الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

تكفير الأعيان وأثره في استحلال الدماء

من هنا نشأ تبرير استحلال الدماء، بحجة أن قتال المرتدين أولى من قتال الكفار الأصليين

تكفير الأعيان وأثره في استحلال الدماء
أحمد يحيى الشيخ
الأربعاء ٢٢ يوليو ٢٠١٥ - ١٢:٣٧ م
2044

تكفير الأعيان وأثره في استحلال الدماء

كتبه/ أحمد يحيى الشيخ

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

من أكبر شبهات من يتبنى فكر الصدام والعنف قولهم بتكفير كل من لم يحكم بما أنزل الله، وكل من رضي به ولو لمنع مفسدة أعظم، وكل من أيده أو عاونه أو شاركه في شيء من سياساته التي هي في نظر صاحب هذا الفكر كفرٌ محضٌ.

ومن هنا نشأ تبرير استحلال الدماء، بحجة أن قتال المرتدين أولى من قتال الكفار الأصليين، فلا مانع إذن من قتل من نطق بالإسلام ثم نطق بالديمقراطية ولو قيدها بما لا يخالف الشرع، ولا مانع من استحلال الأموال العامة من منشآت ومؤسسات وإلحاق الضرر بالمسلمين في ضروراتهم من كهرباء ومستشفيات ومدارس؛ بحجة أنهم رضوا بحكم نظام كافر لا يقيم الشريعة ولا يحكم بما أنزل الله.

وبغض النظر عن الكلام في مسألة الحكم بما أنزل الله نفسها، ومتى يكون كفرًا أكبر ومتى يكون كفرًا أصغر، وهل ينص الدستور على جواز مخالفة حكم الله أم لا -فإنا نعتقد إجمالاً أن التشريع العام الذي يخالف تشريع الله تعالى هو كفر أكبر- ولكن هل معنى ذلك أن كل من وقع فيه صار كافرًا مهما كان حاله؟ وإذا كان الذي يحكم بغير ما أنزل الله كافرًا، فهل يلزم من ذلك تكفير من يعملون في الهيئات الكبرى مثل الجيش والشرطة والوزارات والمحافظات؟ وقد سمعنا من يكفر كل من يلبس لُبسة الجيش؛ لأنه بذلك قد أعلن انتماءه لهذا الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله، ثم تجد من يستحل دمه، لأنه يلبس هذا الملبس بغض النظر عن فكره واعتقاده. وهل يلزم من ذلك تكفير العلماء الذين سكتوا عنهم أو تأولوا لهم أفعالهم، والذين يسميهم البعض علماء السلطان؟ وهل يلزم من ذلك تكفير من انتخبوا هذا الحاكم ورضوا به حاكمًا؟

فإذا كان كل هؤلاء كفارًا فانظر كيف أدى الكلام في تكفير الحكام إلى تكفير أكثر الشعب، وانظر كمَّ الفساد العريض الذي حدث من جراء إطلاق القول بتكفير الحكام؟

والجواب عن هذه الشبهة بما يلي:

1- الكفر والتكفير حكم شرعي، والحكم بهما حق الله تعالى وحده، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يَزُل بالشك، والإسلام الصريح لا يُنقَض إلا بالكفر الصريح، والخطأ في نفي التكفير أو التفسيق أو التبديع أهون من الخطإ في إثباتها.

2- الواجب التفريق بين إطلاق الأحكام الوعيدية نوعًا وبين تطبيق ذلك على المعيَّن، فنطلق ما أطلقه الشرع من أحكام الوعيد من كفر أو فسق أو ظلم أو نفاق أو لعن، وأما المعيَّن فلابد في حقه من استيفاء الشروط وانتفاء الموانع وإقامة الحجة وإزالة الشبهة، وهذا في كل مسائل الدين الأصلية والفرعية، ما لم يكن معلومًا من الدين بالضرورة. فكل وعيد ورد على ارتكابِ منهِيٍّ بإطلاق لا يستلزم بالضرورة الحكم به على فاعلِه أو مرتكبِه على التعيين، وسواءٌ أكان المنهي عنه قولًا أم فعلًا أم اعتقادًا. فالحكم المطلق لا يستلزم الحكم على المعين، فلا تجري الأحكام على الأعيان إلا بعد قيام الحجة بتحقق الشروط وانتفاء الموانع.

