الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

ابن القيم وشيخ الإسلام يردان على نداء العنف والصدام

لهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه مِن وقوع ما هو أعظم منه

ابن القيم وشيخ الإسلام يردان على نداء العنف والصدام
عادل نصر
الأحد ١٤ يونيو ٢٠١٥ - ١٧:٤٧ م
2759

ابن القيم وشيخ الإسلام يردان على نداء العنف والصدام

كتبه/ عادل نصر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ذكرنا في بيان سابق ما في البيان المسمى بـ"نداء الكنانة" مِن خلل ومغالطات، وها نحن نسوق لأبناء الأمة نصوص إمامين كبيرين اتفق الجميع على جلال قدرهما وعلوِّ شأنهما، بل كما قال كثير مِن أهل العلم: "لم يأتِ بعدهما مثلهما"؛ وهما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلميذه ابن القيم رحمه الله.

وها نحن نذكر كلامهما، والذي يبين أن ما جاء في هذا البيان مخالف تمامًا لأحكام للشريعة الغرَّاء، وقبل أن ندخل في المقصود، نسوق هذا النص لشيخ الإسلام ابن القيم الذي يُبيِّن خطورة الفتن لما فيها مِن الشبهات التي تلبس الحق بالباطل والأهواء والشهوات التي تَحُول دون معرفة الحق وطلبه فيقول: "فلا بد مِن علم بالحق وقصد له وقدرة عليه، والفتنة تضاد ذلك؛ فإنها تمنع معرفة الحق أو قصده أو القدرة عليه، فيكون فيها مِن الشبهات ما يلبس الحق بالباطل حتى لا يتميز لكثير من الناس أو أكثرهم، ويكون فيها مِن الأهواء والشهوات ما يمنع قصد الحق وإرادته، ويكون فيها مِن ظهور قوة الشر ما يضعف القدرة على الخير؛ ولهذا ينكر الإنسان قلبه عند الفتنة فيرد على القلوب ما يمنعها مِن معرفة الحق وقصده؛ ولهذا يُقال: فتنة عمياء، صماء، ويُقال: فتنة كقطع الليل المظلم، ونحو ذلك مِن الألفاظ التي تبين ظهور الجهل وخفاء العلم .. وإليك تفصيل ذلك:

هل يجوز القتال على الرئاسة والمال؟

- من أعظم الأسباب التي جلبت الفتنة، وتسببت في المواجهات والصدام؛ هو ما يدَّعونه مِن وجوب إرجاع الحق لأهله، ويعنون بذلك الرئاسة التي فقدوها، فمن نزعت منه الرئاسة هل يقاتل عليها ؟ وها هو شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يبين أنه لا يحل الاقتتال بين المسلمين على الرئاسة أو مال نزع من العبد ظلمًا لما في ذلك من المفسدة العظيمة، فيكون القتال قتال فتنة حتى لو وقع البغي والعدوان على المظلوم ابتداءً بغير قتال منه فيقول: "أما إذا وقع بغي ابتداء بغير قتال؛ مثل أخذ مال أو مثل رئاسة بظلم، فلم يأذن الله تعالى في قتال الطائفتين مِن المؤمنين على مجرد ذلك؛ لأن الفساد في الاقتتال في مجرد رئاسة أو أخذ مال فيه نوع ظلم، فلهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتال الأئمة إذا كان فيهم ظالمون؛ لأن قتالهم فيه فساد أعظم مِن فساد ظلمهم، وعلى هذا فما ورد في صحيح البخاري مِن حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، ليس هو مخالفًا لما تواتر عنه من أنه أمر بالإمساك عن القتال في الفتنة، وأنه جعل القاعد فيها خيرًا مِن القائم، والقائم خيرًا مِن الماشي، والماشي خيرًا مِن الساعي" اهـ. (الاستقامة لشيخ الإسلام صــ54).

فساد قياس هذا القتال على دفع الصائل

يستدل القائلون بلزوم القتال الآن بما ورد في وجوب دفع الصائل!!! وها هو شيخ الإسلام يبين أن قتال الحكام لدفع ظلمهم أو عدوانهم قياسًا على دفع الصائل قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، فدفع الصائل قتال لا فتنة فيه؛ لأن الناس جميعًا أعوان عليه، أما قتال الحكام فهو قتال فتنة لما فيه مِن الفساد المعتاد؛ ولذا فالمشروع الصبر. فيقول رحمه الله بعد ما ذكر الأحاديث في هذا الباب: "فأمر مع ذكره لظلمهم الصبر وإعطاء حقوقهم وطلب المظلوم حقه من الله، ولم يأذن للمظلوم المبغي عليه بقتال الباغي في مثل هذه الصورة التي يكون القتال فيها فتنة، كما أذن في دفع الصائل بالقتال حيث قال صلى الله عليه وسلم: "مَن قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومَن قُتِل دون دينه فهو شهيد"، فإن قتال اللصوص ليس قتال فتنة، إذ الناس كلهم أعوان على ذلك، فليس فيه ضرر عام على غير الظالم، بخلاف قتال ولاة الأمور؛ فإن فيه فتنة وشرًّا عامًّا أعظم مِن ظلمهم، فالمشروع فيه الصبر، وإذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم طائفة بأنها باغية سواء كان ذلك بتأويل أو بغير تأويل، لم يكن مجرد ذلك موجبًا لقتالهم ولا مبيحا لذلك إذا كان قتال فتنة" اهـ. (الاستقامة لشيخ الإسلام صـ55).

هل يدفع الظلم بما فيه فتنة وشر أعظم؟

يحلو للبعض ممن يدفعون بالشباب إلى المهالك ترديد: أن هذا لدفع الظلم وردع الظالمين، بدون ذكر الضوابط التي جاءت بها الشريعة في ذلك، وأن هذا مشروط بعدم ترتب فتنة أعظم مع القدرة على ذلك، حتى لو كان لظلم الواقع عليهم ظلمًا لا تأويل فيه، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كلام نفيس: "وأمور القلوب لها أسباب كثيرة، ولا يعرف كل أحد حال غيره مِن إيذاء له بقول أو فعل قد يحسب المؤذي -إذا كان مظلومًا لا ريب فيه- أن ذلك المؤذي محض باغٍ عليه ويحسب أنه يدفع ظلمه بكل ممكن، ويكون مخطئًا في هذين الأصلين؛ إذ قد يكون المؤذي متأوِّلًا مخطئًا، وإن كان ظالمـًا لا تأويل له فلا يحل دفع ظلمه بما فيه فتنة بين الأمة وبما فيه شر أعظم مِن ظلمه، بل يؤمر المظلوم هاهنا بالصبر، فإن ذلك في حقه محنة وفتنة، وإنما يقع المظلوم في هذا لجزعة وضعف صبره أو قلة علمه أو ضعف رأيه، فإنه قد يحسب أن القتال ونحوه مِن الفتن يدفع الظلم عنه ولا يعلم أنه يضاعف الشر كما هو الواقع، وقد يكون جزعه يمنعه مِن الصبر، والله سبحانه وصف الأئمة بالصبر واليقين، فقال تعالى: ?وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ?، وقال: ?وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ?؛ وذلك أن المظلوم وإن كان مأذونًا له في دفع الظلم عنه بقوله تعالى: ?وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ?، فذلك مشروط بشرطين: أحدهما: القدرة على ذلك. والثاني: ألا يعتدي، فإذا كان عاجزًا أو كان الانتصار يفضي إلى عدوان زائد لم يجز، وهذا هو أصل النهي عن الفتنة، فكأنه إذا كان المنتصر عاجزًا وانتصاره فيه عدوان فهذا ". اهـ. (الاستقامة ص57، 58).

هل يُشرع القتال طلبًا للقصاص مِن غير مراعاة للأحكام والضوابط؟

مِن أعظم ما يلبس به أصحاب البيان على الناس أن القتال صار لازمًا اليوم طلبًا للقصاص، بدون مراعاة لأحكام القصاص المذكورة في كتب الفقهاء؛ فطلب القصاص عندهم يعطيهم الحق في الثأر لو ترتب على ذلك المزيد مِن الدماء والقتل، ونسوا أن القصاص شُرِع للحد مِن القتل لا لتوسيع دائرته. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "معلوم أن قتل القاتل إنما شُرِع عصمة للدماء، فإذا أفضى قتل الفئة القليلة إلى قتل أضعافها لم يكن هذا طاعة ولا مصلحة ..." (منهاج السنة 4/413.(

هل يجوز لمن لا يعلم الواقع أن يُفتي؟

وبعد ما ذكرنا كلام شيخ الإسلام في الرد على ما يدَّعيه القوم، نترك الكلام لتلميذه ابن القيم في وجوب معرفة الواقع، وأن صحة الفهم لا تتم إلا بذلك؛ فالمفتي لا يتمكن مِن الفتوى إلا بنوعين مِن الفهم: الفقه في الواقع، ومعرفة حكم الله الذي يكون فيه.

صحة الفهم نعمة، وقوله: "صحة الفهم وحسن القصد مِن أعظم نِعَم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجلّ منها، بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير مِن المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذي أُمِرْنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة. وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، وهذا حسن القصد وتحري الحق وتقوى الرب في السر والعلانية ويقطع مادته، واتباع الهوى وإيثار الدنيا وطلب محمدة الخلق وترك التقوى.

تمكن الحاكم والمفتي بنوعين مِن الفهم:

لا يتمكن المفتي ولا الحاكم مِن الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين مِن الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات والعلاقات؛ حتى يحيط بها علمًا. والنوع الآخر: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق إحداهما على الآخر، فمَن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا؛ فالعالم مَن يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله". (أعلام الموقعين 1/80)، ولذا عقد الإمام ابن القيم رحمه الله فصلًا كاملًا في كتابه الماتع (أعلام الموقِّعين عن رب العالمين) فصلًا في (تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد) وبيَّن -رحمه الله- أن الجهل بذلك وقع بسببه غلط عظيم على الشريعة أوجب الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه على الناس، وهذا ينافي ما جاءت به الشريعة التي مبناها على تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد. فقال رحمه الله: "هذا فصل عظيم النفع جدًّا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب مِن الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت مِن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست مِن الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل". وها هو -رحمه الله- يضرب أمثلة لتغير الفتوى بعدم جواز إنكار المنكر بما هو أنكر منه، فإنكار المنكرين كان أمرًا محبوبًا لله عز وجل إلا أنه إذا ترتبت عليه المفاسد لم يكن ذلك موصلًا لمرضاة الله تعالى، بل جالب لسخطه تعالى، ولذا يمنع منه فيقول رحمه الله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل بإنكارها مِن المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله؛ فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويموت أهله وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر. وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يُؤخِّرون الصلاة عن وقتها. وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: لا؛ ما أقاموا الصلاة. وقال: مَن رأى مِن أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدًا مِن طاعة ومَن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها مِن إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على المنكر. فطلب إزالته تتولد منه ما هو أكبر منها، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه مِن ذلك -مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه مِن عدم احتمال قريش لذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر؛ ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه مِن وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء". (أعلام الموقعين 3/ 14).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة