الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

(الحاكمية (6

التثبت في الفرق بين النوع والعين- قضية تكفير المعين- الخطوات الإيجابية لتطبيق التحاكم بشرع الله- الحل عند خلو الزمان من الإمام

(الحاكمية (6
عبد المنعم الشحات
الثلاثاء ١٧ فبراير ٢٠١٥ - ١٥:٢٩ م
1472

الحاكمية (6)

الشيخ/ عبد المنعم الشحات

التثبت في الفرق بين النوع والعين :

يقول الشيخ ياسر: «هذه النقول السابقة من كلام أهل العلم، والتي تصرح بكفر من يحكم بالقوانين الوضعية، أو يرضى بها، أو يحتمها على الناس، لا بد فيها من ملاحظة أن هذا التكفير هو من جهة النوع، أي أن هذا النوع من الكفر هو من الكفر الأكبر، أما من جهة المعين فالفتوى بأن فلانًا بعينه كافر لارتكابه هذا الكفر؛ فإنما هو لأهل العلم بعد نظرهم في استيفاء الشروط، وانتفاء الموانع في مسألة التكفير، فمن الشروط مثلًا: العلم، والبلوغ، والعقل، والقصد، والتذكر، ومن موانع التكفير: الجهل الناشئ عن عدم البلاغ، والصغر، والجنون، والخطأ، والنسيان، والإكراه.

الشرح:

فالشيء الواحد من الممكن أن تعبر عنه أنه شرط وأنه مانع بالتعبير السلبي كما أن ذكرناه في علم الأصول، فيمكن أن يقال أن العلم، والبلوغ، والعقل، والقصد، والتذكر، والاختيار، من شروط التكفير، أو يقال أن موانعه: الجهل الناشئ عن عدم البلاغ، والصغر، والجنون، والخطأ، والنسيان، والإكراه.

يقول الشيخ ياسر: «فلا يصح التسرع في تكفير المعين حتى يستيقن قيام الحجة، وانتفاء العذر، وليس معنى ذلك عدم تكفير معين بالمرة، بل يمكن أن يحكم على معين بالكفر والردة بعد ثبوت إتيانه للكفر، وقيام الحجة، وانتفاء الشبهة كما بينا، وقد يكون في ثبوت الشروط، وانتفاء الموانع، اجتهاد واختلاف بين أهل العلم، ينبغي أن يكون من الخلاف السائغ.

وأما الحكم العام – أي: من جهة النوع- فلا ينبغي الاختلاف فيه أبدًا؛ لوضوح الحق بأدلته، وإجماع أهل العلم عليه، كما سبق بيانه من نقل الإمام ابن كثير :.

الشرح:

في الواقع نحن نضطر لتكرار هذه القضية مع كل مسألة نتكلم فيها في التكفير، مع أن ربما لو قرأت كلام للسلف لا تجد الإلحاح على تكرير هذه المسألة لوضوحها، فمثلًا نحن لا نقول بإلحاح بعد كل مسألة من مسائل التكفير: «إلا المكره» لأننا لا نكاد نرى إشكالًا عند الناس في أنهم مستصحبين في ذهنهم هذه المسألة، فأنت عندما تقول: من سجد لغير الله؛ فقد كفر، فهم يعلمون أنهم لو رأوا شخصًا يفعل هذا الفعل وهو مكره لن يكفروه بعينه، فقضية الفرق بين النوع والعين قضية مجمع عليها بين كل الطوائف تقريبًا.

فإذا سألك أحد: لماذا الجاهل معذور فهذا الشيء كفر؟ فتقول: هناك فرق بين النوع والعين، فيدعي الخلاف فيه، ولو سألته هل المكره معذور أم لا؟ ليقولن لك: نعم في هذه الحالة الفعل كفر، والفاعل ليس بكافر، فها هو ذا يقر بمبدأ الفرق بين النوع والعين، فربما يقول: لكن الإكراه عليه دليل من القرآن، ولكن الجهل ليس عليه دليل!! فنقول له: المهم أن تقر بالمبدأ ابتداء فيكون معنى كلامك وقتها لو ثبت دليل على أن الجهل سيكون مثل الإكراه، لكن مبدأ أن يكون الفعل كفر وفاعله ليس بكافر أنت تقر به حيث أقررت بالعذر بالإكراه.

فهذه مسألة نؤكد عليها لأن هناك فرق بين النوع والعين، فمن الممكن أن يكون الشيء من حيث النوع كفر، والفاعل ليس بكافر كما سيأتي تفصيله في قضية العذر بالجهل إن شاء الله تعالى.

بمعنى أن تقول: من فعل كذا؛ فقد كفر، فتستصحب أن يكون عند الفاعل جميع الشروط ولكن لن تكررها كل مرة، بل عند إجراء الأحكام على المعين؛ يراجع انطباق هذه الشروط عليه، وهذه مسألة غير أن تقول أنها ليست كفرًا أصلًا، أو تقول أنها كفر أصغر، فمثلًا قد يقال: الشخص المعين الذي يفعل الكفر الأكبر متأولًا هل سيكون هذا الفعل كفرًا أصغر؟ فنقول: لا، المسألة في ذاتها كفر أكبر، ولن يختلف حكمها، ولكن من الممكن أن تقول: هو الآن لم يلزمه حكم الكفر؛ نتيجة وجود مانع؛ وربما لزمه حكم التقصير في طلب العلم؛ فيكون مرتكبً لكبيرة من أكبر الكبائر، أو لو قيل: إن هذا من باب الكفر الأصغر؛ فسيكون من باب المجاز، لكن الحاصل أن المسألة حكمها لا يتغير حكمها من حيث الحكم، ومن حيث النوع فهي كفر أكبر، لكن عند إجرائها على المعين، إما أن يلزمه الحكم أو لا يلزمه، فإما أن يقع عليه، أو نجد هناك مانع من تطبيق هذا الحكم عليه، وهذه القضية لا بد من الانتباه إليها.

كلام الألباني وتعقيبات العثيمين:

ولذلك نحن نقول: إن للشيخ الألباني : في هذه القضية كلام انتقده عليه كثير من إخوانه العلماء المعاصرين، والإشكال أن أتباعه أو بعض من ينتسبون إلى الشيخ توسعوا جدًا في هذا الكلام حتى جعلوه مخالفًا بدرجة كبيرة جدًا لكلام الشيخ نفسه كما أشرنا إلى كلامهم قبل هذا، وسيأتي مناقشة تفصيلية لهم إن شاء الله تبارك وتعالى.

فكلام الشيخ محصور في جزئية معينة، وهو الذي ورث الأحكام الوضعية، وإذا كلم فيها ذكر خيرًا ويعتذر بأنه ورث هذه الأحكام، وأنه يحتاج إلى وقت للمراجعة فهنا يؤخذ على كلام الشيخ إغفاله لقسم آخر موجود، سواء في الحكام، أو في المفكرين الذين يصرحون ولا يذكرون خيرًا كما يقول الشيخ، إذ يذكر دائمًا عندما يستنكر على شباب جماعات التكفير والجهاد وغيرها، أو كل من يغلون في مسألة الحاكمية، ويقول: أنتم الآن كفرتم حكام المسلمين لماذا؟ هؤلاء الناس ورثوا القوانين، وإذا ما دعوا إلى تطبيق الشرع ذكروا خيرًا ووعدوا، وهؤلاء غير مستحلين، وإن شاء الله سنتكلم عن قضية الاستحلال.

ولكن أولًا هناك أقسام لم يشملها كلام الشيخ الألباني حيث أن هناك من المفكرين من يصرحون بأن الشريعة لا تصلح وغير هذا، وهؤلاء ربما يكونون أشد كفرًا من الحكام، فهؤلاء المفكرين أين الحكم عليهم؟ ولذلك سيكون الكلام هنا قاصرًا.

فهنا نقول أن هؤلاء فعلهم نفسه لن يتغير حكمه بل هو كفر أكبر، ومن الممكن أن نقول أن عند هؤلاء شبهة أنهم مكرهون كأن يقولوا مثلًا: لسنا من صنع هذا الوضع ولا يمكن التغيير في يوم وليلة وإلا وقع من المفاسد كذا وكذا، فنحن لا نسلم لهم بأنهم مكرهون، ولكن قد تكون شبهة تصلح لعذر من يعتذر منهم بهذا أن عنده شبهة أنه مكره، أو عنده شبهة أنه لو طبق هذا القدر من الإسلام؛ سيكون هناك مفاسد عظيمة، وقد يستدلون ببعض الوقائع.

فلو كان الشيخ قد اعتبر هذا مانعًا من موانع تكفير المعين؛ لكان الأمر مقبولًا، ولكن كلام الشيخ خاصة في هذه الفتوى، أو في كلامه على هذه القضية، تجد فيه عدم الفصل بين الحكم والفتوى، فلم يبين النوع والمعين، بمعنى أنه كان ينبغي أن يقرر ابتداء أن هذا الفعل كفر أكبر، ثم يقول أن من يفعله، ويعتذر بأنه يفعله مكرهًا، وأنه ينوي تغييره، فإما أن يقبل كلامه ويعذره، وهذا غير حاصل؛ لأنه ليس الإكراه، وليس أن هناك مفاسد عظيمة على الأمة، ولكن كل شخص يحسب حسابات لنفسه، فهذه على الأقل شبهة تمنع من التكفير.

فلو كان كلام الشيخ الألباني كذلك؛ لحسم الخلاف في أمور كثيرة، لكن الإشكال أنه جعله وكأن حكم المسألة أن هذا غير مستحل، ولا يكفر إلا إذا استحل، وحتى على قاعدة الشيخ الألباني، فهناك قسم آخر مستحل، مع أننا أيضًا لا  نسلم بأن قيد الاستحلال هو القيد المنضبط السالم من المعارضة كما سيأتي، ولكن إن سلمنا به فهناك أقسام موجودة فعليًا تصرح بالاستحلال، ولذلك كان الشيخ الألباني قد أفتى في هذه المسألة عدة مرات، وكان من أوفاها فتوى سوف نتعرض لها إن شاء الله لأنها هي التي وثقت ونشرت وكانت فتوى مطولة (حديث مطول مع جريدة المسلمون) ونشر, ثم نشر بعد ذلك في كتيب، وتعقبه الشيخ العثيمين :، ثم أقر الشيخ الألباني بتعقب العثيمين.

