الخميس، ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

لماذا نصلي؟ -3

سبب لدخول الجنة ورؤية الله عز وجل فيها

لماذا نصلي؟ -3
محمد إسماعيل المقدم
الخميس ٠٩ يوليو ٢٠١٥ - ١٣:٢٢ م
2050

لماذا نصلي؟ [3]

محمد إسماعيل المقدم

لقد اختلف العلماء في حكم تارك الصلاة تكاسلاً لا جحوداً وإنكاراً، فمنهم من قال: إنه كافر خارج من الملة، ومنهم من قال: إنه كافر غير خارج من الملة، فجدير بالمسلم أن يحافظ على الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، حتى لا يكون عرضة لعذاب الله وغضبه. وللمحافظة على الصلوات فوائد كثيرة، ومصالح عظيمة، من أهمها: أنها سبب لدخول الجنة ورؤية الله عز وجل فيها، وبالمحافظة على الصلاة يرتفع حكم الكفر عن الشخص والبلد.

 

ارتفاع حكم الكفر عن الشخص والدار بإقامة الصلاة والأذان

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم). من فوائد هذا الحديث: أن وصف الكفر يرتفع عن البلاد أو الدولة أو الدار بظهور شعائر الإسلام وأحكامه، وفي مقدمة هذه الأحكام إقامة الصلاة، كما أن الصلاة تثبت الهوية الإسلامية للشخص على مستوى الأفراد، ويرتفع حكم الكفر عن الشخص بإقامته الصلاة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذاكم المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تخفروا الله في ذمته). وهذا نهي عن أن يتعرض لمسلم يصلي صلاتنا ويستقبل قبلتنا ويتلبس بهذه الشعائر الإسلامية، فبالتلبس بهذه الشعائر يرتفع وصف الكفر عن الفرد، فإذا رأيت رجلاً نصرانياً مثلاً أو يهودياً يصلي فهذه علامة واضحة على أنه قد دخل في دين الإسلام، وأنه صار من أهل الإسلام، باعتبار أن الصلاة أبرز وأخطر وأهم شعائر الإسلام الظاهرة، فهي التي تثبت الهوية الإسلامية للدار، فإذا لم يسمع الأذان في بلد ولم توجد فيه المساجد، فهذا دليل على أن هذه الدار دار كفر، وإذا سمع الأذان ووجدت المساجد حتى غدت مظهراً من مظاهر الدار فهي دار إسلام، وسبق أن ناقشنا ذلك بالتفصيل عند دراستنا لكتاب (الغلو في الدين)، وقلنا: إن الأرجح والأقرب أن العامل الأساسي الذي تصنف الدار على أساسه هو إقامة الصلاة، لهذه الأحاديث التي ذكرناها، وإذا قلنا: إذا وجدت المساجد صارت دار الإسلام، وإذا رفع الأذان صارت دار إسلام، فليس معنى هذا مجرد وجود المساجد، لكن المقصود أن يصبح الأذان والصلاة من الشعائر الظاهرة في المجتمع، وهذه مسألة نسبية، فقد توجد قرية صغيرة في صحراء أو في أي منطقة ريفية، وعدد السكان فيها قليل جداً فيوجد فيها مسجد واحد فقط أو مسجدان، فيحكم عليها بأنها دار إسلام، لكن مدينة كبيرة مثل: نيويورك أو غيرها من المدن الضخمة جداً، فيوجد مثلاً في نيويورك حوالى سبعين مسجداً، لكن بالنسبة لحجم المدينة وضخامتها، لا يرفع الأذان، وليس وجود المساجد مظهراً وسمة عامة تصبغ المجتمع بصبغة الإسلام بأذان وإقامة الصلاة، فبالتالي لا يكفي أن نحكم بأنها دار إسلام مع وجود هذا العدد الكبير من المساجد، بل تبقى دار كفر؛ لأن الصلاة والمساجد والأذان ليست من الشعائر الظاهرة التي تصبغ هذا المجتمع بهذه الشعائر، والدليل على هذا حديث أنس رضي الله تعالى عنه السابق: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم). لأن هذا يدل على أنهم مسلمون، وأن هذه بلاد إسلام، قال: (وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم). وروي عن عصام المزني رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث السرية يقول: إذا رأيتم مسجداً أو سمعتم منادياً؛ فلا تقتلوا أحداً). إذاً: من خصائص الصلاة ومناقب الصلاة: أن الصلاة شعار دار الإسلام. ......

 

اقتران الصلاة في القرآن والسنة بالإيمان

إن من فضائل الصلاة: أن الصلاة إيمان، فقد سمى الله تبارك وتعالى الصلاة إيماناً في قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]. يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس، كذلك أيضاً جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة إيماناً فقال: (آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم) متفق عليه. فدل على أن الصلاة من الإيمان. يقول الإمام الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى: وليس من العبادات بعد الإيمان الرافع للكفر عبادة سماها الله عز وجل إيماناً، وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تركها كفراً إلا الصلاة. وقال البيهقي رحمه الله تعالى أيضاً: وقد ذكر الله جل جلاله الإيمان والصلاة فلم يذكر معها غيرها، دلالة بذلك على اختصاص الصلاة بالإيمان، فقال تبارك وتعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:31-32]. فهو لم يقل مثلاً: فلا صدق ولا صلى ولا صام ولا زكى ولا حج، لكن بصفة أساسية قرن الصلاة مع الإيمان والعقيدة والتصديق. فقوله: (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) (وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) يعني: فلا هو صدق برسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن به ولا هو صلى. وقال أيضاً: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ[المرسلات:48]، ثم قال: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات:50]. فهنا قرن بين عدم الركوع وبين الكفر، إذ لو كانوا مؤمنين لركعوا وصلوا لله تبارك وتعالى. يقول البيهقي : فوبخهم على ترك الصلاة كما وبخهم على ترك الإيمان، وقد ذكر الله جل جلاله الصلاة وحدها دلالة بذلك على أنها عماد الدين؛ لأنه قرنها بالإيمان، ومثله قوله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [الأنعام:92]. انظر كيف قرن الإيمان بالصلاة؛ فدل على خطورة الصلاة، وكما أن الصلاة إيمان فترك الصلاة كفر، فقد قال الله تعالى في حق المشركين: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11]. قوله: (إِنْ تَابُوا) يعني: إن تابوا من شركهم، وأقاموا الصلاة معتقدين وجوبها آتين بأركانها، وآتوا الزكاة المفروضة؛ فإخوانكم في دين الإسلام، هذا منطوق الآية، ومفهومها أن من أصر على شركه، وعلى ترك الصلاة، وترك الزكاة، ولم يتب ويدخل في الإسلام؛ فليس من إخواننا في دين الإسلام. ......

 

حكم تارك الصلاة وأقوال أهل العلم في ذلك

يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله) متفق عليه. يعني: هذا أقبله منهم في الظاهر، والله عز وجل هو الذي يحاسبهم فيما يبطنون، ويعلم هل هم صادقون أم منافقون؟ وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) رواه مسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة). وهذا أيضاً في مسلم . وفي لفظ: (ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة). وقال صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر). كذلك جاء في تفسير قوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً [مريم:87] قيل: الصلاة، وإن كان هذا القول ليس مشهوراً في كتب التفسير. وعن محجن بن الأدرع الأسلمي رضي الله عنه (أنه كان في مجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم فأذن للصلاة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع ومحجن في مجلسه، فقال له عليه الصلاة والسلام: ما منعك أن تصلي؟ ألست برجل مسلم؟ قال: بلى، ولكني صليت في أهلي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت) وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما منعك أن تصلي؟ ألست برجل مسلم؟) معناه: أنك لو كنت مسلماً لصليت. ......

 

أقوال الصحابة في أهمية الصلاة وحكم تركها

عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: (أما إنه لا حظ لأحد في الإسلام أضاع الصلاة) وروي عنه بلفظ: (لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة). وعن عبد الله بن شقيق رضي الله تعالى عنه قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) وهذا صحيح. يعني: كان مستقراً عند الصحابة أن الشخص الذي لا يصلي لا أمل له في النجاة، وهو مستحق أن يعذبه الله تبارك وتعالى على ترك الصلاة كما سنبين إن شاء الله تعالى، فكان الصحابة عموماً قد استقر في قلوبهم أن غير المصلي لا نجاة له؛ ولذا كانوا يلغزون بذلك، فيقول الدينوري : (كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه إذا جلس مع أصحابه يقول لهم: حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل قط). فهذا لغز لا يتصور، فنجاة غير المصلي شيء على خلاف الأصل، إذ لا مطمع له ولا مطمح في النجاة. قال: فسكت الصحابة؛ لأنهم لا يتصورون أن ينجو غير المصلي، فيقول أبو هريرة رضي الله عنه: هو أخو بني عبد الأشهل عمرو بن أقيش رضي الله عنه، وكان له رباً في الجاهلية، فكره أن يسلم حتى يأخذه، فجاء يوم أحد، فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأحد، قال: أين فلان؟ قالوا: بأحد، قال: فأين فلان؟ قالوا: بأحد، فلبس لأمته -لباس الحرب- وركب فرسه، ثم توجه قبلهم، فلما رآه المسلمون توقعوا منه شراً؛ لأنهم لم يكونوا علموا أنه دخل في الإسلام، فلما رآه المسلمون مقبلاً عليهم، قالوا: إليك عنا يا عمرو -يعني: ابتعد عنا- قال: إني قد آمنت، فقاتل حتى جرح، فحمل إلى أهله جريحاً، فجاءه سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال لأخته: سليه أقاتلت حمية لقومك أو غضباً لهم أم غضباً لله عز وجل؟ فقال: بل غضباً لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فمات فدخل الجنة، وما صلى لله عز وجل صلاة). وهذا؛ لأنه أسلم ولم يأت عليه وقت صلاة، بل شارك في الجهاد فقتل، فهو لم يمتنع عن أداء الصلاة، ولو حضر وقت الصلاة لوجب عليه أن يصلي. وصح عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: (لا إيمان لمن لا صلاة له، ولا صلاة لمن لا وضوء له) يعني: كأن الصلاة شرط في صحة الإيمان، كما أن الوضوء شرط في صحة الصلاة.

 

أقوال التابعين ومن بعدهم في حكم تارك الصلاة

يقول إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: من ترك الصلاة فقد كفر. ويقول أيوب السختياني : ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه، يعني: لا يختلف في وصفه بأنه كفر. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أخشى ألا يحل للرجل أن يقيم مع امرأة لا تصلي، ولا تغتسل من الجنابة، ولا تتعلم القرآن. وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: والعلماء لهم اصطلاح في تارك الصلاة الذي لا عذر له، يقولون: تارك الصلاة على صحة البدن لا تجوز شهادته، ولا يحل لمسلم أن يؤاكله، ولا يزوجه ابنته، ولا يدخل معه تحت سقف.

 

خلاف العلماء في حكم تارك الصلاة

هناك خلاف بين العلماء هل ترك الصلاة كفر أكبر يخرج من الملة أم هو كفر عملي من الكبائر العظام، لكنه لا يخرجه من الملة، ولا ينزع عنه صفة الإسلام؟ إن العلماء لهم تنبيه مهم جداً يذكرونه في مثل هذا الباب، سواء في باب وعيد قاتل النفس، أو حكم ترك الصلاة أو غير ذلك من الذنوب والكبائر العظام المهلكة، وهذا التنبيه هو: أنه لا ينبغي أن يتعرض لهذه النصوص بالتأويل، خاصة في غير مجلس علم، كأن يكون أمام عموم الناس كالخطب على المنابر، فعليك أن تأتي بالنصوص على وجهها، وأن تتركها تفعل فعلها، وتقع موقعها من القلوب، وهو الترهيب من مواقعة هذه الذنوب، والترغيب في التوبة منها، فلا ينبغي أن تقول: أنا أكتم العلم، فلا بد أن أفصل المسائل كلها، وأقول للناس كل الحقائق... إلى غير ذلك، فهذا يقال في مجالس طلبة العلم والفقه، أما مع عموم الناس فلا ينبغي الإفاضة في ذكر تأويلات العلماء في مثل هذه الأشياء، فإذا أتيت بقوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله النامصة والمتنمصة) فلا تقل: هي فلانة بنت فلان التي تنمصت، وهي ملعونة؛ لأنك لا تدري لعلها تتوب، أو كانت جاهلة بالحكم، أو تفعل حسنات ماحية، فأنت لا تدري كيف تكون العاقبة، لكن عليك أن تأتي بالنصوص على عمومها، وتقول: من فعل كذا فهو كذا، أو لعن الله من فعل كذا، ومن فعل كذا فقد كفر، حتى لو كنت تعرف أن هذا كفر عملي لا يخرج من الملة، ففي مقام الدعوة العامة لا تؤوله، وكذلك في قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء:93] إلى آخره، فقد نهى العلماء عن التعرض لتأويل هذا النص، لكن اترك النص يفعل فعله، ويقع موقعه من قلب المستمع؛ لعله ينزجر عن الكبيرة، لأن كثرة الكلام في العذر بالجهل والعذر بالإكراه، وكثرة تأويل مثل هذه النصوص ممن لا يطيقون حمل هذه المعاني؛ يجعلهم يضعونها في غير موضعها؛ ولذلك فإن مقام الدعوة غير مقام التنظير والتأصيل والتقعيد؛ لأن التأصيل والتقعيد يكون في مجالس العلم بين العلماء، أما أمام العوام فيخشى أن يقع فيما حذر منه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه بقوله: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة). وقال علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟). فإذاً: ينبغي أن يخاطب الناس على قدر عقولهم؛ لأن بعض العوام إذا قلت له: الشيء الفلاني مكروه، المكروه عنده مباح، ويتمادى في فعله، كذلك إذا أولت مثل هذه النصوص، فإنها تضعف تأثيرها في قلبه؛ لقصر عقله، وقلة باعه في العلم، على أي حال تارك الصلاة يسمى كافراً قطعاً بلا خلاف؛ لأنه هكذا سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكن الخلاف في هذا الكفر الذي يوصف به تارك الصلاة، هل هو كفر أكبر أم كفر أصغر؟ نحن في هذا المقام نتجنب ذكر التفاصيل واختلاف العلماء في حكم تارك الصلاة، وفي نوع هذا الكفر الثابت وصفه لتارك الصلاة تكاسلاً مع اعتقاده وجوبها، وإلا فلو جحد فهو كافر، لكن نحن نهمس فقط في أذن تارك الصلاة الذي لا ندري كيف يتمتع بنعم الله سبحانه وتعالى، ويدعي الانتساب للإسلام ومع ذلك لا يصلي؟!! كيف يكون في هذا خير؟!! نقول لتارك الصلاة: هل تقبل ويرضيك أن يكون انتسابك إلى ملة الإسلام، وإلى دين التوحيد، وإلى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم محل خلاف بين العلماء؟! ففريق من العلماء يقول: إنك كافر مشرك حلال الدم والمال، وإنك لا تستحق الحياة، بل على ولي أمر المسلمين أن يقتلك ردة على ترك الصلاة، وإنه لا يجوز لك أن تتزوج من مسلمة، ولا تصلح ولياً شرعياً لأولادك، وإنك لا ترثهم و لا يرثونك، وإنك لا تغسل ولا يصلى عليك ولا تدفن في مقابر المسلمين، وإنك مستحق للخلود في جهنم مع فرعون و هامان و قارون و أبي بن خلف و أبي جهل وسائر أعداء الدين، فهذا الفريق الأول من العلماء يرى هذا الرأي في تارك الصلاة. الفريق الآخر يقول: بل تارك الصلاة فاسق عاص فاجر مجرم، يجب قتله حداً إن أصر على ترك الصلاة. فهل تقبل أن يكون انتماؤك إلى الدين أو إلى الإسلام أو إلى أمة محمد عليه الصلاة والسلام مسألة خلافية بين العلماء يتنازعون فيها؟ لا شك أن هذه دناءة ما بعدها دناءة أن يجعل الإنسان إسلامه وانتماءه للإسلام محل خلاف؛ فمن أجل ذلك يقول بعض العلماء: يا تاركاً لصلاته إن الصلاة لتشتكي وتقول في أوقاتها الله يلعن تاركي

 

أقوال أهل العلم في حكم تارك الصلاة

إن ترك الصلاة من أكبر الكبائر الموبقة، قال الإمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله تعالى: سمعت إسحاق يقول: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تارك الصلاة كافر) وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر. وقال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: لا ذنب بعد الشرك أعظم من ترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وقتل مؤمن بغير حق. ويقول الشيخ المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمداً من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وأن إثمه عند الله أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال، ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة. قد يتأفف تارك الصلاة من أن يفعل فاحشة الزنا مثلاً، أو أن يسرق، أو أن يرابي، أو يقذف المحصنات، أو يقتل النفس، أو يسرق الأموال، أو يشرب الخمر، ولا يدري المسكين أن ترك الصلاة أخطر وأشد إهلاكاً له من هذه الكبائر، فترك الصلاة أكبر وزراً بعد الشرك بالله تبارك وتعالى. وقال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: فمؤخر الصلاة عن وقتها صاحب كبيرة، وتاركها بالكلية -يعني: تارك الصلاة الواحدة بالكلية- كمن زنى وسرق؛ لأن ترك كل صلاة أو تفويتها كبيرة، فإن فعل ذلك مرات فهو من أهل الكبائر إلا أن يتوب، فإن لازم ترك الصلاة فهو من الأخسرين الأشقياء المجرمين.

 

تنزيه الصلاة لمن أداها عن وصف النفاق

إذا كانت الصلاة إيماناً، وترك الصلاة كفراً، وهي تبرئ الإنسان وتنزهه عن وصف الكفر، فهي كذلك تنزهه عن وصف النفاق، فقد جاءت نصوص كثيرة تدل على هذا. منها: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى، كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق) حديث حسن. ونحن نتكلم عن جنس الصلاة سواء كانت نافلة أم فريضة، فالصلاة تكون سبباً في البراءة من النفاق، وسبباً في البراءة من النار. وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً) أخرجه البخاري . إذاً: السجود يميز الله عز وجل به يوم القيامة بين المؤمن وبين المنافق. ......

 

