الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

بدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب -2

مع أنهم يهتمون بقشور الأعداء، وموضة المجرمين في الملبس والمأكل والهيئة

بدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب -2
محمد إسماعيل المقدم
الجمعة ١٦ سبتمبر ٢٠١٦ - ٠٤:٢٠ ص
3501

بدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب [2]

محمد إسماعيل المقدم

لقد ظهر من أعداء الله عز وجل كثير من أنواع المحاربة، وإبعاد الناس عن الدين، وللأسف أنه قد تبعهم أناس من بني جلدتنا على ذلك، فصاروا يهرفون بما لا يعرفون، وقد ظهرت وسيلة جديدة من وسائل إخراج الناس عن الدين بالتدرج، ألا وهي: وسيلة القشور واللباب التي ليس لها حد ولا نهاية، فكل ما لا يعجبهم من السنن والواجبات جعلوها قشوراً لا قيمة لها، مع أنهم يهتمون بقشور الأعداء، وموضة المجرمين في الملبس والمأكل والهيئة.

 

فضيلة التواضع في الكتاب والسنة وأقوال السلف

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيباً -فذكر الحديث إلى أن قال-: إن الله عز وجل أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد) رواه مسلم في صحيحه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال، ولا عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله عز وجل بها عزاً، ولا تواضع عبد لله إلا رفعه الله)، فهذا أيضاً فيه فضيلة التواضع لله عز وجل، فإن التواضع يرفع صاحبه، ولا يظن الرجل أنه إذا تواضع فإن ذلك ينزل مكانته، ولكنه إذا تواضع لله سبحانه وتعالى رفعه الله. والله عز وجل امتدح نبيه في أشرف المقامات بصفة العبودية والتذلل والخضوع والتواضع لله عز وجل، فقال سبحانه وتعالى في مقام الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، وقال في مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19]، وقال في مقام التحدي: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23] فامتدحه الله سبحانه وتعالى بوصف العبودية والتذلل والخضوع لله عز وجل، والتواضع له في أشرف المقامات، فدل على أن الشرف والعلو والرفعة والعزة إنما يكون في التواضع لله تبارك وتعالى. وإن كان هذا الرجل يقول في محبوبته: فلا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي فكيف لا يفخر المؤمن بأنه عبد ذليل متواضع لله تبارك وتعالى؟! الشاهد قوله عليه الصلاة والسلام: (وما تواضع عبد لله إلا رفعه الله). وقد ذكر الإمام البيهقي رحمه الله تعالى في كتابه: (شعب الإيمان) جملة من النصوص عن السلف الصالح رضي الله عنهم في قصص التواضع، فقد روى بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: يغفلون عن أفضل العبادة وهي التواضع. أي: أن الناس في غفلة عن أعظم أنواع العبودية، ألا وهو التواضع لله تبارك وتعالى. وعن عطاء بن السائب أن أبا البختري وأصحابه كانوا إذا أثني على أحد منهم ووجد عجباً في قلبه وتأثر بهذا الثناء حنا ظهره وقال: خشعت لله، خشعت لله. وعن أبي سعيد الخدري و أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني منهما شيئاً عذبته) فالكبرياء والعزة لا ينبغي أن تكون إلا لله تبارك وتعالى، وهذه هي الصفات التي لا يليق بالعبد أن يتصف بها؛ لأنها من صفات الله التي لا يجوز منازعته تبارك وتعالى فيها. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا رجل يتبختر يمشي في بردة قد أعجبته نفسه إذ خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)، فعجل الله له العقوبة وخسف به الأرض، فهو منذ أن فعل الله به ذلك ما زال يتجلجل إلى هذه اللحظة التي نحن فيها الآن، وفي حديث آخر: (بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل شعره إذ خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)، وعن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتلّ جواظ مستكبر) فمدح أهل الجنة بالتواضع، وجعل من صفات أهل النار الاستكبار والفظاظة. كذلك عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المتكبرون يحشرون يوم القيامة أشباه الذر في صور الناس يعلوهم كل صغار، ثم يؤمر بهم إلى قصر في جهنم يقال له: بولس فيسحبون فيه، ويسقون من طينة الخبال من عصارة أهل النار)، فكما أنه كان يتكبر في الدنيا يعاقب في الآخرة بنقيض قصده، هو تكبر ليظهر العزة والرفعة، فعاقبه الله تبارك وتعالى بأن يحشر حقيراً ذليلاً في صورة البشر أمثال الذر والهباء الذي يكون في الجو، كما جاء في رواية أخرى: (يأتي المتكبرون يوم القيامة مثل الذر في صور الرجال يغشاهم أو يأتيهم الذل من كل مكان، يسلكون في نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار). ......

 

بعض الآثار الواردة في التواضع

 

من علامات التواضع: ما ورد في بعض الآثار: (ما استكبر من أكل معه خادمه، وركب الحمار في الأسواق، واعتقل الشاة فاحتلبها) يعني: يلي شئون نفسه بنفسه فهذا لا يمقته. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يخرج إلى السوق فيشتري، وكان سالم رحمه الله دهره يشتري في الأسواق، وكان من أفضل أهل زمانه. وهذه المسألة أشار إليها بعض العلماء وهي أن العالم المقتدى به أو الذي له فضل ظاهر في الناس فلا يشتري حاجته بنفسه؛ لأنه إذا كان مشهوراً بين الناس بالفضل والعلم جاملوه في البيع والشراء لأجل دينه، فكان علماء السلف يحتمون أو يخافون أن يكون ذلك من الأكل بالدين، فكانوا يتحرجون من ذلك. وقد سئل الإمام مالك : أتكره الرجل الفاضل أن يخرج إلى السوق فيشتري حوائجه فيحابيه الناس بفضله؟ فقال: لا، ولا بأس بذلك؟ قد كان سالم يفعل ذلك، وقرأ مالك : يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:7] فلأي شيء يمشون في الأسواق؟ وذكر مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي في الأسواق. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: وإنما كره ذلك للقاضي أن يتولى بنفسه خوف المحاباة، وربما أن يميل لأجلها عن الحق، إذا رفع إليه من حاباه مكرمة، يخشى أنه إذا جامله شخص ثم كان هذا الشخص في يوم من الأيام خصماً في قضية فتتأثر نفسه بتلك المجاملة فيحابيه في الحق، فلأجل ذلك كرهوا للقاضي أن يلي شراء حاجاته بنفسه. وعن ابن الزبير قال: في قوله تبارك وتعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] قال: سبيل الغائط والبول، وترون ما أنتم حتى لا تتكبروا ولا تغتروا بصوركم. يعني: هذا من صور التدبر في هذه الآية العظيمة، وإلا فإن وجوه التدبر فيها عظيمة جداً، خاصة في هذا الزمان الذي كشف فيه العلم الحديث آيات الله سبحانه وتعالى وبراهين توحيده في خلق الإنسان. وقال ابن الزبير : ما ينبغي لمن خرج من مخرج البول مرتين أن يفخر. وعن محمد بن أبي الورد قال: دون الفهم أغطية على القلوب، قد حجبت الفهم الذنوب والتكبر عن المؤمنين. أي: أن الإنسان ليفتح عليه في فهم آيات الله وتدبر آيات الله تبارك وتعالى، ومما يحول دون الفهم والبصيرة بآيات الله عز وجل أغطية تحول دون القلب ودون هذا الفهم، وهي الذنوب والتكبر على المؤمنين. وتلا قوله تبارك وتعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146] فجعل عقوبة الكبر صرف قلوبهم عن تدبر آيات الله تبارك وتعالى. وقال إبراهيم بن أدهم : لا ينبغي للرجل أن يضع نفسه دون قدره، ولا يرفع نفسه فوق قدره. وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: من التواضع أن تقنع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك فضل عليه لدنياك. يعني: تضع نفسك عند الشخص الذي هو أقل منك في الدنيا وتتواضع عنده؛ حتى لا يحسبك متفضلاً عليه، وتشعر في نفسك أنك أفضل منه بسبب ما أوتيت من الدنيا، فعند الفقير تواضع له، يقول: وأن ترفع نفسك عند من هو فوقك في دنياه حتى تعلمه أنه ليس لدنياه فضل عليك. وعن إبراهيم بن عبد الله بن مسعود قال: من خضع لغني ووضع له نفسه إعظاماً له وطمعاً فيما قبله ذهب ثلثا مروءته، وشطر دينه. أي: أن نصف دينك وثلثي مروءتك يذهبان؛ لأنك تعظم الغني لأجل غناه، حتى إن العلماء الذين أباحوا القيام للقادم قالوا: إذا كان كبير السن كالأبوين مثلاً، أو إذا كان عالماً تقوم له إعظاماً لدينه، وهذه وجهة نظر عند الذين يبيحون ذلك، بغض النظر عن التحقيق في المسألة، وقالوا: لكن لا تقم لغني لأجل غناه؛ لأن هذه دنيا لا ينبغي تعظيمها، وإنما تعظم الشخص لأجل الدين. بل سئل ابن المبارك عن التواضع فقال: التكبر على الأغنياء. وهذا ليس على ظاهره، لكن لا يحمله غنى غيره وفقر نفسه على أن يتذلل ويخضع له بمجرد ذلك. وسئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له، ويقبل الحق من كل من يسمعه منه. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله! فيقول: عليك نفسك أنت تأمرني. وما شابه ذلك من العبارات التي تقال في هذا الزمان، كقول الرجل: أنا أتقي الله أحسن منك! وغير ذلك من العبارات الفظة التي يتفوه بها بعض الناس، في حين ينبغي للمؤمن أن يتبرأ من حال من إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ. وعن يونس بن عبيد قال: كنت أذاكر يوماً مع الحسن التواضع قال: فالتفت إلينا الشيخ فقال: أتدرون ما التواضع؟! أن تخرج من بيتك حين تخرج فلا تلقى مسلماً إلا رأيت أن له عليك الفضل. هذا هو التواضع ألا تنظر للمسلمين بعين الازدراء والاحتقار، لكن لا تقع عينك إذا خرجت من بيتك على مسلم إلا وتحسب في نفسك أنه أفضل منك وخير منك. وذكر عند الحسن الزهد فقال بعضهم: اللباس، يعني: الزهد يكون في الملابس، وقال بعضهم: المطعم، وقال بعضهم: كذا، فقال الحسن: لستم في شيء، الزاهد الذي إذا رأى أحداً من المسلمين قال: هذا أفضل مني، وهذا الكلام ليس متكلفاً في الحقيقة؛ لأنك قطعاً لا تعرف عن هذا الشخص من البلوغ مثل ما تعرفه من نفسك، أنت على يقين من حال نفسك، وتعرف ما اجتنيت من الذنوب والمعاصي والمآثم، ولا تعرف عن غيرك ما تعرفه من نفسك، فينبغي أن تنظر إلى كل مسلم أن هذا عند الله أفضل منك، فهذه هي حقيقة التواضع.

 

نماذج من تواضع السلف وفضل التواضع

 

لقد حفلت سيرة السلف بكثير من النماذج في التواضع فهذا أيوب السختياني رحمه الله تعالى يقول: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل. يعني: مالي ولهم. وهذا الإمام الشافعي يقول: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة وهذا مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف، يعني: أف لي أنا لا أستحق أن أدرج فيهم. وقال بشر غير مرة: ما أعرف أحداً أقدر أن أقول: إني أحسن عاقبة منه. يعني: نضيف هذه إلى سابقتها، بحيث إنك لا تنظر إلى أحد من المسلمين إلا وحسبت أنه خير منك؛ لأن المعاصي التي ارتكبتها تعرفها أنت جيداً، فإذا نظرت لأحد من المسلمين لا تنظر له بعين الحقارة فربما يكون أفضل عند الله منك. أيضاً خواتيم الأعمال المغيبة لا تدري كيف تكون العاقبة، فيجب أن تخاف أيضاً على عاقبة نفسك، (فإنما الأعمال بالخواتيم)، وقول بشر: ما أعرف أحداً أقدر أن أقول: إني أحسن عاقبة منه. فحتى الكافر لا تستطيع أن تقطع وتقول: أنا أحسن عاقبة منه ما لم تقيدها فتقول: إذا أنا مت على الإسلام ومات هو على الكفر؛ لأنه ربما يقلب القلب ويصرف والعياذ بالله عن الإسلام بالردة، وربما يمتن الله سبحانه وتعالى ويتفضل على هذا الكافر فيسلم، فتحسن عاقبته. إذاً: الخواتيم لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى. وعن مالك بن أنس قال: قال عمر بن عبد العزيز لرجل: من سيد قومك؟ قال: أنا، قال: لو كنت كذلك لم تكنه، فإن السيد لا ينظر إلى قوم على أنه سيدهم وكبيرهم وعظيمهم. على أي الأحوال هذه جملة من الفوائد من شعب الإيمان للإمام البيهقي رحمه الله تعالى في فضيلة التواضع.

 

وقفات حول بدعة تقسيم الدين إلى قشور ولباب

 

هذه القضية في الحقيقة لها نوع تعلق بالقضية التي نتناولها، كنا من قبل قد شرعنا في مناقشة قضية الهدي الظاهر وبدعة تقسيم الدين إلى قشر وإلى لب كما يفعل بعض المعاصرين، وقطعنا شوطاً في هذه القضية، لكن نلخص في مرور عابر ما تكلمنا عليه من قبل. ......

 

الوسطية في السنن والمباحات

 

فكما ذكرنا يتأنق في مظهره وملابسه ويغلو في ذلك إلى حد الرعونة، نعم، صح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس) قوله: (وغمط الناس) يعني: عدم إنزالهم منازلهم بحيث يرى في نفسه أنه أعظم من هذا فيتكبر عليه، ويحاول أن يضع من قدره، ويعامله بأقل مما يستحق من المعاملة. فحد الكبر هو بطر الحق وغمط الناس، يقول الله عز وجل: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [الأعراف:85]. ونعم صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان له شعر فليكرمه)، وصح عنه أنه قال: (من كان له مال فلير عليه أثره)، (ولما رأى رجلاً شعثاً قد تفرق شعره، قال: أما كان هذا يجد ما يسكن به شعره) (ورأى رجلاً عليه ثياب وسخة فقال: أما كان هذا يجد ماء يغسل به ثوبه)، لكن ليس الأمر بحيث يكون شغل الإنسان الشاغل هو دهن الشعر والرأس وتسريحه عاكفاً أمام المرآة، حتى يكون هذا المظهر شغله الشاغل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما صح عنه وما مضى صح عنه أيضاً: (أنه كان ينهى عن الإرفاه) والإرفاه: هو كثرة التدهن والتنعم . وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أيضاً في الحديث الآخر: (أنه نهى عن الترجل إلا غباً)، يعني: يوم ويوم لا، بحيث لا يواظب عليه كل فترة حتى يكون شغله الشاغل. وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان: ترف ومخيلة. وبين عليه الصلاة والسلام أن من علامات الحياء من الله والرغبة في الآخرة الإعراض عن زينة الدنيا، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله تعالى حق الحياء، من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموتى والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء). وندبنا أيضاً إلى التواضع في المظهر، ووعدنا عليه الأجر والكرامة، فعن معاذ بن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها)، يعني: أن الإنسان لو كان عنده ملابس نفسية وجميلة جداً وغالية جداً وامتنع عن لبسها أحياناً أو دائماً بنية استحضار هذا الحديث وهذا الثواب تواضعاً لله عز وجل، فإن الله يكافئه بأن يدعوه يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها.

 

أوجه التناقض عند أهل القشور واللباب

 

 

نحن في الحقيقة نحتاج قبل الاستطراد أن نقلب القضية ونعكس القضية على هؤلاء المفترين الكذابين، الذين يدعون إلى تقسيم الدين إلى قشر ولباب، وبالذات الملاحدة الزنادقة، أما أهل الدين فالأمر معهم أسهل وأوضح، لكن هؤلاء الذين يقسمون هذا القسمة بهدف تحطيم الدين كله، بحيث يجعلون الصلاة قشوراً وصيام رمضان قشوراً، حتى إن بعض النساء المتحررات من عبودية الله قالت: إن موضوع العقد والشهود والزواج هذه سخافات؛ لأن هذه المظاهر الجوفاء هي التي تقتل الإنسانية وتهدر كرامة المرأة، إلى آخر ما لهجت به هذه الخبيثة. إذاً: فهذه القسمة الخبيثة كما ذكرنا ينبع خطرها من أنها لا يوجد لها حد محدود، ولا يوجد تعريف معين للقشور، الموضوع عائم، وكل واحد يمكن أن يعتبر أي شيء قشراً والآخر يعتبره لباً، فبالتالي يتحطم الدين كله وينهار. فنقول: إن الدين كله لب لا قشور فيه، كله معالي لا سفاسف فيه، صحيح فيه أصول وفروع، فيه أهم ومهم، لكن ما دامت داخلة في إطار الدين فلا يجوز أبداً أن تسمى سفاسف أو قشوراً أو سخافات.. إلى غير ذلك. فالقشور ليست سنة النبي عليه الصلاة والسلام وهديه، إنما القشور ما أحدثه الناس من القيم والأعراف والموازين الشكلية الكاذبة التي صارت تتحكم فيهم وتستعبدهم، وصاروا ينقادون لها كأنها شرع منزل، وإن جهد الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى ينبغي أن يوجه ليصطاد هذه القشور وهذه الشكليات وهذه العادات الجوفاء. ومظاهرها كثيرة في مجتمعنا، فهذه هي التي ينبغي أن نسميها قشوراً وأن نركلها. فمنها مثلاً: ظاهرة التطوس، الطاوس معروف بخيلائه وكبره الشديد، فهو مجبول على الكبر والخيلاء، دائماً الطاوس يحب أن ينتفش ويظهر بمظهره، وبعض الطيور الأخرى أظنه الديك الرومي دائماً يحب أن يكون على مكان عالٍ مرتفع؛ لما جعل عليه أيضاً من الكبر، فنسميها ظاهرة التطوس والتشبه بالطاوس في الكبر. فترى بعض الناس ومنهم هؤلاء الذين يقولون بالقشور واللباب وهم من داخل الصف الإسلامي تراه يتأنق ويتزين في مظهره، ويفعل في نفسه أكثر مما تفعله الماشطة بعروسها، (الاستشوار) والزيوت و(الشانبوه) والبلسم والمرآة، وكل هذه الأشياء يتأنق في مظهره، وينسى آلام وجراح ومذابح المسلمين. لماذا لا تتذكر مذابح المسلمين إلا عندما تذكر بسنة النبي عليه الصلاة والسلام؟ لماذا لا تتذكرها عندما تكون أمام المرآة وتكوي ملابسك وتشتري الفاكهة وتعمل الرحلات وتتنزه وتتنعم هذا النعيم؟! لماذا تسير حياتك كلها بطريقة رتيبة، بحيث يخرج في الصباح للعمل أو للدراسة ويقضي كل مآربه في الحياة، ولا يتذكر أن المسلمين في حالة نفير عام وأن النساء تذبح، لكن إذا عرض عليه بأن يحضر درس علم قال: المسلمون يقتلون ويذبحون وأنتم تتكلمون في الفقه، نقول لهذا: لماذا لا تتذكر مذابح المسلمين وآلام المسلمين إلا عند شرع الله وعند سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!

 

 

التحذير من تهوين المعاصي والاستهزاء بالسنن والواجبات

 

لقد حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تهوين المعاصي واحتقارها، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد يئس الشيطان أن يعبد بأرضكم، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروا أيها الناس! إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي . وقال أنس رضي الله عنه: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات) رواه البخاري . وجاء تفسير الموبقات المهلكات في حديث سهل بن سعد مرفوعاً، يقول عليه الصلاة والسلام فيه: (إياكم ومحقرات الذنوب! فإن مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود)، وجاء في بعض الروايات: (فحضر صنيع القوم) صنيع: فعيل بمعنى المفعول، يعني: كيف ينضجون الطعام، هذا يأتي بعود وهذا يأتي ببعرة وهذا يأتي بكذا، فيقول: (فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها أهلكته). أخرجه الإمام أحمد بسند حسن كما قال الحافظ. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً) صححه ابن حبان . وعن عبادة بن قرط رضي الله عنه قال: إنكم لتأتون أشياء هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات، فذكروا قول عبادة بن قرط لـمحمد بن سيرين فصدقه، قال: صدق. وقال ابن سيرين : أرى جر الإزار منه، يعني: من الموبقات؛ لما جاء فيه من الوعيد الشديد، والناس يعدونه من الصغائر لفرط جهلهم وذنوبهم. فهذا أنموذج من نماذج القضايا التي دائماً يضرب بها المثل إذا أرادوا الاستهزاء بمن يستمسك بالهدي الظاهر، ليس عندهم شيء يتذكرونه غير السواك، والثوب القصير، واللحية، وحمل كتب العلم الشرعي، فأصبحت هذه طرفاً ونكتاً وشيئاً يضحكون بها الناس، حتى إن بعض المستهترين قاموا بتمثيل مسرحية يسمونها إسلامية في إحدى الكليات منذ سنوات، وأتوا بشخص يظهر بصورة تسيء للشخص الملتزم، ومع الأسف هم ممن ينتمون إلى العمل الإسلامي، فأتوا بواحد ولبسوه قميصاً قصيراً ومعه السواك والكتاب واللحية والعمامة .. إلى آخره، وأتوا به بصورة شبيهة تماماً بما يفعله الجماعة في الأفلام والمسرحيات في السخرية من المشايخ وأهل الدين، حضر هذا الملتزم بالسواك فأتى وقال: (عنتر شايل سيفه) يعني: يسخر من السواك. فهذا يحصل من الناس الذين ينتسبون إلى الدين وإلى الدعوة الإسلامية؛ لعدم تنبيههم إلى خطورة هذا الأمر، وهذا التنقص والاستهزاء من سنة النبي عليه الصلاة والسلام يخشى على فاعله الكفر والردة والعياذ بالله؛ لأن الاستهزاء والسخرية لا عذر فيه بالجهل؛ لأنه لا يوجد مسلم يجهل تعظيم رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا تعظيم سنته، فمن فعل ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية يخشى عليه الردة والعياذ بالله! وقد جاء عن الشريد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تبع رجلاً من ثقيف حتى هرول في أثره، حتى أخذ بثوبه فقال: ارفع إزارك قال: فكشف الرجل عن ركبتيه، فقال: يا رسول الله إني أحنف وتصطك ركبتاي) يعني: فيه نوع من الحنف أو الميل في ساقيه، كما يكون عند الأطفال المصابين بالكساح أو لين العظام، فهو يستحي أن يراه الناس على هذا المظهر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل خلق الله عز وجل حسن، قال: ولم ير ذلك الرجل إلا وإزاره إلى أنصاف ساقيه حتى مات). وعن عمرو بن فلان الأنصاري رضي الله عنه قال: (بينما هو يمشي قد أسبل إزاره إذ لحق به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذ بناصية نفسه وهو يقول: اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك فقال: عمرو فقلت: يا رسول الله! إني رجل حمش الساقين -يعني: دقيق الساقين- فقال: يا عمرو ! إن الله عز وجل قد أحسن كل شيء خلقه، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع من كفه اليمنى تحت ركبة عمرو فقال: يا عمرو ! هذا موضع الإزار، ثم رفعها، ثم وضعها تحت الثانية، فقال يا عمرو : هذا موضع الإزار) يعني: إما أربع أصابع أو ثمانية. كذلك من أعجب المواقف في ذلك: موقف أمير المؤمنين عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهذا الموقف حصل معه في سياق مصيبة هي من أعظم المصائب التي تمر على الجبلة: والموت أعظم حادث فيما يمر على الجبلة كان عمر في أحرج لحظات حياة أي إنسان، وهي لحظة فيضان الروح وخروجها والانتقال إلى الدار الآخرة، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: دخل شاب على عمر بعدما طعن عمر رضي الله عنه فجعل الشاب يثني عليه. لأن السنة أنك إذا حضرت من أيس من حياته وأشرف على الموت أن تثني عليه فتذكره بأعماله الصالحة؛ لأن التخويف والزجر للشخص المحتضر يؤدي به إلى القنوط من رحمة الله، وقد يموت وهو سيئ الظن بالله والعياذ بالله، والله تعالى يقول: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء). لكن الآن في هذا الوقت عليك أن تعظم رجاءه، وتذكره بنصوص الرجاء في الكتاب والسنة، وتذكره بأعماله الصالحة، كنت تفعل كذا.. وكنت تفعل كذا.. حتى يقبل على الله وهو حسن الظن به، فجعل الشاب يثني على أمير المؤمنين رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما أراد هذا الشاب الانطلاق رآه عمر يجر إزاره، فـعمر وهو في سياق الموت قال له: يا ابن أخي! ارفع إزارك؛ فإنه أتقى لربك، وأنقى لثوبك، قال: فكان عبد الله يقول: يا عجباً لـعمر ! إن رأى حق الله عليه فلم يمنعه ما هو فيه أن يتكلم به، وفي رواية: فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض قال: ردوا علي الغلام. وفي الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة : (أن رجلاً من المجوس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حلق لحيته وأطال شاربه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قال: هذا ديننا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكن في ديننا أن نحفي الشوارب وأن نعفي اللحية). وعن يحيى بن أبي كثير قال: (أتى رجل من العجم المسجد وقد وفر شاربه وجز لحيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟ فقال: إن ربي أمرني بهذا -يعني: كسرى- فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله أمرني أن أوفر لحيتي وأحفي شاربي). ولما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام، وبعث بالكتاب عبد الله بن حذافة رضي الله عنه فدفعه عبد الله إلى عظيم البحرين، ودفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزق كل ممزق، وبعد أن شق كتاب رسول الله عليه الصلاة والسلام كتب إلى باذان واليه على اليمن أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جلدين يأتيان به، فبعث باذان قهرمانه وهو بابويه وكان كاتباً حاسباً مع رجل من الفرس، أرسلهما حتى يقبضا على النبي عليه الصلاة والسلام ويحضراه إلى هذا الخبيث كسرى لعنه الله، فجاءا حتى قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخلا عليه وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر إليهما، التفت وكره أن تقع عينه عليهما، وقال: (ويلكما! من أمركما بهذا؟ قالا: ربنا أمرنا بهذا -يعني: كسرى- فقال عليه الصلاة والسلام: ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي، وقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربي قتل ربكما الليلة)، سلط عليه ابنه شيرويه فقتله، فرجعا حتى قدما على باذان . على كل حال فليستحضر هذا الذي يستهين بالهدي الظاهر أنه بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أمره بشيء من هذه الأشياء التي يسميها القوم قشوراً، هل كان سيتجاسر أن يتقدم بين يديه أو يرفع صوته معترضاً عليه؟ لا شك أن أي مسلم أو مؤمن رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً سيقول له: حباً وكرامة وسمعاً وطاعة يا من أفديه بأبي وأمي. فكذلك ينبغي أن يفعل المسلم مع سنته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فهذا واجبنا مع سنته إذا لم ندرك صحبته أن نعظم ما عظم، ونرفع ما رفع صلى الله عليه وآله وسلم.

 

الرد على من يصنعون الشبهات في احتقار الطاعات

 

 

 

هناك أناس في هذا الزمان يتقنون صناعة الشبهات وضرب الأمثال، فيحلم الكثير من هؤلاء أن يتصدوا لكل من يدعو أو يشتغل بالقضايا العملية، أو الجانب الذي يسمونه جانب القشور والمظاهر، حتى بلغ الاستخفاف من بعضهم أنه استهزأ بأبواب فقهية، ألا تسمعون بين الحين والآخر بالذين يقلدون الخميني أشعل الله قبره عليه ناراً، الخميني الذي كان يسخر من علماء أهل السنة والجماعة ويقول: علماء الحيض والنفاس. كررها بعض الخطباء ممن ينتسبون زوراً لأهل السنة بنفس العبارة، يرددون كالببغاوات ما لا يعون ولا يفهمون، فيسخرون من إخوانهم طلبة العلم والمشايخ فيقولون: علماء الحيض والنفاس، حيث قال بعض هؤلاء المشايخ، وسمعته بنفسي في القاهرة منذ سنوات، قال: متى تخرجون من فقه دورة المياه وفقه المراحيض؟ سخرية واستهزاءً بفقه الطهارة. فموضوع القشر واللب لا يقف عند حد وليس له ضابط، فيؤدي إلى التحلل تماماً من الدين، وكما ترون الذي سماه أبوه أحمد بهاء الدين في يوم من الأيام قال: هؤلاء الأمريكان صعدوا على القمر ونحن ما زلنا نناقش: هل ربا البنوك حلال أم حرام؟ يعني: هؤلاء يهتمون بالقشور في حين صعد هؤلاء إلى القمر. فهذه عبارة خبيثة المقصود منها التهوين من شأن هذه القضايا، وهناك نماذج كثيرة جداً ولا نقصد حصرها، فهم ينكرون على من يتكلم في القضايا العملية أو التي يسمونها قضايا قشرية، سواء جاء كلام هذا الشخص ابتداء، أو جاء كلامه إجابة لسائل يسأل، فيثيرون الدنيا ويقيمونها: هؤلاء يتكلمون في قضايا والمسلمون يذبحون.. والمسلمون كذا.. وكذا.. وكذا، وسيأتي الجواب على هذا كله إن شاء الله تعالى. يقولون: ينبغي أن تتجه همة المسلمين الآن إلى الأمور الخطيرة والأمور الجليلة التي تهدد كيانهم، أما الاشتغال بالفقه وبالعلم وبالعقيدة وبتصحيح المفاهيم، كل هذا اشتغال بما لا يجدي، وهذا تضييع للوقت، هيا نقيم أولاً دولة الإسلام، ثم بعد ذلك ننشغل بالعلم وغيره. إن لم يكن معك علم فماذا تفعل لابد أن تتخذ موقفاً وإلا سترتكز على أساس من الجهل، كما يقول بعض الناس: أنت سلفي، سلفية علم أم سلفية جهل؟ ما الذي يقابل سلفية العلم؟ سلفية الجهل. فالشاهد أن العلم لا يضلك أبداً، بل يهديك ويبين لك الطريق. فهم يقولون شبهات فارغة ساقطة تلبس على الناس أمر دينها، وكما ذكرنا من قبل إن كان الكلام على قضايا يسيرة من أمور الهدي الظاهر وليس له خطام ولا زمام فسوف ينجر الكلام بعد ذلك إلى كل أحكام الشريعة التي لا توافق أهواء الناس، بحيث إذا تواضعنا على هذه المقولة وقبلناها لا يبقى بعد ذلك مجال للدعوة إلى اجتناب الحرام أو تعظيم شعائر الدين، وتصبح الشريعة ألعوبة في يد المنحرفين عن أحكامها. يعظم أحدهم ما يحتقره الآخر ويحتقر الآخر ما يعظمه الأول، فأخطار هذا المنهج وتداعياته قد يمتد زحفها في الطريق حتى يطال قضايا العقيدة والتوحيد، حتى تصبح هي أيضاً من القشور التي تفرق المسلمين، فماذا يبقى إذاً من الإسلام إذا تهاونا إلى هذا الحد؟!

 

لكل قوم قشرتهم

 

نحن بشر لنا أجساد، ومقتضى ذلك أن لنا مظهراً مادياً محسوساً، ولسنا أرواحاً لطيفة ولا أطيافاً عابرة، والمظهر شديد الارتباط بالجوهر، وقد جعلت الشريعة الإسلامية الحنيفية تميز الأمة الإسلامية في مظهرها عمن عداها من الأمم مقصداً أساسياً لها. بل إن كل أهل ملة ودين يحرصون على مظهرهم باعتباره معبراً عن خصائص هويتهم، وآية ذلك أنك ترى أتباع العقائد والديانات يجتهدون في التميز والاختصاص بهوية تميزهم عن غيرهم، وتترجم أفكارهم أو ترمز إلى عقيدتهم. فإن كنا نقول للكفار: لكم دينكم ولنا ديننا، فنقول في هذا الاصطلاح الحادث مع شيء من التنزل: لكم قشرتكم ولنا قشرتنا؛ لأن الإنسان لابد له من قشرة، فإن لم يحمل صبغة الله وقشرة المسلمين فلابد أن يتغطى بقشرة الكافرين، وهذا أوضح ما يكون، هذا الشعار: لكم قشرتكم ولنا قشرتنا أوضح ما يكون عند عامة اليهود الذين يتميزون بطاقيتهم ولحاهم وأزيائهم الدينية، وفي المتدينين من النصارى الذين يعلقون الصليب، وفي السيخ والبوذيين وغيرهم، أليس هذا كله تميزاً صادراً عن العقيدة ومعبراً عن الاعتزاز بها؟! ألا ترى التاجر النصراني -رغم أن الجهر بالصليب أو بالصور التي يعلقونها قد تدفع بعض الزبائن من المسلمين إلى عدم الشراء منهم- يتحدى ويظهر ما يعبر عن عقيدته سواء بالصليب أو الوشم الذي يفعلونه أو الصور التي يعلقونها، أليست هذه كلها تعبيراً عن اعتزازهم بهذه العقيدة وإصرارهم على التمسك بها؟! فإذا كانت هذه المظاهر كالصليب وطاقية اليهود وغير ذلك من شعائر الوثنيين هي صبغة الشيطان التي كسا بها أهل ولايته من أهل الضلال والكفران، فكيف لا نستمسك نحن بصبغة الرحمن التي حبانا بها وقال فيها عز وجل: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138]؟! إن أهمية هذا الموضوع ليس بالحجم اليسير الذي يتخيله بعض الناس، وإلا فلماذا هم يقولون: لا تشتغلوا بالمظاهر واشتغلوا بالجوهر، ولا تهتموا بالشكليات والقشور واهتموا باللب والمضامين؟! نقول: إذاً لماذا أنتم تشغلون أنفسكم بمظهرنا؟ مع أننا لا ندعوهم ولا نقول لهم: التحوا ولا افعلوا، غاية ما في الأمر مجرد أن يراك بشكلك هذا يثور ويهيج ويقول: المهم الجوهر، وأنت لم تقل له شيئاً ولا دعوته، رغم أنه من حقك أن تدعوه بل ومن واجبك أحياناً، ومع ذلك فهو الذي يهتم بالمظهر في الحقيقة، وهو الذي يعطيه هذا الحجم الكبير، لماذا تشن الحروب الإستراتيجية على المظاهر الإسلامية كاللحية والحجاب وغير ذلك من المظاهر، لماذا تشن عليها هذه الحروب المنظمة؟ حتى إنه لتعقد من أجلها برلمانات وتصدر قرارات وتجيش الجيوش لهذا، ونحن أصحاب البيت كما يقول الشاعر: أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس كل دار أحق بالأهل إلا في خبيث من المذاهب رجس هذه ديارنا وهذا ديننا فمالكم تجزعون هذا الجزع؟ لماذا تهتمون بالمظاهر؟ افترضوا أننا لم ندعوكم إليها، لماذا تجزعون هكذا؟ فمن الذي يهتم بالمظهر؟! اتقوا الله يا غواة قليلاً واخلعوا العار عنكم والشنارا فهل كل هذا من أجل أنها قشور؟ كلا، بل لأنهم يدركون ما لهذه المظاهر من دلالة عميقة، ويدركون أنها تعبير عن الصمود والثبات على الدين، تصبغ المجتمع بصبغة غير التي ترضي أعداء الله تبارك وتعالى. فمثل هذا التمسك بالشعائر الإسلامية، كالأذان وصلاة العيد وصلاة الجماعة والزي الإسلامي، كل هذه عبارة عن تعبيرات للتحدي لمحاولات التذويب والتمييع، فهذه هي عبارة عن صفعة توجه لمؤامرة استلاب هوية هذه الأمة كمقدمة لإذلالها ولاستعبادها. فمن يتخلى عن القشرة الإسلامية سيتغطى ولابد بقشرة دخيلة مغايرة لها؛ لأن كل لب لابد له من قشر يصونه ويحميه، فالسؤال الآن: إذا كان لابد لنا من قشر لماذا يرفضون قشرة الإسلام ويرحبون بقشرة غيره؟ لماذا يأكلون مثلاً بالشمال ويحلقون اللحى ويلبسون النساء أزياء من لا خلاق لهن، ويلبس بعضهم في بعض البلاد القبعة وغير ذلك من المظاهر التي يقتبسونها عن أعداء الله تبارك وتعالى؟! لأنهم تخلوا عن قشرة الإسلام ولابد من قشرة للب، فاكتسوا بهذه القشرة التي هي صبغة الشيطان. يقول بعض السلف: دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي. يعني: لا تعرضوا لها بالآراء والأهواء، اتركوا لها الطريق سهلاً ميسوراً كي تمر، لا تضعوا أمامها المتاريس والعقبات كي تعوقوها عن المضي.

 

موضوع القشور ليس له حد في مفهوم من ابتدعه

 

لقد لفتنا حال سلفنا الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم إلى ضرورة التميز في الظاهر والباطن عمن خالفنا في الدين، بل تكلمنا من قبل على قضية القشر هذه، وبينا أن القشر كلام عام ما له حد محدود، واجتهدنا في أن نحاول أن نستخرج لهذا المصطلح الدخيل وهذه القسمة الباطلة حداً معيناً فما وجدنا لها حداً محدوداً. فالقشر مثلاً بعض الناس قد يرى أن العمامة أو القميص من القشور، والبعض الآخر يرى أن القشور هي مثلاً في اللحية والحجاب، والبعض الآخر سيرى الصلاة والصيام والحج قشوراً كما فعل مسيلمة الكذاب ، لما وضع عنهم الصلاة وقال لهم: ليس هناك داع للسجود والركوع وهذه المظاهر، والله لا يصنع بتعفير وجوهكم شيئاً، اذكروا الله في أي حال. فإذاً: موضوع القشور لم يقف عند حد، ولم يقتصر على مجرد الهدي الظاهر، لكن الزنادقة والملاحدة يريدون أن يجعلوا كلمة القشور هذه قنطرة حتى يقضوا بها على كل أحكام الإسلام، بحيث لا يبقى منه غير الجانب الوجداني الذي يحبس في الصدور وفي حنايا القلوب. ذكرنا من قبل أننا حتى لو قبلنا تقسيم الدين إلى قشر ولب، هل القشرة خلقها الله عبثاً أم أن لها فائدة؟ لو تخيلت مثلاً البطيخ بدون القشرة الخارجية، والبرتقال بدون القشرة، وأي شيء من هذه الثمرات الذي جعل الله لها قشرة، هل القشرة خلقت بلا فائدة؟ حتى لو أعملنا القياس الذي ابتدعوه فلا شك أن الله خلق القشرة لحكمة، وهي المحافظة على المضمون، كذلك نفس الشيء إذا سمى الهدي الظاهر قشرة فليس بعبث، وإنما وراءه حكمة عظيمة، وهي المحافظة على ما بداخل هذا القشر وهو المضمون. ومن أجل ذلك نراهم تزين لهم شياطينهم وتسول لهم أنفسهم أن الحجاب هذا قشور، وأن العفة شيء في نفس المرأة ليس له علاقة بالملابس، فإذا خرجت المرأة متبرجة بالمناظر القبيحة المعروفة على الشواطئ وغيرها من الأماكن فلا بأس عندهم؛ لأنهم يقولون: المهم النية مادام أن قلبي طاهر فلا يضرني هذا في شيء، فالقضية أخطر من أن يقفز إلى أذهاننا أن موضوع القشر واللب يقف عند حد، هو يزحف حتى يشمل أمور الدين كلها وشعائر الإسلام والهدي الظاهر، فهذه القشرة التي تحمل وتعبر عن الهوية الإسلامية المتميزة هي ما أسماه علماؤنا رحمهم الله تعالى بالهدي الظاهر، وأفاضوا في بيان خطر ذوبان الشخصية المسلمة وتميعها. فما يشيع على ألسنة الناس من قولهم: إن العبرة بالجوهر لا بالمظهر، هذا فيه مغالطة جسيمة وخداع كاذب؛ لأن الجوهر لا ينفك عن المظهر، والظواهر هي المعبرة عن المضامين، وأولى بنا بدل أن نستدل بقولهم: العبرة بالجوهر لا بالمظهر، أن نستدل بقولهم: الإناء بما فيه ينضح. فالقضية قضية مبدأ، ليست قضية أمور شكلية أو مظهرية، وقد أكثر العلماء في مصنفاتهم من الكلام على قضية التشبه بالكفار وخطرها على الإيمان والعقيدة، وفي ذلك كتاب رائع نفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية وهو: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم).

 

أقسام من ينادي بتقسيم الدين إلى قشر ولب

 

إن بدعة تقسيم الدين إلى قشر وإلى لب يتنادى بها فريقان من الناس، فريق من الطيبين المسلمين المخلصين الذين يريدون الخير، لكن يخطئون الطريق إليه ويضلون الطريق إليه، فهم يريدون تقسيم الدين إلى قشر وإلى لب، يعني: جوهر ومظهر، وهدفهم من ذلك أن يهتموا باللب وبالقضايا العظيمة والكبيرة مع إهمال هذا الذي أسموه قشراً، وهذا يقتضيه حسن الظن بهؤلاء. أما الآخرون من الملاحدة وأعداء الدين فهم الذين يقسمون الدين إلى قشر وإلى لب وإلى مظاهر وجواهر ونصوص وأرواح، هؤلاء هدفهم خبيث، هم لا يريدون كما يريد الفريق الأول الاهتمام باللب أو بالقضايا الكبيرة، لكنهم يريدون تحطيم كل شيء، لكنها عملية التدرج واستدراج المسلمين في الانحلال من دينهم رويداً رويداً. إن الهدف من هذه العبارات وأمثالها خاصة في هذا الزمان وفي ظل المحنة التي نعيشها هو كما ذكرنا تزهيد الناس في التمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك الهدي الذي سولت لهم شياطينهم وطوعت لهم أنفسهم أن يسموه تطرفاً وتزمتاً ورجعية وتعصباً وإرهاباً.. إلى آخره، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21] وقال عز وجل: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، وقال تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]. حينما نردد بين الحين والآخر هذا الشعار المقدس في بداية كلامنا، ليس كلاماً نكرره دون أن نتمعن فيه ونتدبره، بل إننا نقصد المعنى العظيم الذي يرمي إليه هذا الشعار المقدس الذي هو: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. هذه ليست كلمة تحفظ بدون معنى، وتقال في بداية بجهل، وما صدرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة إلا كي تكون ميزاناً بين يدي كل كلام نقوله، وبين كل حاجة نريد قضاءها، فنحن نستحضر كلما رفعنا عقيدتنا بهذا الشعار المقدس: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ونعتز بهذا الهدي ونستعلي به على كل طريقة تخالفه أو تنحرف عنه كائناً من كان ذلك الشخص الذي ينحرف ويحيد عنه. فالتمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون تجزئة سواء كان ظاهراً أو باطناً، أصولاً أو فروعاً أو كما سموها قشراً ولباباً أو غير ذلك، فالتمسك بهذا كله ما هو إلا مرآة تعكس ما يعمر قلوب متبعيه عليه الصلاة والسلام من حبه وتعزيره وتوقيره. فما يتنادى به بعض هؤلاء المرجفين لا يعدو أن يكون جهلاً بالشرع، أو ضرباً من العبث والتحلل من البعض الآخر، أو سوء نية وخبث طوية من هذا البعض الآخر.

 

هدف أعداء الدين من تقسيم الدين إلى قشر ولباب

 

 

إن موضوع القشر واللب والنص والروح، والجوهر والمظهر، هذه في الحقيقة تقاسيم مبتدعة محدثة لم يعرفها السلف الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم، بل هو شعار ومبدأ باطنه فيه الرحمة لبعض الناس وظاهره من قبله العذاب، ومن أجل هذا التمويه وهذا التزييف انخدع به بعض الطيبين الذين ابتلعوا هذا الطعم واستحسنوه، بل صاروا يروجون له دون أن يدركوا أن هذا قناع نفاقي قبيح، وأنه من لحن قول العلمانيين من أعداء الدين الذين يتخذونه قنطرة يهربون عليها من الالتزام بشعائر وشرائع الإسلام، يريدون أن يتحللوا من الدين دون أن يخدش انتماؤهم إلى هذا الدين، فيأتون بمثل هذه الشعارات. تتوقف القضية بالفعل عند حسن النية من المسلمين المخلصين عند إهمال ما أسموه قشراً لأجل التركيز على ما ادعوه لباً، لكن حزب المنافقين الحريصين على اقتلاع شجرة الإسلام من جذورها هي عندهم مجرد مدخل لأجل نبذ اللب والقشر معاً تماماً، كما يرفعون شعار الاهتمام بروح النص وعدم الوقوف والجمود عند منطوقه، نقول: هذا كلام طيب وكلام لا بأس به إذا تعاطاه وطبقه الأسوياء، لكنه خطير غاية الخطورة إذا رفعه أصحاب العاهات الفكرية والنفسية والمشوهون عقدياً؛ لأن مقصودهم في الحقيقة ليس مسألة روح ونص، وإنما مسألة إزهاق روح النص واطراح منطوقه ومفهومه، أو توظيفه بتحريفه عن مواضعه لخدمة أهدافهم الخبيثة. هؤلاء يريدون ديناً ممسوخاً كدين الكنيسة العاجزة المعزولة عن الحياة، يسمح لأتباعه بكل شيء مقابل أن يسمحوا هم له بالبقاء حياً، حتى ولو على هامش الحياة، بحيث يكون محبوساً في الأقفاص الصدرية، لا يترك أي بصمة على واقع الناس ومجتمعاتهم، إنهم في الحقيقة يريدون هذا الشعار: أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:32-33]، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21]. ذكرنا من قبل أن تفسير قوله تعالى في صدر الرد على هذه البدعة والضلالة وهو قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]، قلنا: إن السلم هنا معناه الإسلام، وليس المقصود السلام كما يذهب إليه بعض الناس. يعني: هذا أمر بالتزام جميع شرائع الإسلام بحيث لا يفرق بين شريعة وشريعة وبين حكم وحكم. والمراد هنا بالسلم شعب الإسلام. (وكافة) حال، يعني: ادخلوا أيها المسلمون المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم في كل شعب الإيمان ولا تخلوا بشيء من أحكام الإسلام والإيمان.

 

 

قيمة الرجال بجوهرهم لا بمظهرهم

 

لقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن قيمة الرجال بجوهرهم لا بمظهرهم، ونحن لا نقول هذا الكلام من أجل أن نقول للناس: انفشوا شعركم، والبسوا الثياب القذرة، أو تعمدوا لبس الثياب البالية، أو من كان عنده ثوب جديد فليمزقه وليصنع فيه الرقع، لا نقول هذا، لكن السياق الذي نتكلم فيه أن هؤلاء يشتغلون تماماً بمظاهر قشرية جوفاء ويغلون في ذلك، وينكرون على من يتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يزدرون إخوانهم إذا كانوا أولاً فقراء، أو يتزهدون في لباسهم، أو يلبسون ثياب المتواضعين المخبتين إلى ربهم تبارك وتعالى. فقيم الإسلام وهدي النبي عليه الصلاة والسلام ألا نعطي المظاهر هذا الحد من الاهتمام، وهذه القشور هي التي ينبغي التحذير منها لا الأمور التي يقصدون التنفير منها. ومما علمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قيمة الرجال بجوهرهم لا بمظهرهم بأعمالهم لا بأجسامهم. فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) رواه مسلم. يعني: ما أكثر ما تجد رجلاً أشعث أغبر لا يلبس الثياب النفيسة ولا هو كذا وكذا وكذا، بل شعره متفرق وعليه الغبرة من التراب، والناس يزهدون في لقائه وفي دعوته إلى بيوتهم، بل يدفع عن الأبواب، لكنه في ميزان الله سبحانه وتعالى وعند الله من أعظم أولياء الله، بحيث لو أقسم على الله لأبر الله قسمه؛ وذلك لعظم مكانه عند الله، ولأنه تزين بزينة الدين لا بزينة الدنيا، تزين بالخشوع والإخبات والتقوى والبر لا بالمظهرية الجوفاء. فهذه هي موازين الإسلام ومن حاد عنها فهو المنحرف والمتطرف، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه رجل فقال: ما تقولون في هذا؟ -وكان رجلاً جلداً قوياً مفتول العضلات، حسن الثياب والمظهر- قالوا: حري -أي: جدير- إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، ثم سكت فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يستمع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا) رواه البخاري. يعني: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا الغني الأول. ......

 

حقيقة الرجال

 

هذا الشاعر المخضرم: العباس بن مرداس أمه الخنساء الشاعرة المعروفة، وهذا أدرك الجاهلية والإسلام، وأسلم قبيل فتح مكة، وكان من المؤلفة قلوبهم يقول: ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور ويعجبك الطرير فتبتليه ويخلف ظنك الرجل الطرير فما عظم الرجال لهم بفخر ولكن فخرهم كرم وخير بغاث الطير أكثرها فراخاً وأم الصقر مقلاة نزور ضعاف الطير أطولها جسوماً ولم تطل البزاة ولا الصقور لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير يصرفه الصبي بكل وجه ويحبسه على الخسف الجرير وتضربه الوليدة بالهراوى فلا غير لديه ولا نكير فإن أك في شراركم قليلاً فإني في خياركم كثير يقول: ترى الرجل النحيف فتزدريه. أي: أن النحيف مظهره رث. قوله: وفي أثوابه أسد مزير. المزير: هو العاقل الحازم يقال: مزر الرجل مزاره إذا اشتد قلبه وقوي. قوله: ويعجبك الطرير فتبتليه. الطرير: هو الشخص ذو المنظر والرواء والهيئة الحسنة، وترى منظره يعجبك، فتبتليه وتحتاجه تفتش وراء هذه الثياب وهذا المظهر. ويخلف ظنك الرجل الطرير. أي: يكون إنسانا تافهاً. قوله: فما عظم الرجال لهم بفخر ولكن فخرهم كرم وخير يعني: هذا هو الذي يفتخر به الرجال الكرام ليس بالهيئة وبالعضلات وبالمظاهر، لكن بالكرم وبالخير والخصال الجميلة. قوله: بغاث الطير أكثرها فراخاً. البغاث: الضعاف من الطير الذي لا يستطيع أن يصطاد. قوله: وأم الصقر مقلاة نزور يعني: هي التي تضع واحداً فقط ثم لا تحمل بعد ذلك فهي نزور بمعنى قليل. قوله: ضعاف الطير أطولها جسوماً ولم تطل البزاة ولا الصقور البازي والصقر أقوى، قوله: لقد عظم البعير بغير لب. يعني: الجمل يكون حجمه ضخماً جداً وكذلك الفيل. قوله: فلم يستغن بالعظم البعير يعني: هل نفع البعير أن جسمه ضخم، وأن منظره ضخم؟ ماذا يحصل للبعير؟ قال: يصرفه الصبي بكل وجه يعني: الطفل الصغير يتحكم فيه؛ لأنه إنسان عنده عقل يتحكم بهذا الجسم الضخم ويسخره. قوله: ويحبسه على الخسف الجرير. يحبسه على الذل، والجرير: هو الحبل. قوله: وتضربه الوليدة بالهراوى. يعني: بالعصي. فلا غير لديه ولا نكير. فإن أك في شراركم قليلاً فإني في خياركم كثير وهذا الإمام النووي رحمه الله تعالى وهو شيخ الإسلام كان إذا رآه الرائي ظنه شيخاً من فقراء سكان القرى، فلا يأبه له، ولا يخيل إلى ذهنه أن الإمام النووي شيء يذكر، فإذا سمعه يدرس أو يقرر أو يحدث فغر فاه من التعجب، أهذا الرجل الذي رأيته من قبل واحتقرته بسبب رثاثة هيئته وتواضعه ومنظره البسيط يتكلم الآن بهذا الكلام؟! فهو عندما يحدث ويناظر ويقيم الحجج تنكشف شخصيته عن جوهر زكي وعبقرية نادرة في العلم والزهد والتقوى، ولا عجب فالتراب مكمن الذهب، ولكن الناس في كل زمان ومكان يغرهم حسن الهيئة وجمال الهندام، فإذا رأوا من هذا صفته وقروه وعظموه قبل أن يعرفوا ما وراء هذه البزة، وقد يكون فيها نخاع ضامر، وفكر بائر، وقلب حائر. ترون بلوغ المجد أن ثيابكم يلوح عليكم حسنها وبصيصها وليس العلى دراعة ورداؤها ولا جبة من شية وقميصها ويقول الآخر: ليس الجمال بمئزر فاعلم وإن رديت بردا إن الجمال معادن ومحاسن أورثن مجدا