فنحن نتمسك جدًا بهذا الأمر انتصارًا للشيخ الألباني :، وعملًا بقول النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ : «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» فقالوا: «ننصره مظلومًا يا رسول الله، فكيف إن كان ظالمًا؟» قال: «تحجزه - أو تمنعه- من ظلمه» فحينما نجد كلامًا لعالم من العلماء في ظاهره مخالفة لإجماع سابق، أو لكلام عليه أدلة، فنحن في النهاية إذا لم يكن له إلا هذا الكلام سنقول أن كلًا يؤخذ من قوله ويترك، وسنقول أن فلانًا حبيب إلى قلوبنا، والحق أحب إلينا منه، فإذا وجدنا له كلامًا يحتمل أن نوفق بين كلامه وبين المجمع عليه، فإن هذا أولى لحسن الظن به، فنحن نتمسك جدًا بهذه الفتوى بعد هذا التعقب وهذا التذييل.

وسبحان الله كل إنسان لا بد له من زلة، فالمسألة مركبة جدًا فهو يتكلم على قضية حكم الحاكم بغير ما أنزل الله من حيث النوع، ومن حيث التعيين، وما يترتب على تعيين المعين بأنه كافر من الخروج عليه، وما يترتب على الخروج من مفاسد، والقضية عنده لا تحتمل الانفكاك، مع أنها منفكة جدًا، فمن الممكن أن نبحث كل مسألة على حدة، وبالتالي لم يكن السبيل الوحيد لمن يعملون حركات تؤذي المسلمين، وتضر بهم أن نهون من شأن تلك القضية العقدية.

فالشيخ الألباني قال أن هؤلاء الذين يدندنون حول هذه القضية لا يفهمون أن منها: ما هو أكبر ومنها: ما هو أصغر وأن الأكبر يكون إذا استحل، وأن هؤلاء المعاصرون ليسوا مستحلين بدليل أنهم إذا سئلوا ذكروا خيرًا ووعدوا خيرًا!! وقلنا أن كلام الشيخ الألباني هنا أغفل واقعًا موجودًا فهناك عدد على الأقل من المفكرين - الذين هم داخلون معنا في الحكم، ولذا نتكلم عليهم - يصرحون بأن الإسلام لا يصلح، وبالتالي صارت الفتوى هنا ناقصة، ناهيك عن التداخل بين الحكم والفتوى، فقال أن هؤلاء غير مستحلين؛ فليسوا بكفار كفرًا أكبر، ثم قال من باب التنزل في المناقشة: من يقولون بأن هذا كفر أكبر فماذا يترتب على هذا؟ هل يترتب عليه ثمرة عملية، فاليهود كفار لا يختلف عليهم اثنان، ماذا فعل المسلمون في فلسطين، وهم محكومون باليهود أكثر مما فعل غيرهم من البلاد الإسلامية الأخرى فيقول: إذن نحن لا نحتاج لبحث هذه المسألة.

وثم تعقبه الشيخ العثيمين في مسألة قيد الاستحلال تعقيبين جيدين:

التعقيب الأول: أنه لا يوافق على اعتبار أن المسألة مقيدة بالاستحلال.

والثاني: أنه لو افترضنا وجودها، أن هذا القيد معتبر، فالواقع أن العملي من هؤلاء أنه استحلال، وحتى لو جعلنا مدار المسألة نظريًا فتوصيف الواقع الحاصل أنه استحلال.

ثم علق على كلام الشيخ أن الكلام على المعين لا يترتب عليه أحكامًا في زماننا، ولأن عندنا مثالًا لمعينين، فأمرهم واضح، وحكمهم واضح، ومع ذلك لا تختلف الفتوى في بلادهم عن سائر البلاد، فوافق الشيخ العثيمين على هذه الجزئية، وهذه جزئية مهمة نؤكد عليها.

وابتداء لكي نعدل في المسألة نحن نفصل بين النوع والعين، ونقول للذين يخافون على ما يترتب على توضيح هذه المسألة وتبيينها من مفاسد، ومن تسرع فنقول: لا، أنت تستطيع أن تفصل بين النوع والعين، وتقول أن المعين قد يكون عنده موانع، ثم إننا - وهذه مسألة مهمة جدًا - لسنا متعبدين شرعًا بتكفير المعين الذي لا علاقة بيننا وبينه، وانتبه حتى لا يفهم الكلام خطأ, أن المعين الذي انطبقت عليه الشروط أنت تتدين شرعًا أن تعتقد كفره، ولكن القضية هل الآن كدعوة نحتاج أن نعمل مثلًا كشفًا بكل الكفار الذين على وجه الأرض أن فلان بن فلان كافر، وفلان بن فلان كافر، هذا مما لا تقوم عليه دعوة، ولم يتعبدنا الله تعالى بأن نبحث عن أعيان الكفار، فالقضية قضية منهجية بالذات في مراحل الاستضعاف كما ذكرنا، فلو أنكر علينا شخص وقال: أنت تقول أن المعين لن يكفر إلا عند استيفاء الشروط، وانتفاء الموانع، فابحث لي في فلان أو علان، أو كذا،  فسأقول له: لا أريد أن أبحث، ولن أبحث عن فلان، أو فلان، فيقول: قد بحثت ووجدت الشروط مستوفاة، فأقول: أنت حر، فأنت بحثت في مسألة أنت غير مكلف بها، والبحث فيها يترتب عليه أنواع من المفاسد.

فإن قيل: ما معنى غير مكلف؟

فالجواب : أننا غير مكلفين بأن نبحث عن أعيان الناس شخصًا شخصًا، هل هذا كافر أصلي أم مرتد؟!  فسواء قامت عليه الحجة أو لم تقم، فلا يحدث أنك ستصلي خلفه مرة مثلًا، فمعظمهم لا يصلي، ولو صلى لن يصلي إمامًا، ولو صلى مأمومًا لن يصلي معك، فلن تكون هناك مشكلة، وأيضًا لن يتزوج ابنتك، ولن تتزوج ابنته، ولن تأكل ذبيحته، فليس هناك أي مسألة يمكن أن يترتب عليها لزوم البحث عن المعين هل قامت الشروط وانتفت الموانع أم لا، والبحث في قيام الشروط وانتفاء الموانع يحدث مفسدة عظيمة إلى غير ذلك، فمن باب سعة أن تقول أن المعين أمره إلى الله، فإذا كانت لديك القدرة فلن يكون هناك إشكال أصلًا في هذه القضية.

فالقضية هنا قضية عقيدة تتناقلها الأجيال، ولن تختلف سواء كنا في زمن القوة أو في زمن الاستضعاف، بل هي عقيدة لا بد أن يعتقدها المسلم في هذه القضية، فلا تضيع هذه العقيدة من أجل أنها شهوة بأن تتكلم على أناس بأعيانهم لا مصلحة من الكلام عنه، وعندك سعة شرعية وهي التفريق بين النوع والمعين، ويسعك أن لا تبحث خلف هذا المعين، ولذلك من أنواع الغلو الموجودة في هذه القضية من يرون العذر بالجهل معتبر في كل قضية إلا في هذه القضية!! ويمتحنون الناس على تكفير فلان بن فلان، وعندهم يجب أن تكفر هذا، وإلا كنت مبتدعًا مع أنه لا يفعل ذلك مع سائر كفار الأرض؛ لأن القضية وراءها ما وراءها بالنسبة له، ولكننا نتكلم فيها كقضية عقدية يهمنا أن نبين أصل القضية، وأن نبين أصل الاعتقاد، وأن هذا جزء لا يتجزأ من عقيدة المسلم، ومن اعتقاده استحقاق الله تعالى وحده للعبادة، وهو أنه يستحق أن يتحاكم إلى شرعه، فهذه هي القضية التي ينبغي أن نعنى بها.

فقد جزم الشيخ الألباني  أن هؤلاء المعينين معذورون - وهذا بعد أن نحور كلامه- وإلا فكلام الشيخ ربما يكون أوسع من ذلك، وكأنه نازع في أصل القضية، فكلامه لم يفصل فيه بين الحكم والفتوى، فلما تعقبه الشيخ العثيمين بأننا كحكم نقول أن قيد الاستحلال غير معتبر، وأننا لو قلنا بقيد الاستحلال فهؤلاء مستحلون، والعبرة في النهاية أن الخطورة في الكلام على المعين، وهذا غير لازم شرعًا، فعلق الشيخ الألباني بأنه لا يجد كبير فرق بين كلامه، وبين كلام الشيخ العثيمين.

ولذلك نحن نعتمد هذا التصريح من الشيخ الألباني، ونعتبره كافيًا في أن نعيد صياغة كلامه، كما لو كان كلامه كان عبارة عن فتوى مزج فيها بين الحكم والواقع، إذن فأقصى ما يمكن أن نحمل عليه كلام الألباني : أنه يرى أن هؤلاء معذورون وليس كمن يقول: لن أبحث، بل من الممكن أن يسعك أن تقول: قد بينت الحكم، وهذه هي العقيدة التي أعتبر مكلفًا بنقلها للناس، ولن أبحث الحكم على آحاد الناس، والشيخ الألباني يقول أنه بحث المسألة ووجدهم يذكرون خيرًا، وهذا في حد ذاته مانع من موانع التكفير بالنسبة له، لأنهم عنده أنهم يرون أنهم معذورون، وأنهم ينوون تغير هذا الأمر إلى الأحسن.

فالمسألة تسع القضية، ونحن نفضل الإعراض عن المسألة برمتها، وذلك لئلا يضطرنا أحد إلى بحثها فيأتي هذا بتصريحات من هنا وذاك بتصريحات من هناك، ومن المعلوم أن كثيرًا من التصريحات تكون متناقضة، وأحيانًا يقال كلام  ثم يقال كلام عكسه، وهذه مسألة لا تعنينا شرعًا، فأقصى شيء أننا نقول أن الشيخ الألباني يرى أن هؤلاء طالما يذكرون خيرًا إذا سئلوا، وأنهم يعدون خيرًا، ويقولون سوف نرى، وسوف ننظر، وأننا لو طبقنا بدون تمهيد؛ سيحدث إشكال، ومعهم فتاوى من بعض علماء السوء بأن هذا يسع إلى غير ذلك من القضايا، فنقول: أننا سنعيد صياغة كلام الشيخ الألباني في كلامه على قضية المعين، أو أن هذا الذي يفهم بعد إقراره لانتقاد الشيخ العثيمين : على كلامه.

قضية تكفير المعين :

فهنا قضية مهمة وهي أن من الغلو الشطط في المسألة اشتراط الكلام على المعين، ثم بعد ذلك تجد أمورًا من البدع الصريحة، فقد يرتب على ذلك أن من لم يكفر الكافر فهو كافر، أو ينسب الناس إلى الرضا دون أن يكون منهم فعل، فيكفرهم بالعموم كما هي طريقة التكفير والتوقف، وستأتي أيضًا مناقشة سريعة لأفكارهم، ولذلك يهمنا بيان الحكم دون تفصيل الكلام على المعينين فلو رأى بعض العلماء رأى أن هؤلاء المعينين معذورون فلا إشكال في ذلك.

ومن ضمن الآفات العظيمة: طريقة ومنهج مبناه كله على هذه المسألة، وهي تكفير المعين، وما يستتبعه من قوانين، لما نشأ هذا الفكر في بعض البلاد انتقل إلى بلاد مثل السعودية مع أن فيها تطبيق للشريعة لا يسلم من مخالفات كلها من باب الكفر الأصغر، وذلك في المخالفة في التطبيق، أو الامتناع السلبي الذي تكلمنا عنه، وهو تعقب المجرمين، كأن يعرف أن مكانًا ما فيه ربا ولا يمنع ذلك، ولكن لا يسن قانونًا يقول فيه أن الربا مباح، ويلزم الذي تعامل مع البنك الفلاني  أن يعطي له الفائدة الربوية، وإلا سيعاقب بكذا أو بكذا، فيضطر أناس أن يبحثوا كي يأتي بما يثبت أن هناك تشريع عام في قضية ما بالإلزام بالربا أو بغيرهن ثم يرتب على ذلك كفر من فعل هذا من حيث النوع، ثم كفر المعين كي تكتمل السلسلة، إذ أن المنهج لا يتم إلا بذلك، وهذه خطورة أن يبني الإنسان منهجه على أمور واقعية، وعلى افتراض الأسوأ أيضًا، ولكن المنهج ينبغي أن يكون فيه بيان دين الله تعالى.

      وقد جعلت بعض المناهج الحاكمية قضية محورية, وليست محورية من حيث الأصل، ولكن لابد عنده أن يصل إلى درجة تكفير المعين، ثم يرتب على ذلك طريقة معينة في الدعوة، وطريقة معينة في مخاطبة الناس، بل ربما يرتب على ذلك إجراء أحكام معينة على المحكومين فضلًا عن الحكام!.

انتقل هذا الكلام لبلاد فيها التشريع العام موافق للشرع والمخالفات مخالفات في تطبيق واقعي قد يصل إلى حد فساد متكرر وشائع، ويعتبر أصل موجود، ولكن غير مقنن، وغير ملزم، ولكن القضية في امتناع عن مطاردته، أو ملاحقته، فهذا من حيث النوع كفر أصغر، فاضطر الذي يريد أن يستعير هذا المنهج إلى أن يقول أن المجاهرة تساوي استحلال، والاستحلال يساوي كفر، وهذا كله كي يصل إلى أن الربا مكفر!! وسووا بين كل البلاد ليريحوا أنفسهم من عناء تفصيل المنهج لكل بلد!! وهذا من الخلل العظيم، ومن التلاعب بدين الله تعالى.

وزعم هؤلاء عدة أمور، فادعوا أن عند هؤلاء قوانين ملزمة بالربا على اعتبار أنه أكثر معصية منتشرة في هذه البلاد، رغم تطبيق الشريعة، وهي معصية موجودة ومتروكة عن عمد بلا شك، وهذا من الباطل الفاحش والعياذ بالله، ولكن القضية هنا أن لا تجري عليه قاعدة لا تنطبق عليه، وهذا ما كان واقعًا في زمان بني أمية أنهم كانوا يتركون بعض شاربي الخمور، وبعض من يبيعون آلات اللهو، ولا يتعقبونهم، ولا يطالبونهم مع علمهم بأن هذا لشهوة، أو لهوى، أو لغير ذلك، وهذا الذي قال عنه العلماء أنه كفر دون كفر.

فلما نشأ هذا الكلام بدأ هؤلاء المحاولة لإيصال الأمر إلى أنه كفر أكبر، وانبرى فريق آخر يدافع وليتهم قالوا: إن هذا الحاصل كفر أصغر، وأن هذا فسق، وفجور، وفساد، ولكن الذي يدافع يريد أن يقول أن هذا القائم بينه وبين الخلافة الراشدة شعرة!!! فهمشوا قضية الحاكمية كنوع من إسقاط الطرف الآخر بالسلاح الذي في يده، فمن جهة همشوا قضية الحاكمية، وأن صور الشرك الأكبر تنحصر في الاستحلال!! وهذا هو منشأ القضية، فريق يريد أن يسيئون لواقع لما هو عليه، فنشأ فريق آخر يريد أن يرفع هذا الواقع عما هو عليه، فهذا يريد أن يجعل السماح بمعصية دون تشريع عام كفر أكبر، والفريق الآخر يقول: لا تكلمونا في هذه القضية أصلًا، فهذه القضية إنما تتكلمون فيها من أجل أن تصلوا إلى مآرب سياسية إلى غير ذلك، فدار صراع بين الفريقين في هذا القضية:   ** وكلا طرفي قصد الأمور ذميم** فكلا الأمرين مذموم.

فالمشكلة أن الفكر الذي اعتمد الحاكمية كأصل نشأ في بلاد مصر وغيرها، وانتقل إلى هذه البلاد، فأثار جدلًا رجع إلينا مرة أخرى كما هو، فقال الناس: لا تكلمونا في قضية الحاكمية، وأن هذا الحاصل بينه وبين الخلافة الراشدة شعرة واحدة!! لدرجة أن أحدهم يقول: اللهم انصرهم وقربهم من منهج أهل السنة!! يبدو أنهم أشاعرة ونحوهم!!، وهذا اتجاه موجود، وله أقلام وكتابات، فيطبق المعركة التي دارت راحاها هناك رغم أنها معركة متطرفة من الناحيتين، وهذا التطرف يرجع مرة أخرى فكما أن مشايخه هناك واجهوا شيوخ التوقف والقطبية والسرورية بالمطالبة بعدم الكلام في قضية الحاكمية، وأنها قضية غير مهمة، وأنها لا تصل إلى الكفر الأكبر إلا عند الاستحلال، فهو سيطبق أيضًا نفس القضية مع وجود القانون الفرنسي، أو القانون المستقى من القانون الفرنسي نفس التطبيق، مع أنه كان عند شيوخه خطأ كبير في أن يصوروا أن الفرق بين الواقع هناك وبين المطلوب هي هذه الشعرة، ولكن الهوة سحيقة جدًا بين إنسان يترك الربا ولا يتعقبه، والذي يفعل الربا دون أن يستحله، فيأذن بحرب من الله ورسوله، إذن فكونه يقول أنه ليس هناك إشكال، والأمور بسيطة، ونحو هذا، فهذا خلل فادح، فهو يعالج الخلل بخلل مثله، أو أشد، فضلًا عن أن يطبقه فيمن يبيح الزنا والخمر والربا الصريح.

فقد كان على جامعة الأزهر دين، وهذا ليس دينًا تجاريًا فلم تقترض لكي تستثمر، بل كان عليها دين لمصلحة ما فتأخر، فطالبت المصلحة جهة معينة أو شخصًا، فرفعت هذه الجهة قضية تطالب بالدين والفوائد المستحقة عليه، والقانون ينص على أنه إذا كان هناك حق مدني لشخص وثبت هذا فمن حقه أن يطالب بفائدة مخففة لا تتجاوز أربعة في المائة أو خمسة بالمائة، وهذا هو الربا الصريح جدًا أن يكون لشخص دين على شخص دين، وليسا متفقين على ربا، وإنما هو دين، ولكن الذي عليه الدين ماطل، أو غير ذلك، واقتضى الأمر تقاضٍ، ثم حكم باستحقاق الدائن للدين، فيقولون أنه يحسب على فترة المماطلة فائدة أربعة بالمائة!!.

فكانت على جامعة الأزهر دين، وكان هناك خصومة بينها وبين الدائن، هل يستحق الدين أم لا؟! فانتهى أنه حكم عليها بأن الدائن يستحق الدين، فرفع قضية يطالب بالفوائد المقررة قانونًا، رغم إن العقد الأصلي لم يكن فيه فائدة!!، ولكن القانون فيه أنه لو ماطل المدين، أو تأخر لسبب أو لآخر، فإنه يسدده ومعه فائدة أربعة في المائة، وليس هناك أصرح من هذا ربا، فاعترض محامي الأزهر وقال أنه ليس من المعقول أن أكبر مؤسسة إسلامية تدفع ربا صريح، وإن هذا يخل بوضعها الدستوري، فحكمت المحكمة بأن القانون لم يفرق بين مؤسسة إسلامية أو غير إسلامية، وأن عليها أن تدفع الربا، هكذا ولم يقولوا: فوائد بنوك، واستثمار، وقدر استثماري، ولكن هذا الربا الصريح جدًا، وألزموا بدفع الربا.

وهذا من الخلل الفكري الواضح وهو أن ينقل معركة فكرية من واقع معين إلى واقع آخر، نرجع مرة أخرى نقول أنه أمر في غاية الأهمية، وهو فك الارتباط بين الحكم والفتوى، ولكن ابحث القضية أولًا، وابحث الواقع، وطبق الحكم على الواقع، فلا ينقل لنا شخص فتوى عبارة عن تطبيق حكم على واقع، ويطبقه على واقع آخر، ناهيك عن أن يكون فيها انحراف في الواقع الأصلي، ثم ينقلها على واقع آخر، فيتضاعف الانحراف مرات ثم مرات، فالذين يقولوأن واقع البلاد التي فيها التشريع العام عندها إسلامي ولكن في التطبيق تمكين وترك لكثير من المعاصي أظهرها: الربا، وزاد على ذلك مؤخرًا لما جاء الأمريكان إلى الأماكن المغلقة التي فيها كل شيء: الخمور والزنا ..إلخ.

فنحن نقر بهذا كواقع، ولكن يظل التوصيف أنه طالما لا يوجد تشريع عام، فهذا من الشرك الأصغر، ولكن يبقى أن هذا من الأمر الفاحش، ومن محادة الله بالمعاصي، ومن الانحراف الفاحش عن دين الله تبارك وتعالى، فلا يصلح أن يناقش شخص من قالوا: إن هذا كفر أكبر، ويقول لهم: إن هذا أمر لا يستحق الكلام، أو في المقابل يقول: إن هؤلاء يطبعون مصاحف، ويطبعون مجلات، وينشرون العلم، فهم كواقع هم بالفعل من باب الإنفاق على الدعوة في أقطار الأرض قد يكونون من أكثر الناس إنفاقًا على الدعوة، ولكن هذا لا يغير من الواقع شيئًا أن ترك هذه المنكرات هذا فساد عريض، وترك من يدعون إليها، فيمنعون من يدعو إلى عبادة الأولياء من الكتابة في الصحف والمجلات، ولكن في نفس الوقت يترك الذي يدعو إلى تعظيم الكفار، وإلى التشبه بهم!.

الحقيقة أن هناك من أهل العلم من يرد ولكن من بيده سلطة منع هؤلاء العلمانيين من الكتابة، ومن نشر سمومهم على الناس كيف يتوانى عن استخدام هذه السلطة؟! إذن فلا ينبغي أن يأتي في النهاية ويقول: إن هؤلاء يريدون أن يبالغوا، ويجعلوا المسألة كفرًا أكبر، وتجد أحدهم لا يريد أن يعترف بأن هناك مخالفات، ولكن يقول: إن أخطئوا فهي أخطاء، إنما تنكر عليهم سرًا، وكما قال الشيخ الألباني : إن أخطئوا سرًا نصحوا سرًا، وإن أخطئوا علنًا نصحوا علنًا، وهذا ليس في الحاكم فقط، بل في كل الناس، فإن كان يشرب الخمر في خاصة نفسه، فانصحه في خاصة نفسه، وهذا في كل الناس، وليس في الحاكم فقط، ويتأكد هذا في حق الحاكم، لكن حينما تكون هناك منكرات فكرية تنشر على الناس، وأفكار فاسدة تنشر، فينبغي على كل من له قدرة على إيقاف هذا الباطل أن يوقفه، فكيف يقول الباطل من يقوله علنًا، والذي يملك أن ينكره يتعبد لله تعالى بأن لا ينكره؟! فهذا كلام في غاية التناقض.

فكما ذكرنا هي حرب بين طرفين كليهما متطرف، والإشكال أن التطرف أصبح أكثر وضوحًا عندما انتقل من هذه البيئة إلى بيئة أخرى؛ لأن التطرف هناك كان وجود صور فادحة من الشرك الأصغر، فجعلها البعض بدافع الغيرة كفرًا أكبر، ولا يصلح أن تدفع الإنسان غيرته إلى تغيير توصيف شيء؛ لأن الله تعالى يحكم ما يريد، فالذين يريدون أن يخطئوا من جعلها كفرًا أكبر، جعلوها لا شيء، وليس أنها أمورًا فاحشة ومنكرة، ويجب إنكارها، ويوم أن يعترف أنها منكرة، يقول: ينكرها سرًا، فكيف تنكر أمور عامة وشائعة سرًا؟!!

وهناك مسألة أخرى وهي مسألة المصالح والمفاسد وهي غير مسألة التعبد شرعًا بالكف عن الكلام في هذه المسألة فإذا غلب على ظنك في منكر ما لا تقدر على أن تغيره باليد أن تغيره باللسان، وإن لم تقدر باللسان فمن الممكن أن تسكت، ولكن شريطة أن تكون الحسابات شرعية، فأنت تتعبد إلى الله أنك متى قدرت على الإنكار؛ تنكر، وليس أن تكون قادرًا على الإنكار، وتقول ديانة: سأنصح سرًا، والمنكرات تنتشر بين الناس، فهذا الكلام يسع في المنكرات الشخصية خاصة لمن ولي أمر الناس، فلا نشغل الناس بالكلام على أخطائه الشخصية.

وللأسف الاتجاه الآخر كي يعظم الأخطاء العامة يضيف إليها الأخطاء الشخصية، فيقولون: فلان هذا شارب للخمر، وفلان هذا يلعب القمار، فعلى هذا أن يشغل الناس بما ينفعهم، فينبغي أن ينظر إلى ما ينشر على الناس من دعوتهم إلى الفساد، ولاسيما أن الكلام على الأشخاص يجعل الخصومة كأنها شخصية، وبالتالي يزداد عداء هؤلاء، ويزداد تعنتهم، فلا بد من ضبط المسألة وحسمها.

فكما ذكرنا أنه بعد أن كان الكلام في واقع على صور فادحة من الشرك الأصغر فجعلها فريق شركًا أكبر وفريق لم يجعلوها شيئًا، فهذا الكلام ينقل على واقع آخر فيه صور من الشرك الأكبر، وهؤلاء الغلاة يكون الأمر عليهم أيسر، فهم في أول جعلوا المسألة كفرًا أكبر، ولكنهم يريدون أن يلزموك بأن كل معين تجزم بأنه كافر بعينه كفرًا أكبر وأن ترتب على هذا الأحكام التي يرتبونها.

وفي المقابل أجرى الآخرون نفس القاعدة بأن هذه مسائل بسيطة جدًا لا تستدعي خلافًا، ولا تستدعي كلامًا، وأنه يمكن النصيحة سرًا، ويمكن التعبد إلى الله بأن الذي يطالبك باحترام القانون الفرنسي، ويطالبك باحترام هذا الكفر، وهذا الباطل حينما يقول لك لا تنكر هذا أن لا تنكره!!، ولو أذن لك أن تنكر فلتنكر، فهذا كلام في غاية العجب، فهذا كلام لا يمكن أن يقوله من عنده أدنى معرفة بدين الله تعالى.

فهذه القضية في غاية الأهمية، وتعتبر هذه المقدمة في مسألة كيف نشأ الخلاف بين الفريقين، وربما الفريق الذي يغلوا ومنهم القطبية والسرورية، والفريق الذي في المقابل قد يطلق عليهم أحيانًا الربيعيين، وأحيانًا يطلق عليهم الألبانيين، وذكرنا أن كلام الشيخ الألباني ليس بهذه الدرجة من الإفراط، كما هو عند هؤلاء، ولكن بدرجة تحتمل التأويل لاسيما مع ما ذكرنا.

هذا باختصار الرد على كل من هذين الفريقين لاسيما عندما يطبقون المعركة على بلاد فيها كلام على قوانين مستقاة من القانون الفرنسي أو غيرها من القوانين الوضعية، وفيها تشريع عام مصادم لدين الله تبارك وتعالى.

الخطوات الإيجابية لتطبيق التحاكم بشرع الله :

يقول الشيخ ياسر: «فإن قال قائل: فما الواجب علينا شرعًا، وقد علمنا حرمة التحاكم إلى المحاكم التي تحكم بالقانون الوضعي، والمسلمون ملزمون في بلادهم بهذه القوانين قهرًا.

قلنا : الواجب شرعًا أن يتحاكموا إلى من يحكم بينهم بحكم الكتاب والسنة من علمائهم، ولا يسعهم أن يؤخروا هذا الفرض إلى حين التطبيق المزعوم للشريعة، وهؤلاء العلماء المجتهدون وإن لم يكن لهم القوة المادية لإلزام الناس بالأحكام، أو لتطبيق كل أحكام الشريعة، أو قد يترتب مفاسد من تنفيذ بعض الأحكام، ربما تفوق مصلحة إقامتها، إلا أن قوة إيمان المسلم تدفعه للقبول بحكم الشرع، ولو لم يكن هناك ما يلزمه بالقوة المادية، ومع زيادة الإيمان يزداد بإذن الله من يطبقون هذا، ويلتزمون به من أنفسهم».

الشرح:

وهذه مسألة قل أن تجدها في خطاب الغلاة في قضية تحكيم الشريعة ، رغم أنه يغلوا جدًا فيها، ولو سألته : ماذا فعلت لتطبيق الشريعة ؟! يقول : ما زلت أسعى وأنادي ، وقد يكون ممن يشارك في المجالس النيابية ، وقد ذكرنا أنه يدخل على حساب تطبيق الشريعة نفسها ، ويقدم تنازلات ، ويبدل الأحكام ، فنسأل هذا: ماذا فعلت بما في يدك ؟ هل يوجد عند هؤلاء طلبة علم مؤهلين للحكم بين الملتزمين ؟! أليست هناك خصومات يكون طرفاها أو أحد طرفيها على الأقل ملتزم بدين الله ؟! فهل ينصح هذا أن يذهب ليتحاكم للقانون الوضعي برمته ، أم أن هناك وسيلة ابتداء بأن يدعى هؤلاء إلى تحكيم كتاب الله ، وأنه يوجد من يحكم بينهم بكتاب الله ؟!.

فهذه قضية مهمة ، ولذلك نقول للذين يتكلمون في قضية الحاكمية : أنتم تخالفونها في أشياء كثيرة ، أولاً لأن قضية تحكيم الشريعة أشمل من مجرد القوانين ، فأين تحكيم الشريعة في الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ؟ وأين التزامكم في هذه الأمور ؟ وأين نفيكم للبدع ؟ أم أن تحكيم الشريعة يعنى به النظام القضائي فقط ؟ فهذه مسألة .

وبالنسبة للنظام القضائي أليس هناك أناس ملتزمون لديهم قابلية لتطبيق الشريعة بفضل الله ، فأين وجود طلب العلم ؟! فيقولون أن هذا ليس وقت طلب العلم ، مع أن طلب العلم مطلوب على الأقل لتحقيق هذا الأمر ، فترى في مجالات كثيرة جدًا مفاسد وفتن فيقولون : عند قيام الدولة الإسلامية لا بد يكون عندنا كفاءات فندقية ، فينبغي أن نفتي المسلمين أن يعملوا في الفنادق ، وينبغي حتى يكون عندنا كفاءات بنكية أن نفتي المسلمين الآن أن يعملوا في البنوك !! ونقول : نحن نريد أن يكون عندنا كفاءات شرعية فلا بد أن نفتي المسلمين أن ينشغلوا بالعلم الشرعي ، فهذا ما لا يذكروه ، رغم أن هذا واجب بأصل الشرع ، ولا يترتب علية أية مفسدة ، فيقولون : عندما نصل ستكون سهلة ، لماذا أصبحت هذه  سهلة عند وصولكم ؟! فهذه هي الواجبة الآن وبعد الآن .

فتجد عندهم تقصيرًا في طلب العلم ، فيتركون الناس يعملون في السينما استعدادًا للسينما الإسلامية ، وفي السياحة استعدادًا للسياحة الإسلامية ، على علتها بما فيها من المفاسد ، أما طلب العلم كي يكون عندنا مفتين وقضاة فيقولون : يكفي رجل في الأمة يكفي الشيخ القرضاوي فهو المجتهد الأوحد في الأمة !! فهو يجتهد ، ويفتي ، ويعلم الناس ، فماذا لو فتن القرضاوي بأن صار غربيًا أكثر من الغربيين ؟! فما الحل ؟ هل تفسد الأمة ؟ فعندهم يكفي واحد في الأمة ، فإذا كانا اثنين فهذا كثير جدًا على الأمة !!.

فهذه قضية في غاية الخطورة ، فنقول للذي يعظم قضية تطبيق الشريعة : أوجدْ طلبة العلم القادرين على الفصل بين الناس في الخصومات حتى يدعوا الناس إلى التحاكم بكتاب الله ؟! فالإنسان حينما يأخذ بما في يده من الأسباب ؛ يرزقه الله  ـ عزوجل  ـ  غيرها ، أما أن يضيع ما في يده ، ويقول : ليس معي أسباب فهذا لا يستأهل غيرها ، فيجب على أهل العلم ، وأهل الدعوة إلى الله ابتداء أن يجعلوا من أهم أولوياتهم  إيجاد طلبة العلم القادرين على الفصل في الخصومات بيننا ، ولو استطعنا أن نوجد المجتهدين ؛ فلن نخجل من أن نقول : هذا هو المقصود .