حال المنافقين مع الصلاة

لقد بين الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أن ترك الصلاة نفاق، يقول تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142] قوله: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) أي: يظهرون الإسلام، وقوله: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى) أي: أنهم كانوا يصلون، لكن يقومون إلى الصلاة وهم كسالى، وقوله: (يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) يعني: يصلون مراءاة، وهم متكاسلون متثاقلون لا يرجون ثواباً، ولا يعتقدون على تركها عقاباً. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان، لكن يقوم إليها طلق الوجه، عظيم الرغبة، شديد الفرح، فإنه يناجي الله، وإن الله تجاهه يغفر له، ويجيبه إذا دعاه). ونحن نلاحظ حين تقام الصلاة أن بعض الناس يتأخرون ويتثاقلون عنها، كأنه يحمل جبلاً فوق رأسه إلى أن يصل إلى الصف، وهذا مخالف للآداب الشرعية، بل هذه الصفة من صفات المنافقين، فإنهم إذا قاموا للصلاة قاموا كسالى، وعلام يكسل وهو يقبل على هذه النفحات؟ والرسول صلى الله عليه وسلم نص على نفس هذا المعنى في قوله: (احضروا الذكر وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها). قوله: (احضروا الذكر وادنوا من الإمام) أي: السنة الاقتراب من الإمام، وكلما اقتربت من الإمام فإن ذلك أفضل. قوله: (فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها) أي: حتى لو استحق دخول الجنة، لكنه كما تعمد التأخر عن صفوف الصلاة نتيجة التكاسل فإنه وإن دخل الجنة سيؤخر في منزلته ومرتبته. قوله: (حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها) يعني: من يتأخر يؤخره الله، والجزاء من جنس العمل. وقال سبحانه وتعالى في شأن المنافقين أيضاً: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى [التوبة:54] قوله: (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى) قال ابن عباس : (إن كان في جماعة صلى، وإن انفرد لم يصل.) يعني: شأن المنافق إن كان في جماعة من الناس يرونه فإنه يصلي مراءة لهم، وإن انفرد ولم يطلع عليه أحد من البشر لم يصل. فهذا المنافق هو الذي لا يرجو على الصلاة ثواباً، ولا يخشى في تركها عقاباً؛ لأن النفاق يورث الكسل في العبادة لا محالة، وإنما يدفعهم إلى الصلاة الرغبة في إرضاء الناس، والتظاهر بالإيمان فراراً من الذم، وسعياً إلى الكسب والمغنم، وهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، ولا يؤدونها بخشوع وحضور قلب، بل يؤدونها وهم شاردون عن الخالق إلى المخلوق كما قال تبارك وتعالى في شأنهم: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7]. قوله: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ): يقول ابن كثير : إما عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائماً أو غالباً، وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به، وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها، فاللفظ يشمل ذلك كله، ولكن من اتصف بشيء من ذلك فله قسط من هذه الآية، ومن اتصف بجميع ذلك فقد تم له نصيبه منها، وكمل له النفاق العملي. يعني: هؤلاء المنافقون الذين يقول الله فيهم: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] هم مصلون، لكن ما صفة صلاتهم؟ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:5] وهذا فيمن يضيع وقتها، فكيف بمن يهجرها كلها ويتركها بالكلية؟! يقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في شأن صلاة الجماعة: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل، يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) رواه مسلم. قوله: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق) أي: مغموز ومشهور بالنفاق. قوله: (ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين) يعني: أن الرجل من الصحابة إذا كان مريضاً شديد المرض قد عذره الله سبحانه وتعالى، لكن قلبه لم يطق أن يتخلف عن صلاة الجماعة، فكان يأتي إلى المسجد مستنداً على رجلين يمشي بينهما يتمايل من شدة الضعف، وهؤلاء هم المؤمنون الخلص، عذر الله أبدانهم فلم تطق قلوبهم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن) يعني: أن يكون من المنافقين. وقال صلى الله عليه وسلم في موقف المنافقين من صلاة العشاء: (ولو علم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً لشهدها) رواه مسلم . يعني: من صفات المنافقين أنهم يبحثون عن الأمور المادية والأمور الدنيوية؛ لأن الدنيا تدفعهم وتؤزهم أزاً. لو أن محلاً من المحلات التجارية أعلن عن تخفيض بنسبة (90%) مثلاً ماذا تتوقعون أن يحصل في اليوم التالي؟ ستجد الناس يتسارعون للشراء من هذا المحل، فكذلك بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم موقف المنافقين من الصلاة، بحيث لو قيل لهم: إن من أتى المسجد في صلاة العشاء سيجد عظماً سميناً؛ لما تخلف منهم أحد؛ من أجل أن ينال هذا العظم السمين. إذاً: المنافقون لو لاح لهم شيء من الدنيا لبادروا إليه، فهذا شأنهم ودأبهم، إن قلت: حيّ على الشهوات طاروا إليها خفافاً وثقالاً، وإن قلت حيّ على الصلاة قاموا إليها كسالى، لهم في المعاصي وثبات، وفي الطاعة سكون وثبات. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) قوله: (لو يعلمون ما فيهما) يعني: لو عندهم يقين، لكن ليس عندهم يقين، فالدافع غير موجود؛ لأنه ليس عندهم تصديق ولا يقين بهذا الوعد،وهو ثواب الصلاة. قوله: (لأتوهما ولو حبواً) يعني: يحبو كما يحبو الصبي. يقول صلى الله عليه وسلم: (ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) متفق عليه. يعني: أن تارك صلاة الجماعة يستحق أن يعاقب بتحريق بيته عليه، لكن المانع من ذلك هو ما فيه من الأطفال والذرية كما جاء في رواية ضعيفة، فحتى لا يتعدى الضرر إلى من لا يستحق العقوبة ممن لا تجب عليه صلاة الجماعة من الأطفال والنساء والصبيان فمن أجل ذلك فقط امتنع النبي عليه الصلاة والسلام من تحريق بيوت هؤلاء المتخلفين عن صلاة الجماعة، أو بعبارة أخرى أنه هم أن يفعل ذلك ولم يفعل؛ لأن صلاة الجماعة واجبة عليه، فلو استخلف رجلاً لفاتته الجماعة الأولى، ولأجل ذلك لم يفعل. وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر) يفهم من هذا أنهم يشهدون غيرهما من الصلاة؛ لأنهم في النهار لا يستطيعون التستر والتخلف، أما الفجر والعشاء فكل منهما صلاة ليلية، والمساجد ما كانت مضاءة بهذه الصورة فيما مضى، فالمنافق يتستر وراء ظلام الليل في الفجر والعشاء؛ لأن الناس لا يرونه في الظلام غالباً، أما في النهار فإنه يرائي بالصلاة؛ كي يحقن دمه وماله، ويأخذ حكم الإسلام، فمن أجل ذلك كانوا يشهدون الصلوات النهارية، أما صلاة الفجر والعشاء فكانوا يتثاقلون عنهما، فكيف بمن يدعي الإسلام والإيمان ولا يشهد الصلوات الخمس كلها في الجماعة، فظاهر المنافقين في عهد النبوة كان أحسن حالاً من ظاهر هؤلاء المسلمين اليوم الذين لا يشهدون صلاة الجماعة! يقول القرطبي رحمه الله تعالى معلقاً على قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً): وذلك لأن صلاة العشاء تأتي وقد أتعبهم عمل النهار، فيثقل عليهم القيام إليها، وصلاة الصبح تأتي والنوم أحب إليهم من مفروح به، ولولا السيف ما قاموا. انتهى كلام القرطبي . ما أصدق قول رسول صلى الله عليه وسلم في حق هؤلاء المنافقين: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ) الجعظري هو: الفظ الغليظ المتكبر، والجواظ هو: الجموع المنوع. (إن الله يبغض كل جعظري جواظ صخاب في الأسواق) سخاب بالسين أو بالصاد: ذو الصخب والجلبة، يرفع صوته بالبضاعة كما يفعل بعض الناس، فهذا ليس من أدب المسلم أن يكون كثير الصخب والجلبة والزعق. ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (جيفة بالليل حمار بالنهار) قوله: (جيفة بالليل) أي: لا يذكر الله سبحانه وتعالى، لا يصلي فجراً ولا عشاء ولا غيرهما. قوله: (حمار بالنهار) يعني: يسعى في طلب الدنيا كالحمار طول النهار، ثم قال: (عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة). والحقيقة أن المنافق الذي هو جيفة بالليل أخف حالاً من الشخص الذي يسهر الليل أمام الأفلام والمسرحيات والأغاني والحفلات؛ لأن هذا إن كان ظالماً فالعوام يقولون: نوم الظالم عبادة؛ لأنه إذا نام يكون قليل الشر والمعاصي، فالمنافق الذي ينام بالليل يكون أخف من حال هذا الذي هو مستيقظ بالليل في معصية الله تبارك وتعالى. فالمنافقون خشب بالليل، صخب بالنهار، إذا جن عليهم الليل سقطوا نياماً كأنهم خشب، لا يذكرون الله تعالى ولا يصلون، فإذا أصبحوا تصاخبوا على الدنيا شحاً وحرصاً؛ ولهذا قال في حق الواحد منهم: (جيفة بالليل، حمار بالنهار) أي: أنه كالجيفة؛ لأنه يعمل طوال النهار لدنياه، وينام طول الليل كالج......

 

المحافظة على الصلوات سبيل المؤمنين وشعار حزب الله المفلحين

إن الصلاة سبيل المؤمنين، وشعار حزب الله المفلحين وأوليائه المرحومين، وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115] فالصلاة معلم أساسي ورئيسي من معالم سبيل المؤمنين، فلا يتصور أن مؤمناً لا يصلي، هذا شيء غير وارد؛ فلذلك من الشعائر الظاهرة لأهل الإيمان وأولياء الله وحزب الله سبحانه وتعالى المحافظة على الصلاة، فمن لم يصل فهو ليس من حزب الله، إنما هو من حزب الشيطان الخاسرين، وهو عدو الله ورسوله والمؤمنين؛ لأن ولي الله عز وجل لا بد أن يكون مقيماً للصلاة؛ لأنه لا يتوقع أبداً ولا يتصور أن ولياً من أولياء الله يستحق صفة الولاية ثم هو لا يصلي، بل قطعاً الذي لا يصلي بدون عذر وعمداً أنه من أولياء الشيطان، وهو من حزب الشيطان الخاسرين، يقول تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]. وعن إبراهيم و مجاهد في تفسير قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الكهف:28] (بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) قالا: الصلوات الخمس. وعن عمرو بن مرة الجهني رضي الله تعالى عنها قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، فممن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء) فهؤلاء المصلون هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، قال الله عنهم: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]. إذاً: كل من آمن واتقى فهو ولي من أولياء الله، وليست الولاية حكراً على طبقة خاصة، كما يزعم بعض الصوفية أن الولاية متوارثة لطبقات معينة، بل ولاية الله باب مفتوح لكل الناس، فكل واحد إما أنه ولي لله أو ولي للشيطان، ولا يوجد وسط، لكن المسلمون يتفاوتون في درجة الولاية. فالناس ينقسمون إلى قسمين: أولياء الله وهم المسلمون، وأعداء الله وهم الكفار. في مصر لما يذكر أولياء الله الصالحين تذهب الأذهان إلى الموتى، قال الشيخ أبو بكر الجزائري حفظه الله حين زارنا قبل سنوات بعيدة: أنتم هنا في مصر عندكم أولياء الله الصالحين، لقد تبادر إلى أذهانكم الموتى، أليس عندكم أولياء لله أحياء؟! ثم قال مخاطباً الإخوة: كلكم أولياء الله ما دمتم تصلون وتتقون. إذاً: ولاية الله باب مفتوح لكل من على وجه الأرض وأراد أن يصير ولياً من أولياء الله تبارك وتعالى، حتى لو كان شمعون بيريز و غيره من الكفار، فالباب مفتوح أمامهم على مصراعيه، فمن أراد أن يكون ولياً لله فهذا أمر سهل جداً، يقول عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:63-64]. وأذكر أن الشيخ الجزائري قال: لو أني نزلت من مطار القاهرة وقلت لصاحب (التكسي): أريد أن أزور أولياء الله في القاهرة، فماذا سيفعل؟ سيطوف بي على جميع المقابر والأضرحة قبر الحسين و السيدة زينب و السيدة نفيسة إلى آخر هؤلاء الأولياء. يعني: أن هذا المعنى فعلاً راسخ في قلوب الناس، لكن الصحيح والذي ينبغي أن ننبه الناس إليه أن باب الولاء مفتوح لكل من على وجه الأرض، فكل إنسان يستطيع أن يكون ولياً من أولياء الله، وذلك بأن ينضم إلى حزب الله تبارك وتعالى. إذاً: هؤلاء المصلون هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهم الذين تبكي لفراقهم السماء والأرض إذا أفضوا إلى ربهم. وهؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين افترض الله سبحانه وتعالى وأوجب علينا أن نسأله أن يهدينا إلى صراطهم، يقول عز وجل: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] نسأله ذلك سبع عشرة مرة في اليوم والليلة على الأقل في الصلوات الخمس.......

 

ترك الصلاة شعار أصحاب سقر الخالدين في الجحيم

إذا كانت الصلاة سبيل المؤمنين، وشعار حزب الله المفلحين وأوليائه المرحومين، فإن ترك الصلاة شعار أصحاب سقر الخالدين في الجحيم، يقول الله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:27-30]، وقال أيضاً تبارك وتعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر:38-42] انظر حيثيات الحكم عليهم بدخول سقر قَالُوا [المدثر:43] باعترافهم هم لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [المدثر:43-45] إلى آخر الآيات. فتارك الصلاة في سقر، والمستكبرون عن الركوع لله عز وجل، والمستهترون بمواقيت الصلاة لهم الويل، يقول سبحانه وتعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:48-49]. كذلك قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5] وهم المستهترون بوقت الصلاة. والمضيعون الصلاة المفرطون فيها لهم الغي كما قال تعالى بعدما ذكر أولياءه من الأنبياء الصالحين: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، فنقول لتارك الصلاة: أليس إقامة خمس صلوات في اليوم والليلة -التي لها من الفضائل ما لا يحصى- أهون من شرب الصديد، ومقطعات الحديد، ومعاناة العذاب الشديد؟! ......

 

الصلاة نور وبرهان ووضاءة للمؤمن في الدنيا والآخرة

إن الصلاة نور وبرهان ووضاءة، الصلاة نور يزيل ظلام الزيغ والباطل، وهي نور بكل معنى كلمة النور، نور تنور وجه صاحبها في الدنيا، وتكسوه جمالاً وبهاءً كما هو محسوس، وتنير قلبه؛ لأنها تشرق فيه أنوار المعارف، وتنير ظلمة قبره كما قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: (صلوا ركعتين في ظلم الليل لظلمة القبر)، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. كما أن هذا النور يتلألأ على جبين المصلي يوم القيامة، يقول صلى الله عليه وسلم: (والصلاة نور، والصدقة برهان) رواه مسلم، وهي نور في الدنيا، نور في القلب، ثم يشرق على الوجه، ونور في القبر، ونور يوم القيامة، ونور في الجنة؛ فلذلك عمم وقال: (والصلاة نور)، وقوله: (والصدقة برهان) أي: دليل وحجة وبرهان على إيمان صاحبها. والصلاة وضاءة للوجه وإشراق له، يقول تبارك وتعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29] أي: التواضع والسكينة والإخبات والخشوع في وجوههم من أثر السجود. قال بعض المفسرين: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29] قال: الصلاة تحسن وجوههم. ومن رزق فراسة رأى هذا النور على وجه المصلي، بينما يرى الظلام والسواد على وجه تارك الصلاة والعياذ بالله. وقال الحسن : سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29] أي: السمت الحسن. يعني: أن الصلاة تحسن صورته وسمته ووجهه. وعن منصور عن مجاهد قال: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ [الفتح:29] يعني: الخشوع، فالتواضع خلق المصلي، وغير المصلي مستكبر، قال عز وجل: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات:48] يستكبرون عن الركوع لله سبحانه وتعالى، ولما فسر مجاهد قوله تعالى: (سِيمَاهُمْ) بالخشوع، قال منصور لـمجاهد : ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه، فقال: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون. فلا يعجز أحد -حتى لو كان منافقاً- أن يضغط بشدة على الحصير حتى تحصل له هذه العلامة؛ فهذه السيما في الخشوع، بحيث يتوارى الخيلاء والكبرياء، ويحل محلها التواضع النبيل، والشفافية الصافية، والوضاءة الهادئة، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن المصلي وضاءة وصباحة ونبلاً، فيبدو المصلي نتيجة الخشوع والخوف والرجاء والحمد والتسبيح كأنه إنسان جاء من الآخرة؛ ليحدث الناس بما شاهد هنالك، أو كإنسان انفلت من جيل الأوائل وقفز ليعيش بيننا في عصرنا. وعن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) صدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فهو حينما يبشر فقطعاً سيقع؛ لأنه كما قال الله: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]. قوله: (بشر المشاءين) أتى بصيغة المبالغة، يعني: المحافظين على ذلك. قوله: (بشر المشاءين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) لأن الجزاء من جنس العمل، فكما عانيت هذه الظلمة في الخروج إلى المسجد؛ تعظيماً لصلاة الجماعة؛ يكافئك الله سبحانه وتعالى بالنور التام يوم القيامة. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليضيء للذين يتخللون إلى المساجد في الظلم بنور ساطع يوم القيامة). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون و هامان وفرعون و أبي بن خلف) بئست الصحبة، بدل أن يصاحب الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين يكون في صحبة هؤلاء المجرمين الأشقياء قارون و هامان وفرعون و أبي بن خلف . وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة، قالوا: وكيف تعرفهم -يا رسول الله- في كثرة الخلائق؟!) يعني: كيف تعرفهم يوم القيامة في هذا الزحام الشديد، فجميع الأمم سيحشرون في أرض واحدة، ومع ذلك كله سيعرفك النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة في وسط هذا الزحام، ويعرف أنك من أمته الذين آمنوا به ولم يروه. يقول صلى الله عليه وسلم (ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة، قالوا: وكيف تعرفهم -يا رسول الله- في كثرة الخلائق؟! قال: أرأيت لو دخلت صيرة -يعني: حظيرة تتخذ للدواب- فيها خيل دهم -يعني: سود، والبهيم في الأصل من لا يخالط لونه لون سواه- قال: وفيها -يعني: وفي هذه الحظيرة فرس واحد فقط- أغر محجل -وأصل الغرة بياض في وجه الفرس- أما كنت تعرفه منها؟ قال: بلى، قال: فإن أمتي يومئذ غر من السجود، محجلون من الوضوء). ......

 

ترك الصلاة سواد وظلمة وهلكة في الدنيا والآخرة

إذا كانت الصلاة نوراً وبرهاناً فإن ترك الصلاة سواداً وظلمة وهلكة في الدنيا والآخرة؛ لأن ترك الصلاة يظلم القلب، ويسود الوجه؛ لأن الطاعة نور والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة ازدادت الحيرة، حتى يقع تاركها في الضلالات وهو لا يشعر، كأعمى خرج في ظلمة وحده. وتقوى هذه الظلمة مع الإصرار على ترك الصلاة والعياذ بالله في قلبه، حتى تظهر وتعلو وتطفح وتفيض على الوجه والعين، فيصير سواداً يدركه أهل البصائر، وتحصل حين ذلك الوحشة بينه وبين الناس لاسيما أهل الخير، فيجد وحشة بينه وبينهم، وكلما قويت تلك الوحشة بعد منهم وحرم بركة النفع بهم، وقرب من حزب الشيطان بقدر ما بعد من حزب الرحمن، إلى أن ينتهي به الحال في المآل إلى أن يقترن بصحبة السوء، وعصبة الأشرار يوم العرض على الملك الجبار أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19]. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حافظ على الصلاة كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون و هامان و أبي بن خلف) يعني: يتباعد عن المؤمنين ويحشر مع أعداء الله سبحانه وتعالى. يقول بعض أهل العلم: وإنما يحشر تارك الصلاة مع هؤلاء الأربعة؛ لأنه إنما يشتغل عن الصلاة بماله أو بملكه أو بوزارته أو تجارته، فإن اشتغل بماله عن الصلاة حشر مع قارون ، وإن اشتغل بملكه حشر مع فرعون، وإن اشتغل بوزارته حشر مع هامان وزير فرعون، وإن اشتغل بتجارته حشر مع أبي بن خلف تاجر الكفار بمكة، فما أنقص عقل من باع مرافقة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بمرافقة الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيراً. ......

 

ترك الصلاة مصيبة وبلاء ومحبط للعمل

إن ترك الصلاة مصيبة وبلاء، وأي مصيبة، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله وماله) هذه الرواية موجودة في صحيح ابن حبان وغيره مطلقة، لم ينص على صلاة العصر كما هو معروف في الرواية المشهورة. قوله: (من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله وماله) يعني: أصيب في أهله وماله، وهذا مثل قوله تبارك وتعالى: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد:35] ومعنى (وتر) أي: نقص وسلب، فبقي وتراً بلا أهل ولا مال، فليحذر الإنسان من فوات الصلاة كحذره من ذهاب أهله وماله. وفي لفظ عند عبد الرزاق : (لأن يوتر أحدكم أهله وماله، خير له من أن يفوته وقت صلاة) يعني: لو أن رجلاً رجع إلى بيته فوجد البيت قد سقط وانهار على ماله وأهله، فكم ستكون مصيبته؟! لكن الذي فاتته صلاة واحدة فمصيبته أشد من مصيبة هذا الإنسان. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) متفق عليه. وإذا صحت رواية عبد الرزاق : (لأن يوتر أحدكم أهله وماله خير له من أن يفوته وقت صلاة) فهي تدل على أن قوله عليه الصلاة والسلام: (من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله وماله) عام أريد به الخصوص، وهو خصوص صلاة العصر، والذي خصه هذه الرواية: (الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله). الموتور: هو من أخذ أهله وماله وهو ينظر إليهم، فهذا أشد في غمه، فمن يكون حاضراً وماله يحترق مثلاً، وأهله يحترقون أجمعين فهو أشد غماً، فمن فاتته الصلاة أشبه هذا الموتور؛ لاجتماع غم الإثم ونكد المعصية نفسها، وهي ترك الصلاة أو تفويت الصلاة حتى خرج وقتها، وكذلك غم فقد الثواب كما يجتمع على الموتور غمان: غم السلب، وغم الطلب بالثأر. وعن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ترك الصلاة حبط عمله) رواه البخاري . ......

 

ترك الصلاة سبب تنغيص العيش وفقدان الإحساس بالذنوب والعذاب في الآخرة

لقد توعد الله عز وجل من أعرض عن ذكره فقال سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] فليبشر تارك الصلاة بمحاربة الله إياه، بتنغيص عيشه، وتكدير قلبه، وتشتيت همه، وتفريق شمله، وحضور فقره، وفساد أحواله، ولعذاب الآخرة أشد وأخزى. قد يقول قائل: نحن نرى تارك الصلاة غادياً رائحاً لا يحس بعظم وزره وشناعة فعله، ولا يشعر بعقوبة الله تعالى إياه، ولا يشعر بأنه مبتلى بهذه المصيبة، فما سبب ذلك؟! السبب هو ما قاله الشاعر: ما لجرح بميت إيلام الميت إذا وخزته بسكين هل يتألم؟! إذاً: السبب أنه فقد الإحساس بالمصيبة، فهو في مصيبة ومع ذلك لا يحس؛ لأن الإحساس من نعم الله سبحانه وتعالى للعبد، بل الإحساس في البدن يحميك من الأخطار، فلو أمسكت شيئاً فجأة وكان هذا الشيء حاراً جداً، ففي الحال هذا الإحساس بالحرارة يجعلك تبعد يديك فوراً عنه، وإذا لمست مسماراً فبسرعة تحاول أن تهرب منه، حتى لا يتوغل في جلدك مثلاً، وهكذا؛ لذلك مريض السرطان الذي يهمل علاجه يفقد إحساسه مع الوقت، فبالتالي يسهل جداً إدخال زجاجة أو مسمار في جسمه دون إحساس، ويتطور الأمر في النهاية إلى أن يحصل له بتر في الساق؛ والسبب أنه لا يوجد لديه إحساس. فإذاً: الشخص الذي ليس عنده إحساس بالمصيبة تتراكم وتتكاثر عليه الذنوب إلى أن تهلكه وهو لا يشعر، فالإحساس في القلب مهم جداً، ولذلك أعطانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا المقياس فقال: (إذا سرتك حسنتك، وساءتك سيئتك، فأنت مؤمن) يعني: إذا كان في قلبك الإحساس فأنت بخير، أما من كان بخلاف ذلك ممن زين له سوء عمله فرآه حسناً، فكيف سيتوب وهو يرى أن عمله سيقربه إلى الله؟! ولذلك فإن المبتدع أسوأ حالاً من العاصي المرتكب للكبائر؛ لأن العاصي إذا فعل شيئاً من المحرمات فإنه يعتقد أن هذا حرام، والهوى غلبه، والشيطان صور له المعصية وزينها، لكن المبتدع هل يرجى له توبة؟ لا يرجى له توبة إلا أن يشاء الله؛ لأنه زين له سوء عمله، ويرى عمله المبتدع حسناً يقربه إلى الله، فلذلك لا يتوب. الشاهد من الكلام: أن عقوبات الله سبحانه وتعالى تتنوع وتتلون، وبعضها أخطر من بعض، فهناك عقوبات كونية قدرية كالزلازل والخسف والصواعق وغير ذلك، وهناك عقوبات شرعية إرادية كقطع يد السارق وجلد الزاني ورجمه إلى آخره. ......

 

ترك الصلاة سبب للحرمان من رؤية الله في الجنة

عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه أنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته -أو لا تضارون في رؤيته-، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، فافعلوا، ثم قرأ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]) متفق عليه. قوله: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر) يعني: حين استتم القمر بدراً. قوله: (إنكم سترون ربكم كما سترون هذا القمر) هنا ليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي معاذ الله، لكن المقصود تشبيه الرؤية بالرؤية، ووجه الشبه هو شدة الوضوح، يعني: إذا كانت السماء صحواً ليس دونها سحاب، وإذا كان القمر بدراً مكتملاً ليس هلالاً دقيقاً لا يرى إلا بصعوبة؛ فلا شك أن رؤية القمر في هذه الحالة تكون واضحة تماماً، فوجه الشبه بين الطرفين هو شدة وضوح الرؤية في كل منهما. زاد ذلك المعنى وضوحاً قوله صلى الله عليه وسلم: (كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) قوله: (لا تضامون) بتشديد الميم وتخفيفها، فعلى معنى التشديد: (لا تضامّون) يعني: لا ينضم بعضكم إلى بعض وتزدحمون وقت النظر إليه؛ لأن الناس إذا كانوا يتراءون الهلال في أول ليلة متوقعة من الشهر، فإنهم يحتاجون إلى أن ينضم بعضهم إلى بعض، وأن يزدحم بعضهم إلى بعض؛ لأن الرؤية غير واضحة، أما رؤية الله عز وجل فهي كرؤية القمر في الصورة التي ذكرنا واضحة، لا تحتاجون إلى أن ينضم بعضكم إلى بعض، ولا أن تزدحموا وقت النظر إليه. أما على رواية التخفيف: (لا تضامُون) يعني: لا ينالكم ضيم في رؤيته؛ لأن الضيم: هو الظلم، فلا يقع الضيم بأن يرى بعضهم دون بعض، فيظلم أو يحرم الذي لا يرى، فالمؤمنون ينظرون إلى ربهم تبارك وتعالى يوم القيامة أو في الجنة جميعهم يستوون في رؤيته، ليس بعضهم يرى دون البعض الآخر، ولا شك أن التشبيه هنا غير تام، بل التشبيه هنا في مطلق الرؤية، وفي شدة وضوح الرؤية، بما يليق بالله تبارك وتعالى، لكن قطعاً هي رؤية حقيقة كما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22]. ورؤية أهل الجنة لربهم تبارك وتعالى هي الغاية العظمى التي شمر إليها المشمرون، وتنافس عليها المتنافسون، وتسابق فيها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون، إذا نالها أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم. أما من حرم وحجب عن الرؤية من أهل النار، فهذا الحرمان أشد عليهم من عذاب الجحيم، قال تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]. عن الحسن رحمه الله تعالى قال: لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم يوم القيامة لماتوا. يعني: حزناً وكمداً. وفي رواية عنه: لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم يوم القيامة لذابت أنفسهم. وعن نافع -وكان من عباد الجزيرة- أنه كان يقول: ليت ربي جعل ثوابي من عملي نظرة مني إليه، ثم يقول لي: يا نافع كن تراباً. ......

 

المحافظة على الصلاة سبب في رؤية الله تبارك وتعالى في الجنة

إن المحافظة على الصلاة بقالبها وروحها والإكثار من النوافل لها من التأثير ما لا يعرف لغيرها من الأعمال في صفاء القلب، وذكاء النفس، وطهارة الوجدان، وسمو الروح. والصلاة تؤهل النفس لتلقي التجليات الأخروية، واستقبال النفحات الإلهية، فالمحافظة على الصلاة بكل أنواعها أحد المؤهلات التي تؤهل لرؤية الله تبارك وتعالى في جنة الرضوان، وقد ربط النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين رؤية الرب تبارك وتعالى وبين الصلاة، وخص بالذكر صلاتين مخصوصتين، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة أي: لا تضيعوا أو تفرطوا أو تفوتكم- قبل طلوع الشمس -وهي صلاة الفجر- وقبل غروبها -وهي صلاة العصر- فافعلوا، ثم قرأ قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]) والحديث في أعلى درجات الصحة متفق عليه. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم؛ فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً) رواه مسلم . وذلك لأن أهل الجنة يجتمعون في يوم الجمعة الذي يسمى في الجنة يوم المزيد، وقد روي في بعض الأحاديث: (أن الله تعالى يتجلى لهم فيه، ويحاضر كلاً منهم محاضرة). ......

 

خاتمة موجزة عن فضائل وخصائص الصلاة وحكم تاركها

تضييع الصلاة أمر خطير جداً، فالصلاة هي أعظم الأركان بعد الشهادتين، وهي من أهم أمور الدين، وهي توءم الفرائض والأركان، وهي أم العبادات، وهي أمر وتكليف من الله سبحانه وتعالى، وقد كانت الوصية الأخيرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يفارق الدنيا، وهي مرآة عمل المسلم وميزان تعظيم الدين في قلب المؤمن، وهي دعامة جميع الشرائع السماوية، لم تخل منها شريعة نبي مرسل، وهي شعار دار الإسلام، وهي إيمان، وبراءة من النفاق، وهي سبيل المؤمنين، وشعار حزب الله المفلحين، وأوليائه المرحومين، وهي خير موضوع، وهي زلفى وقربى إلى الله عز وجل، وهي مدرسة خلقية، وراحة وسعادة وقرة عين، ونور وبرهان وضياء، وشكر نعم الله وتعالى، وتحرير للبشرية، وناهية عن المنكرات، وعاصمة من الشهوات، وكفارة للسيئات، وماحية للخطيئات، وملجأ المؤمن في الكربات، وهي حفظ وحماية، ومجلبة للرزق، ومفتاح هداية لكثير من غير المسلمين حيث اهتدوا بسبب رؤية الصلاة وتأملهم فيها. وترك الصلاة كفر، وترك الصلاة من أكبر الكبائر الموبقة، وترك الصلاة نفاق، وترك الصلاة سواد وظلمة وهلكة في الدنيا والآخرة، وترك الصلاة من أسباب سوء الخاتمة والعياذ بالله، وترك الصلاة من أسباب عذاب القبر، وترك الصلاة شعار أصحاب سقر، وترك الصلاة سبب للغرق في الشهوات وترك الصلاة مصيبة وبلاء. ......

 

الصلاة أول الإسلام وآخره

من فضائل الصلاة أنها أول الإسلام وآخره، فهي أول فروض الإسلام بعد الشهادتين كما سبق بيان ذلك، كما أنها أول ما نسأل عنه من حقوق الله عز وجل يوم القيامة، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضة قال الرب: انظروا هل لعبدي من تطوع، فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك) إن الصلاة أول ما نسأل عنه من حقوق الله عز وجل يوم القيامة، أما أول ما نسأل عنه من حقوق المخلوقين فكما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول ما يقضى فيه بين العباد يوم القيامة الدماء) يعني: القتل وإراقة الدماء. إذاً: لا تعارض بين هذا وذاك؛ لأن الصلاة كما ذكرنا هي أول ما نسأل عنه من حقوق الله عز وجل، والدماء أول ما نحاسب عليه من حقوق البشر، وهو حفظ دمائهم من أن تراق وتسفك هدراً. أيضاً الصلاة آخر ما يفقد من الدين، فعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يرفع من الناس الأمانة، وآخر ما يبقى من دينهم الصلاة، ورب مصل لا خلاق له عند الله تعالى) يعني: لا نصيب له ولا ثواب. وعن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة). إذاً: ليس بعد الصلاة إسلام ولا دين؛ لأن هذا آخر شيء يفقد في الإسلام، فمعناه: إذا ضاعت الصلاة فلا يبقى إسلام ولا دين؛ لأن الصلاة هي أول الإسلام وآخره، وما ذهب أوله وآخره فقد ذهب جميعه، فمن لا تعرف عنهم الصلاة لا يعرف فيهم الإسلام. ......

 

الصلاة من سنن الهدى

إن الصلاة من سنن الهدى خاصة إذا أديت في جماعة، فقد قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه) رواه مسلم . وعنه رضي الله تعالى عنه قال: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً، فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإنهن من سنن الهدى، وإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، ولعمري لو أنكم صليتم في بيوتكم لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يدخل في الصف) المقصود بقوله: (من سنن الهدى) يعني: طريقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي كان عليها، وشريعته التي شرعها لأمته، وليس المقصود من كلمة سنن الهدى السنة التي لا حرج على من تركها، فمن شاء فعلها ومن شاء تركها؛ لأن المستحب أو المندوب أو النوافل من تركها لا يطلق عليه وصف الضلالة، فدل هنا على أن المقصود بسنن الهدى يعني: طريقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ......

 

اشتراك الكائنات في التعبد لله بالصلاة

إن الصلاة هي القاسم المشترك بين عبودية الكائنات، فإن الله سبحانه وتعالى قال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [النور:41] فكل من هؤلاء المذكورين قد علم صلاته وتسبيحه التي علمه الله عز وجل إياها. يقول الزمخشري : ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه، كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها. فكل الكائنات هداها الله سبحانه وتعالى كما قال الله عز وجل: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:2-3]، وقال سبحانه: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] ونحن نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى هدى هذه الكائنات إلى ما يصلحها ويفيدها، وأمدها بأنواع من العلوم التي تنبهر العقول البشرية إزاءها بلا شك، وهذا معروف الآن في العلوم والاكتشافات الحديثة، ففيها ما يبهر العقول ويذهل النفوس من عجائب خلق الله سبحانه وتعالى، كما نرى في النحل و النمل وفي كل ما خلق الله سبحانه وتعالى، نلاحظ كيف أن الله ألهم هذه المخلوقات من العلوم ما تنبهر به العقول، فهل يبعد عند العاقل أن الذي ألهمها كل هذه العلوم لا يلهمها كيف تسبحه وكيف تذكره تبارك وتعالى؟! فالموج يسبح، والطيور تسبح، والأسماك تسبح، وكل ما خلق الله يسبح كما قال الله عز وجل:وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]. نحن الآن نناقش أن الصلاة عبودية جميع الكائنات، بل هي قاسم مشترك بين عبودية جميع الكائنات، فكل الكائنات تصلي وتسبح الله كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41] وكذلك الجن باعتبارهم أحد الثقلين مكلفون قطعاً بالصلاة كالآدميين؛ لأنهم داخلون في قول الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: الجن مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم، فإنهم ليسوا مماثلين للإنس في الحد والحقيقة، فلا يكون ما أمروا به وما نهوا عنه مساوياً ما على الإنس في الحد، لكنهم مشاركون الإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم. يعني: هم يشتركون معنا في جنس التكليف، أما كيفيته فالله أعلم بهذه الكيفية. كذلك أيضاً الملائكة يصلون؛ لأن الله عز وجل قال في حقهم: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38]، وقال أيضاً حاكياً عن الملائكة أنهم قالوا: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [الصافات:165] يعني: في صلاتهم. والشريعة الغراء ندبتنا إلى النظر إلى من هو فوقنا في العبادة وفي الدين، ولا ننظر إلى من هو أعلى منا في الدنيا؛ كي نقتدي به، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (انظروا إلى من هو أسفل منكم في الدنيا، وفوقكم في الدين) وقال عز وجل: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205]، وبعدما أمر الله عز وجل بالذكر الدائم وفي كل الأحوال ذكر ما يقوي دواعي الذكر، وما ينهض الهمم إليه بمدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار ولا يفترون، فقال بعدها مباشرة تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف:206] والمقصود أنه ينبغي لكم الاقتداء بهم فيما ذكر عنهم؛ لأنه إذا كان هذا حال الملائكة في عبادة الله وهم في أعلى مقامات القرب والعصمة، فكيف ينبغي أن يكون غيرهم؟! وقال صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها) ثم ذكر كيفية الاصطفاف فقال: (يتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف) رواه البخاري . أيضاً مما فضلت عليه هذه الأمة المحمدية على من عداها من الأمم قوله عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم :- (جعلت صفوفنا في الصلاة كصفوف الملائكة). وعن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ قال لهم: أتسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء، قال: إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط -وهذا الأطيط من شدة الثقل الذي تحمله- وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم) فهذا يدل على أن الملائكة أيضاً يصلون كما يصلي البشر. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأرى ما لاترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً). وفي حديث الإسراء قال صلى الله عليه وآله وسلم: (فرفع لي البيت المعمور، فسألت جبريل فقال: هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم) رواه البخاري . سبعون ألف ملك يومياً يصلون في البيت المعمور في السماء، ثم لا يعودون إليه أبداً! وقال صلى الله عليه وسلم: (نزل علي جبريل فأمني، فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، يحسب بأصابعه خمس صلوات) رواه البخاري . كذلك الملائكة يشاركون المؤمنين في الصلاة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري . وكذا يحضرون مع المؤمنين صلاة الجمعة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد الملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاءوا يستمعون الذكر) رواه البخاري .

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

 

ربما يهمك أيضاً

رسالة من غريق
1906 ١٢ يناير ٢٠١٧
آداب التخلي -3
2390 ٠٨ ديسمبر ٢٠١٦
آداب التخلي -2
1862 ٠١ ديسمبر ٢٠١٦
البيع بالتقسيط
2842 ١٧ نوفمبر ٢٠١٦
السيرة البازية
1479 ١٠ نوفمبر ٢٠١٦