الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي

قال محمد بن سيرين -رحمه الله-: "كانوا يقولون: إذا كان الرجل على الأثر؛ فهو على الطريق"

إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي
عصام حسنين
السبت ١٢ مارس ٢٠١٦ - ١٦:٥٥ م
1189

إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي

كتبه/ عصام حسنين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن مِن محاسن ديننا الحنيف والتي تدل على أنه الدين الحق أنه يدعو إلى البينة، وألا يُقبل قول أو اعتقاد أو عمل إلا ببينةٍ؛ أي دليل وحجة وبرهان.

ويدعو إلى إعمال العقل في فهم هذه البينات والانتفاع بها، قال الله -تعالى- لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (هود:17).

- قال العلامة السعدي -رحمه الله- في تفسيره: "يذكر -تعالى- حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومَن قام مقامه مِن ورثته القائمين بدينه وحججه الموقنين بذلك، وإنهم لا يوصف بهم غيرهم، ولا يكون أحدٌ مثلهم، فقال: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) بالوحي الذي أنزل الله فيه المسائل المهمة ودلائلها الظاهرة فتيقن تلك البينة (وَيَتْلُوهُ) أي يتلو، أي: يتبع هذه البينة والبرهان برهان آخر. (شَاهِدٌ مِنْهُ) وهو شاهد الفطرة المستقيمة، والعقل الصحيح حيث شهد حقيقة ما أوحاه الله وشرعه، وعلم بعقله حسنه؛ فازداد بذلك إيمانًا إلى إيمانه. وثم شاهد ثالث وهو (كِتَابُ مُوسَى) التوراة التي جعلها الله إمامًا للناس (وَرَحْمَةً) لهم، يشهد لهذا القرآن بالصدق ويوافقه، ويوافقه فيما جاء به مِن الحق.

أي: أفمن كان بهذا الوصف قد تواردت عليه شواهد الإيمان، وقامت لديه أدلة اليقين، كمن هو في الظلمات والجهالات ليس بخارج منها؟! لا يستوون عند الله، ولا عند عباد الله!  

(أُولَئِكَ) أي الذين وفقوا لقيام الأدلة عندهم (يُؤْمِنُونَ) بالقرآن حقيقة فيثمر لهم إيمانهم كل خير في الدنيا والآخرة. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) أي القرآن (مِنَ الأَحْزَابِ) أي سائر طوائف أهل الأرض المتحزبة على رد الحق (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) لا بد مِن وروده إليها. (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي في أدنى شك. (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) إما جهلاً منهم وضلالاً، وإما كفرًا وعنادًا وبغيًا، وإلا فمن كان قصده حسنًا، وفهمه مستقيمًا؛ فلا بد أن يؤمن به؛ لأنّه يرى ما يدعوه إلى الإيمان مِن كل وجه" (اهـ مِن تفسير السعدي).

- وقال الله -تعالى- أيضًا لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) (الأنعام:57).

- قال ابن كثير -رحمه الله-: "(قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي: على بصيرة مِن شريعة الله التي أوحاها الله إليَّ. (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أي: بالحق الذي جاءني مِن الله..." (تفسير ابن كثير).

- وقص الله -تعالى- علينا مِن قصص المرسلين أنهم كانوا يذكرون لأقوامهم يقينهم بالله وبالطريق الذي دلهم عليه لعلهم يعقلون، فقال -تعالى- عن نوح -عليه السلام-: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) (هود:28). "أي: على يقين وجزم, وهو الرسول الكامل القدوة الذي ينقاد له أولو الألباب, ويضمحل في جنب عقله عقولُ الفحول مِن الرجال, وهو الصادق حقـًّا، فإذا قال: إني على بينة من ربي؛ فحسبك بهذا القول شهادة له وتصديقًا" (اهـ مِن تفسير السعدي).

- وكذا قال -سبحانه وتعالى- عن صالح -عليه السلام- وهو يعظ قومه ثمود: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) (هود:63).

- وقال الله -تعالى- عن شعيب -عليه السلام- وهو يعظ قومه أهل مدين: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود:88).

- وفي غير ما آية في كتابه -تعالى- يطلب الله مِن المشركين دليلاً على اعتقادهم وأعمالهم فيقول: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:111).

فالسعيد مَن كان على بينة مِن ربه في أمره كله, وقد بيَّن الله- تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لنا البينات الواجبة الاتباع، وهي كتابه -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- والإجماع؛ قال الله -تعالى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31)، وقال -تعالى-: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (المائدة: 92)، وقال -تعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر:7).

ودليل الإجماع قوله -تعالى-: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء:115)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَجَارَ أُمَّتِي أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلالَةٍ) (رواه ابن ماجه وابن أبي عاصم، وحسنه الألباني).

وما مِن إجماع إلا وعليه دليل مِن الكتاب والسُّنة كما بَيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في نقد مراتب الإجماع، ومِن البينات أيضًا القياس الجلي إذا تحققت شروطه عند جمهور أهل العلم، ودليله قوله -تعالى-: (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) (الشورى:17)، والميزان هو ما توزن به الأمور ويقايس بينها، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لمن سألته الصيام عن أمها بعد موتها: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: (أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ، أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكِ عَنْهَا؟) قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: (فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ) (رواه مسلم).

فهنا قاس -صلى الله عليه وسلم- دين الله على دين الآدمي، وفي كتاب عمر لأبي موسى -رضي الله عنهما- في القضاء "ثم الفهم الفهم فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة, ثم قايس الأمور عندك, واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها إلى الحق" (انظر شرح الأصول لابن عثيمين).

هذه الأصول الثلاثة هي البينات وهي الميزان الذي يُوزن به جميع أقوال وأعمال الناس الدينية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "... وهم يَزِنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس مِن أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين "أي بالكتاب والسُّنة والإجماع"، والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح "أي الصحابة -رضي الله عنهم-", إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة" (اهـ مِن العقيدة الواسطية).

وكل ذلك بفهم سلف الأمة -رضوان الله عليهم- كما قال الله تعالى-: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:137). أي: الصحابة.

وقال عن قول المنافقين: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) (البقرة:13).

والمقصود بالناس هنا: الصحابة بالاتفاق؛ فتولى الله الرد عليهم فقال -سبحانه وتعالى-: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (البقرة:13).

قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في بيان طريقة أهل السُّنة والجماعة العملية: "ثم مِن طريقة أهل السنة والجماعة‏:‏ اتباع آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باطنًا وظاهرًا، واتباع سبيل السابقين الأولين مِن المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث قال: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويؤثرون كلام الله على كلام غيره مِن كلام أصناف الناس، ويقدِّمون هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- على هدي كل أحد، وبهذا سموا‏:‏ أهل الكتاب والسُّنة‏،‏ وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسمًا لنفس القوم المجتمعين... " (اهـ مِن العقيدة الواسطية).

قال محمد بن سيرين -رحمه الله-: "كانوا يقولون: إذا كان الرجل على الأثر؛ فهو على الطريق" (الشريعة للآجري).

والله -تعالى- أعلم، وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً