهذه علامة بارزة من علامات المعتزلة أما أهل السنة والجماعة فاختلفوا في بداية الأمر في حكم الخروج على الحاكم الفاسق الظالم المسلم ثم استقر إجماعهم بعد ذلك على عدم جواز ذلك كما سنبين ذلك إن شاء الله بالتفصيل.

وتجد أن الناس الذين يجتهدون هذا الاجتهاد والله -سبحانه وتعالى- يعاملهم بالنية إن شاء الله- لكن أن تعمد إلى آيات فتطبقها على من لا يوافقك في هذه القناعة وتطلق في حق إخوانك وفي حق العلماء وفي حق الدعاة وتقول  ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ﴾ [التوبة: 87] أو يقول غير ذلك من العبارات التي هي في المنافقين الذين يتخلفون عن الجهاد الشرعي في سبيل الله -سبحانه وتعالى-.

فالجهاد عند الإطلاق ينصرف شرعًا إلى قتال الكفار لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله، وذلك كما في حديث عمرو بن عبسة -رضي الله عنه- قال: «قال رجل: «يا رسول الله ما الإسلام؟» وفيه أنه قال: «فأي الإيمان أفضل؟» قال: «الهجرة» قال: «فما الهجرة؟» قال: «تهجر السوء» قال: «فأي الهجرة أفضل؟» قال: «الجهاد» قال: «وما الجهاد؟» قال: «أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم» قال: «فأي الجهاد أفضل؟» قال: «من عقر جواده وأهريق دمه».

قد يطلق الجهاد في النصوص الشرعية على غير قتال الكفار فالأمر بالمعروف جهاد والصيام جهاد والدعوة بالقرآن جهاد  ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 52]   لكن هذا في حالات معينة ليس عند الإطلاق.

قال -صلى الله عليه وسلم- لذلك الرجل الذي استأذنه في الجهاد: «أحي والداك؟» قال: «نعم» قال: «ففيهما فجاهد» وهذا في «صحيح البخاري».

فبر الوالدين جهاد لكن ليس هو الجهاد عند الإطلاق وإنما هو نوع من أنواع الجهاد.

نلاحظ في القرآن الكريم أن الله -سبحانه وتعالى- لم يسم الحرب الدائرة بين الطائفتين المؤمنتين جهادًا بل سماها قتالًا يقول تبارك وتعالى ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ [الحجرات: 9]

فالقتال إذا كان بين المسلمين فهو مذموم بكل حال ولا يسمى جهادًا، وسمى الإصلاح بينهما ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ﴾ ولم يقل «فجاهدوا التي تبغي» مع أن القتال هنا محمود لأنه قتال للطائفة التي تبغي لأن الجهاد لا يطلق على قتال المسلمين.

فسمى الإصلاح بينهم الذي قد يصل إلى حد سل السيوف لتأديب الفئة الباغية سماه قتالًا مع أنه محمود، ولذلك تنفرد أحكام البغي وتفترق عن أحكام الجهاد ويذكرها الفقهاء في باب مستقل.

فالدماء التي أحلها الإسلام محصورة معروفة: المرتد، الزاني المحصن، ثم بعد ذلك طوائف: قتال المرتدين، قتال البغاة، قتال قطاع الطرق المحاربين، وكل منهم له أحكامه الخاصة.

لم يحصل في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- قتال لأهل البغي ولذلك كان علي -رضي الله عنه- يقول: «أنا الذي علمت الناس قتال أهل القبلة» لأن قتال أهل البغي طبقت أحكامه لأول مرة في عهد علي -رضي الله عنه- في قتاله مع معاوية -رضي الله عنه- كم ا في الحديث: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية» فسمى فئة معاوية باغية وقال: «تمرق مارقة على حين فرقة للمسلمين تقتلها أدنى الطائفتين للحق».

فالشاهد أن القتال بين المسلمين يسمى قتالًا ما سماه الله -سبحانه وتعالى- جهادًا ولكل نوع أحكام مستقلة، فقتال البغاة باب مستقل له أحكامه فلا يجهز على الجريح  لأنه إنما يجوز قتال ولا يجوز قتله كما قال الشافعي :: «ليس القتال من القتال بسبيل قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله».

فالطائفة الباغية مسلمة لكن تختلف أحكامها والمقصود شل قدرتها عن الخروج على الإمام المسلم فإذا جرح الرجل وعجز عن القتال لا يجهز عليه بخلاف قتال الكفار، إذا رأيت الكافر مجروحًا تجهز عليه، الفار يترك للفرار ولا يتعقب ما دام قد تراجع على القتال، ولا يؤخذ منهم سبي ولا تغنم أموالهم لأنهم ليسوا كفارًا، إذن أحكام قتال البغاة هي أحكام قتال المسلمين.

كذلك أحكام المحاربين الحرابة- وهم المقصودون بقوله -عز وجل- ­﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾ [المائدة 33] وهم قطاع الطرق، ولم أيضًا أحكام مستقلة غير أحكام جهاد الكفار.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

ربما يهمك أيضاً

رسالة من غريق
1907 ١٢ يناير ٢٠١٧
آداب التخلي -3
2391 ٠٨ ديسمبر ٢٠١٦
آداب التخلي -2
1863 ٠١ ديسمبر ٢٠١٦
البيع بالتقسيط
2844 ١٧ نوفمبر ٢٠١٦
السيرة البازية
1481 ١٠ نوفمبر ٢٠١٦