فأنت تطالب بنظام قضائي إسلامي ، ففي النظام القضائي في الإسلام أنه لا بد أن يكون القاضي مجتهدًا ، بينما في النظام الوضعي الآن عدة آلاف قاضٍ ، ولا يكفون [ في فصل الخصومات والنزاعات بين الناس ] فمن أين لك بعدة آلاف من المجتهدين ؟! يقولون : عندما نصل - إن شاء الله- سنتدبر الأمر !!.

وكون كثير من طلبة العلم لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد ، فهذا تقصير بلا شك ، ونحتاج أن نضع نصب أعين كل من يسلك طريق طلب العلم ، أن لا يقنع بمرتبة دون مرتبة الاجتهاد ، وليس معنى هذا أننا نحثه أن يتعلم سُنَّةً أو اثنتين ، ثم ينصب نفسه مجتهدًا ، فنحن لا نريد مجرد أن يدعي ، ولكن ينبغي عليه أن يتعلم عشر سنين أو عشرين سنة أو ثلاثين سنة إلى أن يستجمع أدوات الاجتهاد ، فالقضية أن لا يقنع طالب العلم بتعلم القدر الذي يقدر أن يدعوا به إلى الله ثم يتوقف عن طلب العلم ، ولكن نحتاج العلم في أشياء كثيرة ، فهناك علم  نحتاجه للعبادة الشخصية وهذا فرض عين على كل أحد أن يتعلم كيف يعبد الله تعالى ، وهناك علم نحتاجه للدعوة ، وهذا نريده أن يتعلم كيف يكلم الناس ، ويرغبهم في العبادة ، إذ كيف يصلح أن يكون هناك داعية غاية ما هنالك أن يقول للناس : الصلاة فرض ؟! نحن نقول : هذا خير ولكن ليس هذا ما سيحرك قلوب الناس ، فالناس يريدون شخصًا يرغبهم في الصلاة ، ويبين لهم فضلها ، ويرهبهم من تركها ، ويذلل الطرق والعقبات التي يضعها الشيطان أمامهم.

ناهيك عن مسائل أخري كثيرة أصعب من هذا من [ الرد على ] الشبهات ، إذن نحتاج لشخص على درجة علم معنية حتى يتمكن من الدعوة إلى الله ، وكذلك كي يقضي الشخص بين الناس في خصوماتهم ، فنحتاج درجة علم معينة في كل ما يطرح عليه من حوادث ، ولا أن يقضي في الأشياء المشهورة المعروفة فقط ، ولكن نريده أن يصل إلى مرتبة الاجتهاد ، فكل طلبة العلم الموجودين الآن لا يكفون ، وبالتالي تستطيع أن تعرف أن واقعنا بعيد جدًا عن التمكين ، وهذا لأننا ليست لدينا مؤهلات ، فكيف نطالب بتطبيق الشريعة ، ثم نخرج أناسًا جهالًا يفتون الناس ؟! فمن رحمة الله تبارك وتعالى أنه يطيل أمد هذه القضية .

إذن فيجب دعوة الناس إلى أن يتحاكموا إلى كتاب الله تبارك  تعالى ، ويجب توفير من لديهم الأهلية للقضاء بين الناس في خصوماتهم ، فنحن الآن نعيب على الآخرين أنهم لم يأخذوا خطوات في هذا الطريق ، وكذلك نحن نخطو أيضًا خطوات محدودة ، لذلك تجد أن الذي يعلم الناس ، هو الذي يقضي بين الخصومات ، وهو الذي يرد على أهل الباطل ، فتجد أن هناك استنزاف للطاقات ، مع كونها طاقات محدودة جدًا ، وهي التي تخدم في هذا الجانب كله ؛ لأننا وإن كنا تكلمنا على طلب العلم ، ولكن معظم الناس يقنع بالدرجة التي تمكنه من الدعوة ، فحينما يتعلم ما يمكنه من الدعوة تجده يستنزف تمامًا ، ويتوقف عن طلب العلم ، فأصبح هناك مجالات لا يقوم بها إلا عدد محدود جدًا من الناس داخل هذه الدعوة ، فأصبح هناك تعطيل بلا شك ، وذلك بأن يكون نفس الشخص الذي سيبحث المسائل الجديدة ، هو الذي سيقضي بين الناس في الخصومات ، وذلك أيضًا في الخصومات المتكررة المعروف حكمها ، وهو أيضًا الذي يفتي الناس ، وهذا أمر  نشكوا منه كثيرًا ، وهو أننا نجد أن كثيرًا ممن يسلك طريق طلب العلم قد قنع بالوقوف عند ثاني محطة ، فبمجرد أن يحصل قدرًا من العلم يمكنه أن يدعوا عامة الناس ، ويبين لهم دين الله تعالى تجد أنه توقف عند هذا الحد ، وهذا مما ينبغي أن ينتبه إليه .

المسألة الثانية : ليس كل المسائل التي يكون فيها طرفين يكونان ملتزمين بدين الله تعالى ، فإذا كان هناك طرف ملتزم ؛ فينبغي أن يدعو خصمه ، ويبين له خطورة التحاكم إلى غير شرع الله ، ويدعوه إلى أن يحكِّموا بينهم من يحكم بشرع الله ، ومن يجد اثنين بينهم خصومة وهما غير منتهين إلى هذه القضية ، يجب عليه أيضًا أن ينصحهم أن يتحاكما إلى كتاب الله تعالى .

و [مما ينبغي أن يعلم أن ] كل انحراف عن شرع الله تعالى فهو فساد وإفساد في الأرض ، ولكن هذا يتضح في بعض الأبواب دون البعض الآخر ، فهناك أبواب يكون الأثر السلبي لعدم تطبيق شرع الله فيها واضحًا لكل ذي عينان ، فحينما نقول مثلًا التبرج مفسدة ، فكثير من الناس لا يرى ذلك جيدًا ؛ لأن ذلك يحتاج إلى تأمل ، فينظر إلى الأموال التي تنفق على التبرج ، والفتنة التي تحصل للشباب ، ويرى الاعتداء الذي يحصل على المتبرجات من حيث الجملة ، ويرى أن ظاهرة العنوسة تعتبر نتيجة - بصورة أو بأخرى- لظاهرة التبرج ، ولكن هذا يحتاج إلى تأمل .

فلكل انحراف عن الشرع مفاسد أحيانًا تكون ظاهرة بشدة ، وأحيانًا تحتاج لبعض التأمل ، وتجد أن الأبواب التي فيها انحراف عن شرع الله واضحة لكل ذي عينان ، فكل الناس - بما فيهم غير الملتزمين - يقولون في هذه المسائل : نذهب لتحكيم الشرع ، وتجد الناس في مسائل النزاعات والخصومات تطلب من يحكم بينهم بكتاب الله ، ومن أكثر مواطن خللًا في القانون الوضعي مسألة أن القاتل عندهم عمدًا لا يقتل إلا إذا كان قتل عمدًا مع سبق الإصرار والترصد .

أما في شرع الله فمن قتل عمدًا يقتل ، وهذا الذي ذكرنا من القانون الوضعي من آفات القانون الفرنسي ، فإن روحه العامة تعظيم الحريات ، وقلنا أن القاعدة أن حريتك تنتهي عند بداية حرية غيرك ، ولكنهم جاروا جدًا فقالوا : نفس الإنسان معصومة محترمة فلا نؤمر بقلتها إلا إذا تأكدنا تأكدًا تامًا أنه اعتدى على نفس غيره ، فبعض القوانين الأوربية ألغت عقوبة الإعدام نهائيًا حتى في القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد ، وجعلوها السجن مدى الحياة ن وهناك ضغوط الآن من حركات حقوق الإنسان العالمية على بلاد المسلمين ليلغوا عقوبة الإعدام .

فنقول أن عندهم في القانون الوضعي القاتل لا يقتل إلا إذا قتل عمدًا مع سبق الإصرار والترصد فلو وقعت بيمن اثنين دارت بينهما مشاجرة فقتل أحدهما الآخر عمدًا يعني: تعمد أحدهما أن يخرج المسدس من جيبه ، ويضربه في قلبه ، فهذا عندهم لا يقتل ؛ لأنه وإن كان عمدًا فهو ليس مع سبق الإصرار والترصد ، فهذه الحالة في حد ذاتها ظلم ناهيك أنها أوجدت بابًا للتحايل ، فأي شخص يريد أن يقتل شخصًا يفتعل مشاجرة معه ، ثم بعد ذلك يقتله ، ويكون في واقع الأمر إصرار وترصد ، ولكن ظاهر الحال أنها مشاجرة .

 ناهيك عن مسألة تقسط الجريمة فالقاعدة القانونية تقول : إن عقوبة السجن تسمح بأنها تقسط يعني مثلًا القاتل عمد بدون سبق إصرار وترصد عقوبته في القانون الوضعي السجن خمسة وعشرين سنة فلو تشاجر خمسة مع شخص فلما غضبوا منه في الشجار ؛ بدا لهم أن يقتلوه ، فتعمدوا أن يقتلوه ، فشخص أمسك به ، والآخر قيده ، وآخر ذبحه ، وهكذا المقصود أن الخمسة اشتركوا في قتل شخص عمدًا ولكن دون سبق إصرار وترصد ، ففي هذه الحالة كل شخص منهم عقوبته خمس سنوات أو سبع سنوات أو حسب تقسيم القاضي لها عليهم ، فالذي ذبح بالسكينة من الممكن أن يأخذ عشر سنوات أو خمس سنوات حبس ، ومن الممكن أن يخرج بعد ثلثي المدة ، لأن القاتل من الممكن أن يخرج بعد ثلثي المدة ، ولكن المتطرفين لا بد أن يأخذوا المدة كاملة ، فالمجرم من الممكن أن يخرج بعد ثلثي المدة لو حسن سيره وسلوكه ، وبعد نصف المدة في المناسبات إذا شمله القرار ، ولكن المتطرفين لا يشملهم النصف ولا الثلثين .

أحد الإخوة من الاتجاهات السياسية رفع قضية في موضوع الثلثين وكسبها ثم رفع قضية أخرى على النصف وبالطبع هم يذهبون إلى هناك كثيرًا فيهمهم هذا الموضوع .

ولذلك تجد المجرمين عندما يحكم على أحدهم حكم بالسجن كذا سنة ، يقول : سنة السجن ثمانية أشهر ، فإنه قلما يكمل أحد المدة كاملة ، فالثلثين هذا غالبًا ، يصيب معظم الناس ، فمن هنا قالوا ذلك .

فالقضية هنا أن هذا يجعل أولياء القتيل يثورون جدًا ، وقد الشرع هنا أن هذا أولًا جريمة في حق أولياء القتيل ، وهم اعتبروها جريمة في حق المجتمع كما يقولون ، والعقوبة لم تصبح القتل ، فنشأت عادة الثأر ، فتجد أن الأجهزة التنفيذية نفسها التي في حوادث القتل تمتنع من إحالة الأمر للنيابة ، فتلح على الطرفين أن يحيلوها إلى مجلس قضاء عرفي شرعي ؛ لأن هذا هو الذي وجدوه يحسم موارد النزاع ، وهذا الكلام يتم في أماكن كثيرة جدًا وهي لجان فض منازعات شرعية ، ويأتي إليها الناس في الخصومات المالية وغيرها ، لاسيما في مسائل الدماء ، فتجد أنه من الممكن أن تحيل عليها الأجهزة التنفيذية نفسها اعترافًا منهم بأن هذا هو الذي يحسم مادة النزاع ، ثم إنه عند اللزوم قد يبتلى أعضاء هذه اللجان بأنهم خارجون عن القانون ، فيعاقبوا من أجل هذا ، وهذه قضية أخرى .

فالمقصود هنا أنه لا بد من إيجاد الدعوة إلى التحاكم إلى شرع الله ، ولو ظلت المفسدة قائمة فيكون [ السعي إلى تطبيقها على ] ما أمكن فيكون في كل مسجد من يفتي الناس على الأقل في مسائل النزاعات المالية أو غيرها ، فهذا أمر مطلوب جدًا , وكذلك وجود من يحل مشاكل الدماء وغيرها متى تيسر , فإذا كان الضرر متوقعًا في الجملة فلا إشكال ، يعني أنه من الممكن في كل عدد سنين أن يبحثوا عن كل شخص على مخالفاته وحجته من باب قول الذئب للحمل : «أنت عكرت علي الماء » قال : « منذ متى ؟ » قال : « منذ عام » قال : « لم أكن قد ولدت » قال : «إذن فأبوك » فأكله .

إذن فمن الممكن أن يقول أنت منذ خمس سنين تدعو إلى ازدراء القوانين ، وتدعو الناس إلى تطبيق غيرها ، فليس هناك إشكال ، فالضرر المتوقع في الجملة محتمل ، لكن الضرر المتيقن أو ظن راجح أنه إذا قضى في مسألة حدث ضرر فلا تقف الدعوة من أجل مسألة ، فلذلك نقول : مدار المسألة على القدرة ، وعلى المصلحة والمفسدة ، أن يوجد قدر الإمكان من يقضي بين الناس بكتاب الله تعالى .

يقول الشيخ ياسر : « ومع زيادة الإيمان ؛ يزداد من يطبقون هذا ، ويلتزمون به من أنفسهم ، وعليهم جميعًا أن يطبقوا كل ما يقدرون عليه من الأحكام في ضوء قاعدة المصلحة والمفسدة المرعية شرعًا ، وما عجزوا عنه فلا يكلفون به ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [ البقرة : 286 ] وعلى كل حال ، فالمسلم حين يدعوا إلى التحاكم للشرع دون غيره ، فقد خرج عن حكم الرضا بحكم الطاغوت ، فإذا أوقف مضطرًا أمام هذه المحاكم الوضعية » .

الشرح :

هذه حالة ثانية ، فنحن نقول ابتداء : المسلم يحكم إذا كان حكمًا ، ويدعوا خصمه إذا كان متحاكَمًا إلى تحكيم شرع الله تعالى ، وقوله : « فإذا أوقف مضطرًا » له صورتان : إما أن خصمه هو الذي يذهب يقيم دعوى أمام المحاكم الوضعية ، أو أن خصمه يمتنع عن الحضور إلى الحكم الشرعي ، ولا يوجد من لديه قدرة على استيفاء الحق إلا هذه المحاكم .

موقف المسلم الاضطراري أمام المحاكم الشرعية :

يقول الشيخ ياسر : « فإذا أوقف مضطرًا أمام هذه المحاكم ، أو لم يجد وسيلة لانتزاع حقه الشرعي إلا من خلالها ؛ فعليه أن يدعوهم ويأمرهم أن يحكموا له بحقه الشرعي فقط الذي علمه من أهل العلم ، لا ما يزعمونه حقًا في قانونهم ، وكذلك من ترافع أمام هذه المحاكم لدفع الظلم عن مسلم ، أو رفعه فعليه أن يطلب مثل ذلك ، ومن يطلب هذا الحق لنفسه أو لغيره من المسلمين ؛ فلا جناح عليه مهما كان المطلوب منه ، فإنه لم يأمر إلا بمعروف » .

الشرح:

فمن الممكن أن يقف أمام هذه المحاكم ، ويطلب حقه الشرعي في هذه المسألة ، ومن ضمن الوقائع التي يجدر أن تذكر هنا ؛ لأن اتجاهات التكفير ، والتوقف ، والقطبيين ، يعتبرون أن الذي لم يكن معه ومع غيره خصومة راضين بالحكم الوضعي ، ويقولون أن هذا لأنهم لم ينكروا ، ناهيك أن يقف مرة أمامها ، بينما أنه من الممكن أن يقف أمامها ، إذا ما ابتلي واعتدي على حريته أو سجن ، فمن الممكن أن يوكل محاميًا يطالب بالإفراج عنه أو غير هذا ، وبعضهم يحرم هذا ويعتبره كفرًا .

فالقضية هنا أن الأستاذ سيد قطب : وقد ذكرنا غير ما مرة ما له وما عليه ، ولكن عمومًا هذا الكلام هم ينسبونه إليه ، وقلنا أن الناس مختلفة إذا كان يعني بهذا الكلام ما فهموه منه ، أو كان يعني به أمرًا آخر ، ولكن ثبت أنه رفع دعوى مبتدئاً  عندما تم القبض على بعض ذويه ، قبل أن يقبض عليه هو مؤخرًا في نهاية المطاف ، ويعدم عفا الله عنه وغفر له .

فالقضية أنه سواء ذهب الخصم إلى هذه المحاكم ، أو أن يكون الخصم هو الذي يمتنع عن الحق الشرعي ، فيقف أمامها ويطالبها بأن تمكنه من حقه الشرعي ، وهذا لا إشكال فيها .

يقول الشيخ ياسر : « وإليك ما ذكره الأئمة في مسألة التحاكم إلى أهل العلم المجتهدين ، والتزام أحكامهم عند العجز عن التحاكم إلى القاضي الشرعي المعين من الخليفة المسلم :

1-                         قال شيخ الإسلام ابن تيمية : في « مجموع الفتاوى » ( 34 / 175 ): خاطب الله المؤمنين بالحدود ، والحقوق خطابًا مطلقًا كقوله تعالى : ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا ﴾ [المائدة : 38 ] وقوله تعالى : ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ﴾ [ النور : 2 ] وقوله تعالى : ﴿وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً﴾ [ النور : 4].

لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لا بد أن يكون قادرًا عليه ، والعاجزون لا يجب عليهم ، وقد علم أن هذا فرض على الكفاية ، وهو مثل الجهاد ، بل هو نوع من الجهاد ، فقوله تعالى : ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ﴾ [ البقرة : 216 ] وقوله تعالى : ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ [البقرة : 190] وقوله تعالى :﴿  إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [ التوبة : 39 ] ونحو ذلك ، هو فرض على الكفاية » .

الشرح:

أي أن شيخ الإسلام يقرر هنا قاعدة وهي أن الخطاب الشرعي خطاب للمجموع في مسائل فروض الكفايات كإقامة الحدود ، والدعوة إلى الله ، وإقامة الجهاد ، فالمخاطب أصلًا  الأمة ، والإمام نائب عنها ، فماذا يستفيد من تقرير هذه القاعدة ؟ فإنه سيرجع مرة أخرى فيقول أن الأمر منوط بالإمام ، ولكنه يريد أن يقرر أن الأصل الخطاب للأمة ، والإمام نائب عنها ؛ لأن هذه أتم الحالات وأكملها ، ولو عجز عنها لا نقول : إن الإمام مخاطب ، والإمام ليس موجودًا ، إذن فالخطاب قد سقط .. لا.. الخطاب أصلًا موجه إلى الأمة ، والإمام نائب عنها ، فإذا غاب هذا النائب ، وعُجِزَ عن إتمام الأمر على أكمل الأحوال ، فلا أقل من أن يتم بالصورة الممكنة ، متى أمكن فإذا لم يتمكن من أي جزء منها فحينئذ تسقط .

 يقول الشيخ ياسر: « قال شيخ الإسلام ابن تيمية : « ... هو فرض من الكفاية على القادرين والقدرة هي السلطان ( هذه هي القدرة في تمامها وكمالها ) فلهذا وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه ، والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد ، والباقون نوابه ، فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها ، وعجز من الباقين ، أو غير ذلك ، فكان لها عدة أئمة ؛ لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود ، ويستوفي الحقوق ، ولهذا قال العلماء : إن أهل البغي ينفذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل ، كذلك لو شاركوا الإمارة ، وصاروا أحزاباً ؛ لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم ، فهذا عند تفرق الأمراء ، وتعددهم ، وكذلك لو لم يتفرقوا لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة ، فإن ذلك أيضًا إذا أسقط عنه إلزامهم بذلك ، لم يسقط عنهم القيام بذلك , بل عليهم أن يقيموا ذلك , وكذلك : لو فرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود , والحقوق , أو إضاعته لذلك , لكان ذلك الفرض على القادر عليه .

وقول من قال : « لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه , إذا كانوا قادرين , فاعلين بالعدل » .

الشرح :

فقول العلماء : إن الأمر منوط بالسلطان ونوابه هذا إذا كان عندهم قدرة ؛ لأنه قد يكون أحيانًا سلطان أشبه بالسلطان المخلوع كما كان سلاطين الدولة العباسية بعد غزو التتار إلى العصر الحديث ؛ فقد ظلت الخلافة خلافة عباسية في عهد دولة المماليك بعد عصر التتار ، فكان ينصب خليفة عباسيًا ويبايع له لكن لم يكن له شأن يذكر في المعارك التي دارت مع الصليبين والتتار ولم يسمع إلا اسم قائد الجند ، وكانوا من المماليك ، بينما يوجد خليفة عباسي ، وهذا قدر من التقوى ؛ لأن الأئمة من قريش ما بقي في الأرض اثنان ، فلما صار المماليك هم أهل القوة والشوكة لم يستأثروا بالأمر ، بل وضعوا خليفة عباسيًا حتى وإن كان ضعيفًا كي لا يقعوا في إثم مخالفة أمر النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ، ولذلك بقيت دولة المماليك فترة كبيرة أطول مما بقيت دولة العثمانيين ، لأن العثمانيون لم يحرصوا على أن يوجدوا خليفة قرشيًا ، وإنما جعلوا أمر الخلافة إليهم ، بينما جعل المماليك أمر الإمارة إليهم وليس الخلافة ، ومن ثم رغم أن الدولة العثمانية بدأت في أول عهدها قوية إلا أنه كان من أول ما وقعوا فيه من المخالفات أنهم لم يحرصوا على أن يبحثوا عن خليفة قرشي ، ثم بدأ الأمر يسوء بنشرهم للصوفية ومحاربتهم للسنة إلى غير هذا .