3- العذر جارٍ في أصول الدين وفروعه، ومواطن الإجماع والخلاف على حدٍّ سواء، والجهل والتأويل عارضان من عوارض الأهلية بالإجماع، في كل ما يتصور فيه الجهل والتأويل؛ فالمسلم الذي عُلم اختياره لدين محمد بن عبد الله ? ومحبته له وتوقيره لله ورسوله ? ودينه، ثم وقع في صورة من صور الشرك الأكبر جاهلًا؛ لا يُحكم عليه بالكفر إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة، ويعذر بالجهل، ويقبل منه الاعتذار به، ما دام الجهل بذلك يمكن تصوره في المجتمع الذي يعيش فيه أمثاله، دون التفريق بين أصل الدين وفروعه.

فعلى ذلك؛ لا يلزم من إطلاق القول بالتكفير بفعلٍ ما أن يُكَفَّرَ كلُّ من فعل ذلك، بل لابد من إقامة الحجة الرسالية على يد عالم بالحجة؛ لكي ينظر في أهلية الشخص ومدى انطباق وصف الكفر عليه.

4- إذا أقيمت الحجة وتبين فعلًا كفر الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله -عينًا-، فلا يلزم من ذلك كفر غيره -عينًا- ممن لم تُقم عليه الحجة بعد، فضلًا عمن يعمل في الأنظمة التابعة له، ولا من رضي به حاكمًا ما دام جاهلًا أو متأولًا؛ فالتكفير بما يؤول إليه المقال ليس بكفر في الحال، ولا يصح تكفير أو تبديع بلازم القول أو المذهب، إلا أن يُلتزم.

5- لأن كثيرًا ممن عنده نزعة التكفير يستدل بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ويورده في غير سياقه، فنذكر بعضًا من كلامه في ذلك؛

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول قد يكون كفرًا فيطلق القول بتكفير صاحبه ويقال من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها. اهـ

وقال رحمه الله: وإذا عُرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم، بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار، لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر. وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين، مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة. ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة. اهـ

وقال رحمه الله: هذا مع أني دائمًا ومن جالسني يعلم ذلك مني: أني من أعظم الناس نهيًا عن أن يُنسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافرًا تارة وفاسقًا أخرى وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية. اهـ

وقال رحمه الله: وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها. اهـ

وقال رحمه الله: وقد ثبت في الصحاح عن النبي ? حديث الذي قال لأهله: (إذا أنا مت، فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله على ليعذبني الله عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين. فأمر الله البر برد ما أخذ منه، والبحر برد ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر الله له). فهذا شك في قدرة الله وفي المعاد، بل ظن أنه لا يعود، وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، وغفر الله له. اهـ

وقال رحمه الله: ونحن نعلم بالضرورة أن رسول الله ? لم يَشْرَعْ لأمته أن يدعو أحدًا من الأحياء ولا الأموات، ولا الأنبياء ولا الصالحين

ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يَشْرَعْ لأمته السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله، وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله ?، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يُبين لهم ما جاء به الرسول ?. اهـ

6- ليس من الصواب انشغال طلبة العلم بمسألة الحكم على المعينين من الرؤساء أو الحكام، وتصورهم أن كل شيء في الدعوة يتوقف على الحكم على أشخاص هؤلاء، وهو تصور غير صحيح؛ لأن شرعيةَ القيام بالدعوة إلى الله وتعليم المسلمين دينَهم وتربيتَهم على أحكامه والسعي في إقامتها وتطبيقها لا تُستمد من كون الحاكم مسلمًا أو غير مسلم، وإنما من الكتاب والسنة، وما فيهما من الأمر بالدعوة إلى الله تعالى وإلى دينه الحنيف وشريعته الغراء والأمر بالنهي عن الفساد في الأرض والأمر بالإصلاح. أما الحكام فيذهبون ويجيئون، ويموتون ويخلُفهم غيرهم؛

فما الفائدة العملية للدعوة من تكفير حاكمٍ اليوم يموت غدًا، ورفع السلاح في وجوه المسلمين لأنهم رضوا به؟

ولكن لينظر الداعي إلى الواقع من حوله وما فيه من انحرافات أو فساد أو جهل؛ فوجود ذلك هو الذي يُكسبه شرعيتَه في الدعوة والإصلاح والتغيير بأمر الله تعالى وحكمه.

والحمد لله رب العالمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

ربما يهمك أيضاً