فهو يقول هنا إذا كان السلطان ونوابه قادرين وفاعلين بالعدل لأنه قد يكون قادراً ولكن لفسق أو فجور يترك فعل الخير وتعقب الشر .

يقول الشيخ ياسر: « يقول شيخ الإسلام : ... كما يقول الفقهاء الأمر إلى الحاكم إنما هو العادل القادر ، فإن كان مضيعًا أموال اليتامى , أو عاجزًا عنها , لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه , وكذلك الأمير إذا كان مضيعًا للحدود , أو عاجزاً عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه .

والأصل أن هذه الواجبات تقوم على أحسن الوجوه ، فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين ، ومتى لم يقم إلا بعدد ، ومن غير سلطان أقيمت  إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها ، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن كان في ذلك فساد من ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها ؛ لم يدفع فساد بأفسد منه والله أعلم » ا.هـ.

الشرح :

هذا النقل عن شيخ الإسلام هو أصل لمسألة أخرى - ليس هذا مجال تفصيلها- وهي القضية التي يصطلح عليها المعاصرون بعنوان : « العمل الجماعي » لأن هذا أيضًا استمرار لنفس الحرب الفكرية الدائرة بين الإفراط والتفريط بين الجماعات التي غلت في قضية الحاكمية من إخوان أو قطبية أو سرورية ، وبين الجماعات التي جفت فيها ، وقد يسمون بأسماء متعددة كما ذكرنا ، وأيضًا قضية العمل الجماعي ، وكأن هؤلاء رأوا أن مبنى مفاسد الحركات السياسية أو الجهادية على أنهم منظمون أو إن لديهم عمل جماعي ، ويبدو أن هذه الآفة انتقلت حتى للعالمانيين ، فإن العلمانيين الآن حينما يبررون هزيمتهم أمام الإسلاميين السياسيين يقولون : السبب أن هؤلاء منظمون جدًا ، فلا أدري أيذكرون هذا في سياق المدح أم الذم ؟! .

فهناك قدر من الخلل ، فالناظر على الساحة في الواقع ؛ يجد عجبًا عجابًا فكثير من الناس طاشت عقولها فإذا هذا أحد في معركة سياسية - وهذا نوع من الثقافة السياسية -وإن كنا لسنا من أهلها – فإنه يعلل هذا الأمر بالتنظيم ، ومع أنه لب العمل السياسي ، ويقولون : هؤلاء يريدون أن يصلوا للحكم ، وإنا لا نولي هذا الأمر أحدًا طلبه ، مع أن الديمقراطية التي تنادون بها هكذا ، فالديمقراطية قائمة على تداول السلطة ، والحزب الذي ليس غرضه أن يصل للسلطة لا يكون حزبًا ، وإذا سيرتها وفق المعايير الإسلامية فالأمر قد يحتمل ، ولكنه ليس بهذه الصورة أيضًا .

فإن قيل عنهم أنهم منظمون ، فهذا دليل على أن عندهم مقومات الحزب ، وإن لم يكونوا حزبًا ، ولكنهم استكملوا سائر مقومات الحزب ، فعندهم النظام وكان ينقصهم فقط أن يقبلوا بالقواعد العالمانية ، وقبلوها ، ولكن على الأقل قبل أن يكونوا حزبًا مائة بالمائة ، حينما كانوا في درجة من الدرجات كان عندهم نظام يمدحوا عليه من حيث الأصل ، وليس أن هذا عيب في ذاته .

فبعض الإسلاميين ظن أن المفاسد أتت من النظام وليست من الفكرة التي تعاونوا عليها !! فيقولون : المفسدة نشأت من التعاون !! فهذا كلام فيه خلل عظيم ، فإذا تعاون أناس على عمل ما فأنجزوه ، فهذا العمل لو كان حسنًا فإن التعاون عليه حسن ، وإذا كان سيئًا فإن التعاون عليه سيء ، ولكن من الخطأ أن يقدحوا في التعاون كأصل ، فحينما يسألون : ما هي مشكلة الذين يرتكبون مفاسد ويخرجون على الحكام ؟ فيقولون : لأنهم منظمون ومتعاونون ، إذن نحرِّم التعاون والنظام حتى ولو كان على نشر الحق ، وحتى ولو كان على نشر السنة !! وهذا كلام متناقض في ذاته لدرجة أن أصحابه لم يستطيعوا أن يوفوا به ، ولكن لا بد أن يحدث تعاون في مسائل ، على الأقل في نشر مبادئهم وأفكارهم ، ولا حجة لأصحاب القول بتحريم العمل الجماعي تقريبًا إلا لأن هذا منهج السياسيين والحزبيين والذين يفعلون مفاسد ونحو هذا ، فلو سئل : ما البديل عندك ؟ لوجدته صورة مشوهة لا هي فردية كاملة ؛ لأنه لا يمكنه تحقيقها ، يقول : لا هي فردية كاملة ، ولا هي تعاون منظم مثمر لنشر أفكاره التي يريدها !!.  

والآفة الأخرى أنه بعد أن يقرر أحد رأيًا لحسابات معينة ؛ يحاول أن يستخرج له أدلة فيقول : لا .. المسألة أنه لا يجوز شرعًا لأنه افتئات على حق الإمام ، وفروض الكفايات يطالب بها الإمام !! .

نرد عليهم بكلام ابن تيمية وبواقعهم فنقول لهم : إذن لا تصلون الجمعة ، فالإمام هو الذي يعين خطيب الجمعة والإمام لا يأتيك بإمام ، ولو أتاك بإمام سيأتيك بشخص يدعوا إلى شرك القبور ، لأن الذي بقي لهؤلاء من السلفية هو الرد على شرك القبور ،  فنقول لهم : إذن أنت الآن لما تقول إن الجمعة من جملة فروض الكفايات ، فإذا كنت ملتزمًا بأن الجمعة لا تتم إلا بإذن الإمام ، وتراءيت أن تجعل هذا إمامًا ، لأنه لن يأتيك بخطيب أصلًا ، فهل ستترك الجمعة ؟ وإما أن يأتيك بخطيب يدعوا إلى تعظيم القبور والطواف حولها ونحو هذا ، فإذا قلت : الجمعة من الممكن أن نرتبها وكذلك صلاة الجماعة والأذان ، إذن فما الذي بقي ؟ فالقضية ليست أن التعاون على البر والتقوى هو المذموم أو أنه جالب للمفاسد ، وإنما كانت المفاسد من المبدأ الذي تعاون عليه البعض ، مبدأ العمل السياسي الذي فيه مفاسد من المداهنة ، ومن استرضاء العالمانيين وغيرهم ، ومبدأ التعاون على إنكار منكر بدون وجود ضوابطه ، كما يتعاون أهل الباطل المحض عليه ، فلا نذم التعاون ذاته .

 قد يقولون أيضًا : لا بأس بالتعاون ولكن بدون نظام !! فهذا كلام لا يقبل عقلًا ناهيك أن يقبل شرعًا ، ففي الحديث : « لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة إلا أمروا عليهم أحدهم » فهؤلاء مجرد ثلاثة في سفر ، فما المفسدة التي من الممكن أن تحدث ؟ فأقصاها أن يختلفوا في الطريق ، هل ينزلون للراحة الآن أم يواصلوا السير ؟! ومع ذلك أمر النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  أن يؤمروا عليهم أحدهم لكي تجتمع كلمتهم ، وحينما يكونان اثنين يقال : لهم تطاوعا ولا تختلفا ، فالاثنين أمرهما هين ولكن الثلاثة من الممكن أن ينشأ في وقت ثلاثة آراء ، فلا بد من وجود أمير .

يقولون : ولكن هذا في السفر ؟ ! سبحان الله ، هذا من باب أولى , يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في السفر في الاجتماع القليل العارض فعددهم ثلاثة واجتماع سفر وينتهي ، فما بال الاجتماع الكثير المستقر ؟! وهذه مصالح شخصية فما بالك بالمصالح الشرعية العليا ؟ فإذا قلنا باجتماع فلا بد من وجود نظام  له .

فإذا قيل هنا مفسدة ؟ قلنا : المفسدة تقدر بقدرها ، إذن لا تقل بدعة ولا تقل حرامًا ، قل هناك مفسدة تبحث ، وغالبًا تكون المفسدة متوهمة ، وإذا كانت موجودة فمن الممكن أحيانًا أن نضطر فعلًا إلى تقليص دائرة التنسيق والترتيب إلى أقل درجاتها ، ولكن ديانة نقول أنه ينبغي على أهل السنة أن يتعاونوا فيما بينهم ، وأن يمتثلوا إشارة علمائهم في نشر منهجهم ، والقيام بما يستطيعون من فروض الكفايات ، وهذا النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية من أوفى النقول في هذه المسألة ، ويوجد نقول أخرى تراجع في « بحث العمل الجماعي » .

أيضًا من أوفى النقول في هذه المسألة نقل إمام الحرمين في هذه المسألة في كتاب « غياث الأمم » وهو كتاب من أجمع الكتب التي تناولت قضية الخلافة وشروطها ومهامها وكيفية إدارة الدولة الإسلامية ، ثم كان في فصل في فرض خلو الزمان عن إمام ، وهذا نحتاجه جدًا والنقل الذي ينقله هنا في خلاصة هذا الفصل .

الحل عند خلو الزمان من الإمام :

يقول الشيخ ياسر : « 2- قال إمام الحرمين الجويني في « غياث الأمم » ( ص : 279 ) ( ص : 261 ط. دار العقيدة) بعد أن فرض خلو الزمان من الإمام ثم عن الكُفَاة ذوي الدراية أو كون ذي الكفاية والدراية مضطهدًا مهضومًا لعدم اعتضاده بعدة واستعداد وشوكة فلا تثبت له الإمامة .

 الشرح :        

فلا يوجد إمام ولم يتمكنوا من تنصيب إمام لعدم وجود أو المستجمع للشروط أو أن المستجمع للشروط النظرية ليست معه شوكة ، فالحاصل لا يوجد إمام  .

قال : « فكيف يجري قضايا الولايات وقد بلغ تعذرها منتهى الغايات ؟! فنقول : أما ما يسوغ استقلال الناس فيه بأنفسهم ولكن الأدب يقتضي فيه مطالعة ذوي الأمر ، ومراجعة مرموق العصر ، كعقد الجمع وجر العساكر إلى الجهاد ، واستيفاء القصاص في النفس والطرف ، فيتولاه الناس عند خلو الدهر ، ولو سعى عند شغور الزمان طوائف من ذوي النجدة والبأس في نقض الطرق والسعاة في الأرض بالفساد ، فهو من أهم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإنما ينهي آحاد الناس عن شهر الأسلحة استبدادًا إذا كان في الزمان وُزُرٌ قُوَّامٌ على أهل الإسلام ، فإذا خلا الزمان عن السلطان وجب البدار - على حسب الإمكان- إلى درء البوائق عن أهل الإيمان ، ونهينا الرعايا عن الاستقلال بالأنفس من قبيل الاستحثاث على ما هو الأقرب إلى الصلاح ، والأدنى إلى النجاح ، فإن ما يتولاه السلطان من أمور السياسة أوقع وأنجع وأدفع للتنافس وأجمع لشتات الرأي ، وفي تمليك الرعايا أمور الدماء وشهر الأسلحة وجوه من الخبل لا ينكره ذوو العقل ، وإذا لم يصادف الناس قوامًا بأمورهم يلوذون به ؛ فيستحيل أن يؤمروا بالقعود عما يقتدرون عليه من دفع الفساد ، فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن عم الفساد البلاد والعباد ، وإذا أمروا بالتقاعد في قيام السلطان كفاهم ذو الأمر المهمات وأتاها على أقرب الجهات ، وقد قال العلماء : لو خلا الزمان عن السلطان فحق على قطان كل بلد ، وسكان كل قرية أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهي ، وذوي العقول والحجا من يلتزمون امتثال إشارته وأوامره وينتهون عن مناهيه ومزاجره ، فإنهم لو لم يفعلوا ذلك ترددوا عند إلمام الأمور المهمات ، وتبلدوا عند إطلال الواقعات ، ولو انتدب جماعة في قيام الإمام للغزوات ، وأوغلوا في مواطن المخافات ؛ تعين عليهم أن ينصبوا من يرجعون إلى رأيه » .

الشرح :  

كغزوة مؤتة وهي أصل في هذا الأمر ، فالبعض يقول : إن هذا كان في وجود الإمام ، فلا يحتج بها في غيابه الكلي مع أن هذا من باب أولى ، كما قلنا في حديث الثلاثة في السفر ، فهذه غزوة والإمام موجود فغاية المفسدة التي ستحدث أنهم يرجعون مرة أخرى إلى الإمام فيعين لهم قائدًا للغزوة فهي مفسدة يسيرة ، بخلاف ما لو كان في غياب الإمام فتكون المفسدة عامة لا يمكن تداركها ، ومع ذلك لم يرضوا بهذه المفسدة وإنما اجتهدوا فنصبوا عليهم أحدهم ، فأقرهم النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  على ذلك وعاب على من لم يفعل هذا حينما أرسل سرية فسحلت قائدهم دابته - وقع تحت الدابة فمات - فرجعوا فلامهم النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  وعاتبهم وقال : « أعجزتم إذ أمرت عليكم رجلًا فلم يمض بكم إلى ما أمرتكم به ، أن تأمروا عليكم رجلًا فيمضي بكم إلى أمر رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  .

فهو هنا هو يستدل على هذا الأمر بتلك الواقعة أو بالإشارة إليها فيقول :

« ولو انتدب جماعة في قيام الإمام للغزوات ، وأوغلوا في مواطن المخافات تعين عليهم أن ينصبوا من يرجعون إلى رأيه إذ لو لم يفعلوا ذلك ؛ تهووا في ورطات المخافات ولم يستمروا في شيء من الحالات .

ومما يجب الاعتناء به أمور الولايات التي كانت منوطة بالولاة كتزويج الأيامى والقيام بأموال الأيتام فأقول : ذهب بعض أئمة الفقه إلى أن ما يتعلق بالولاية : تزويج الأيامى ، فمذهب الشافعي  ـ رضي الله عنه ـ  وطوائف من العلماء أن الحرة البالغة العاقلة لا تزوج نفسها ، فإن كان لها ولي زوجها ».

الشرح:

 تخصيص الشافعي بالترضي عنه نوع من الغلو ، والإمام الجويني شافعي ، ونسن بكل طبقة سنة واحدة ، فالترضي دعاء يجوز للمؤمنين ، ولكن جرت عادة العلماء أن يخصوا الصحابة بالترضي ، ومن بعدهم بالترحم ، فلكي لا يكون هناك نوع من الغلو في شخص دون آخر ، فالذي ينبغي أن يسن سنة واحدة لأهل كل طبقة ، فالشيعة عمومًا يخصون عليًا  ـ رضي الله عنه ـ  بالتسليم ، وقد جرت سنة العلماء أن يسلموا على الأنبياء ويترضون عن الصحابة ، وبعض العلماء كالشوكاني والصنعاني لما رجع لمذهب أهل السنة أبقيا عادة التسليم على علي ـ رضي الله عنه ـ  وهي تزرع بذرة الغلو ؛ لأنه لماذا خصصت هذا بهذا الدعاء ؟! فنعم هو دعاء ويجوز على كل أحد ولكن لماذا تخصه ؟

يقول الشيخ ياسر في النقل عن الجويني : « فإن كان لها ولي ؛ زوجها ،وإلا فالسلطان ولي من لا ولي له ، فإذا لم يكن لها ولي حاضر ، وشغر الزمان عن السلطان » .

الشرح :

نحن نقول : إما أن يكون هناك ولي أو أن السلطان ولي من لا ولي له ، فإذا لم يكن هناك وليًا ولا سلطانًا يزوجها أهل العلم والفضل .

قال الجويني : : « فنعلم قطعًا أن حسم باب النكاح محال في الشريعة ، ومن أبدى في ذلك تشككًا فليس على بصيرة بوضع الشرع ، والمصير إلى سد باب المناكح يضاهي الذهاب إلى تحريم الاكتساب كما سيأتي القول في ذلك في الركن الأخير في الكتاب - إن شاء الله  ـ عزوجل  ـ  - ( يعني في كتابه ) ، وهذا مقطوع به لا مراء فيه ، فليقطع النظر وراء ذلك في تفصيل التزويج , فأقول : إن كان في الزمان عالم يتعين الرجوع إليه في تفاصيل النقض والإبرام ومآخذ الأحكام فهو الذي يتولى المناكح التي كانت يتولاها السلطان إذا كان » .

الشرح :

فهذه قضية يقول أنه في أمر تزويج من لا ولي لها يرجع فيه إلى عالم الزمان .

ويقول أيضًا في مسألة التحكيم يقول : « وقد اختلف قول الشافعي : في أن من حكم مجتهدًا في زمان قيام الإمام بأحكام أهل الإسلام ، فهل ينفذ ما حكم به المحكم ؟ فأحد قوليه وهو ظاهر مذهب أبي حنيفة أن ينفذ من حكمه ما ينفذ من حكم القاضي .

الشرح :

فهنا هو يقول: إن في زمن تطبيق الشريعة ووجود قاضٍ يحكم بالشرع ، فمن الممكن أن خصمين يقولان : نحن نريد  أن نتحاكم إلى فلان ، ثم بعد أن ذهبوا إلى فلان ذهب أحدهم إلى القاضي ، فعرف القاضي أنهم اتفقا على محكم ، وإن هذا المحكم حكم في القضية ، فقال الشافعي في أحد قوليه وأبو حنيفة أن القاضي المعين من قبل الإمام لا يصلح أن ينظر في هذه المسألة مرة أخرى فهم ذهبوا إلى محكم ، والأمر يسعهم شرعًا أن يسألوا أهل الذكر ، فلا يصلح أن يتحايل على هذا الأمر بعد إذ كان ، ويذهب إلى القاضي .

فيقول أن في المسألة خلاف للشافعي فيه قولان في المسألة أحدهم أنه ينفذ قول المحكم ، ويجب على القاضي إمضاؤه وهو قول أبي حنيفة .

يقول الجويني : « فأحد قوليه وهو ظاهر مذهب أبي حنيفة : أن ينفذ من حكمه ما ينفذ من حكم القاضي الذي يتولى منصبه من تولية الإمام وهذا قول مُجْتَهد في القياس لست أرى الإطالة بذكر توجيهه ، وغرضي منه إذا انقدح المصير إلى تنفيذ أمر محكم من المفتين في استمرار الإمامة وإطراد الولاية والزعامة مع تردد ( يعني المسألة كانت محتملة للاجتهاد وبحثها العلماء فكان ) مع تردد وتحري واجتهاد وتآخي ( فهو يقول إن المسألة كانت خلافية ) فإذا خلي الزمان وتحقق موجب الشرع عل القطع والبت واستحالة تعطيل المناكح فالذي نفوذه من أمر المحكم مجتهداً فيه في قيام الإمام يصير مقطوعًا به في شغور الأيام »

الشرح :

 يقول أنه كان هناك خلاف في المسألة في حالة وجود الإمام ، فمن باب أولى في حالة غيابه فيجب أن يرتفع الخلاف ، وأن أي عالم ينظر في المسألة لابد أن يقول يسري حكم المحكم .

يقول الجويني : « وهذا إذا صادفنا عالمًا يتعين الرجوع إلى علمه ويجب اتباع حكمه » ا.هـ .

الشرح :

بعد ذلك فرض مسألة نظرية جدًا أنه كيف يجتهد كل إنسان لنفسه ، لو وجد من يمكن أن يتعلم القواعد التي قالها كان سيكون هناك عالم بالتأكيد ، والذي يعنينا هنا ما ذكره أن في حالة وجود عالم يجب الرجوع إليه وامتثال أوامره في أمر الولايات وأمر المناكح ن ويجب امتثال حكمه في أمر النزاع والقضاء ، وكما ذكرنا هذا أصل للقضية التي أشرنا إليها لقضية العذر بالجهل .

انتهى بذلك ما ذكره في فضل الغني الحميد فيما يتعلق بقضية الحكم ، وبقي أن يتكلم عن قضية العذر بالجهل وهو ألحقها بهذه القضية لوجود عبارة في هذا الباب لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب توهم عدم العذر بالجهل ، ولكن قبل أن نتكلم فيها سوف نتمم القضايا التي أشرنا إلى أننا سنتوسع فيها إن شاء الله تعالى في تفصيل أكثر نسبيًا في الخلاف في قضية الحكم بين الإفراط والتفريط .

 

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

ربما يهمك أيضاً

الولاء والبراء -12
1564 ٢٧ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -11
1704 ١٨ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -10
2032 ١١ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -9
2028 ٠٤ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -8
1666 ٢٨ ديسمبر ٢٠١٥
الولاء والبراء -7
1429 ٢١ ديسمبر ٢٠١٥