 

ترفع الشافعي عن القيم التافهة والشكليات الكاذبة

 

 

هذا الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: مبيناً أنه يعرف قدر نفسه، ولا يهتز لهذه القيم التافهة والحقيرة والشكليات الكاذبة، فهذه هي القشور أن يحكم على الإنسان من ملابسه بهذه الشكليات. يقول الشافعي رحمه الله تعالى: علي ثياب لو يباع جميعها بفلس لكان الفلس منهن أكثرا وفيهن نفس لو تقاس بمثلها نفوس الورى كانت أعز وأكبرا وما ضر نصل السيف إخلاق غمده إذا كان عضباً حيث وجهته برى يعني: العبرة بالجوهر لا بالمظهر، هذه هي القشور التي ينبغي ألا نهتم بها، يقول: لو جمعتم ثيابي كلها ونظرتم كم تساوي فإنها لا تساوي فلساً، لكن داخل هذه الثياب نفس أبية عظيمة لو قيست بكل نفوس الخلق كانت أعز وأكبر، وهذا ليس كبراً، وإنما هذا من معرفة المرء نفسه، بل هذا قليل جداً في حق الشافعي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: وما ضر نصل السيف إخلاق غمده. يعني: السيف لا يضره أن يكون الغلاف من الجلد خلقاً إذا كان السيف حاداً يقطع ويحصد الرءوس حصداً، فنفس الشيء العبرة بما في داخل هذه الثياب وليس في هذه المظاهر والقشور، هذه هي القشور التي ينبغي أن ننبري لمحاربتها وتصحيح مفاهيم الناس فيها. وما ضر نصل السيف إخلاق غمده إذا كان عضباً حيث وجهته برى

 

 

نحن قوم أعزنا الله بالإسلام

 

عن ابن شهاب قال: (خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام ومعنا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فأتوا على مخاضة -أي: بركة ماء أو بحيرة ماء- و عمر على ناقته، فنزل عنها وخلع خفيه ووضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة : يا أمير المؤمنين! أأنت تفعل هذا، تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة، ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك؟! حيث كان القساوسة واقفين على أسوار بيت المقدس يشاهدون هذا الموقف، فكيف يراه القساوسة والبطارقة وهؤلاء النصارى وهو على هذه الهيئة يفعل هذا؟! فـعمر ثاني أفضل رجل طلعت عليه الشمس بعد الأنبياء، فإن أفضل مخلوق من البشر طلعت عليه الشمس بعد الأنبياء والمرسلين أبو بكر رضي الله عنه، يليه الفاروق عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه. فهل هناك من هو أعظم من هؤلاء حتى نتخذ منه قدوة، ونتلقى منه المفاهيم والموازين للناس والأشخاص والقيم؟ ماذا قال عمر لما قال له أبو عبيدة: (يا أمير المؤمنين أنت أنت تفعل هذا! تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة، ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك؟ قال عمر : أوه -هذا اسم فعل مضارع بمعنى أتوجع وأتضجر من هذه الكلمة- أوه لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم) لكن أبو عبيدة هو من العشرة المبشرين بالجنة، وهو أمين هذه الأمة رضي الله عنه، فقال: لو كان غيرك قالها لجعلته نكالاً ولأدبته تأديباً شديداً، لأجل هذا الخلل في مقاييسه وموازينه وحكمه على الأمور. قال عمر: (أوه لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله). فهذا قانون خاص للأمة المحمدية تعامل هذه المعاملة؛ فهذه سنة الله فيمن يكفر نعمة الله، الله الذي أنزل هذا القرآن قال: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10] يعني: فيه رفعتكم ومجدكم. فبعدما كانت أمة العرب أذل الأمم وأحقرها فما رفعهم الله إلا بهذا الدين، فأي أمة أخرى إذا تمسكت بدينها تقهقرت! وإذا تخلفت عن دينها تقدمت إلا أمة الإسلام إذا تخلوا عن دينهم لابد أن يصيروا في ذيل الأمم؛ لأنهم كفروا نعمة الله؛ لأن الله شرفهم بما لم يشرف به أمة من العالمين بالقرآن وبالإسلام وبسنة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم. فمن يكفر بنعمة الله يهنه الله، قال عمر: إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين فمهما نبتغي العزة في غير ما أعزنا الله به أذلنا الله، قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، فمن ابتغى العزة في غير الإسلام وفي غير مفاهيم الإسلام يعاقب بالمذلة والصغار، هذه الأمة عندما تتمسك بالدين ترتقي، وعندما تتخلى عنه تعود إلى المؤخرة وإلى الذيل. بخلاف الأمم الأخرى كما رأينا مثلاً أمة اليابانيين لما تخلوا عن دينهم ترقوا وتقدموا، وعندما يدعون أن الحضارة الغربية حضارة نصرانية هذا كذب؛ لأنهم ما ترقوا إلا بعدما كفروا بالكنيسة وكفروا بالدين وعزلوها وحبسوها داخل جدران الكنائس كما هو معلوم، ورفعوا في الثورة الفرنسية شعاراً معروفاً: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس. الشاهد أنه ما ترقى الغربيون إلا بعدما طلقوا الدين وكفروا بالدين تماماً، المسلمون اليوم على العكس تماماً، فمن الظلم أن يطبق هذا الوضع الموجود الآن في بلاد الكفار وفي الغرب على المسلمين؛ لأن المسلمين لن يرتقوا حتماً، ونقسم على هذا بالله عز وجل أنه لا يمكن أبداً أن يصلح حالهم إلا بالقرآن والسنة وبالإسلام، بخلاف غيرهم من الأمم، فمن أراد العز في غير هذا الدين فلن يجني إلا المذلة، وفي رواية أن أبا عبيدة قال: يا أمير المؤمنين! تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه؟ فقال عمر : إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نبتغي العزة بغيره. فالعزة ليست بالمظهرية وبالشكليات وغير ذلك. دخل أعرابي رث الهيئة على أحد الخلفاء فاقتحمته عينه، يعني: كأن الخليفة لما رآه بثياب بالية فكأنه استنقصه وظهر عليه أمارات التأثر بهذا، فعرف الأعرابي ذلك في وجهه فقال: يا أمير المؤمنين! إن العباءة لا تكلمك ولكن يكلمك من فيها، فأدناه وقربه فإذا به يظهر من فصاحة في القول والبلاغة؛ فجعله من خاصته. 

إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه

 

عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام وكان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه)، يعني: إننا نستفيد منه ما يستفيد الرجل من باديته من أنواع المتاع، ونحن حاضرو المدينة نعد له ما يحتاج إليه مما لا يجده هو في البادية. كان يقول عليه الصلاة والسلام على هذا الرجل: (إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه وكان دميماً -يعني: قبيح الوجه رضي الله تعالى عنه- فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال: أرسلني من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو -أي: لا يبالي- ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحتضنه يقول: من يشتري العبد؟ من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله! إذاً والله تجدني كاسداً -يعني: تجد سعري قليلاً؛ لأنني ذميم الخلقة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكنك عند الله لست بكاسد، أو قال: لكن عند الله أنت غال) أخرجه الإمام أحمد و البغوي و الترمذي في الشمائل وصححه الحافظ ابن حجر في الإصابة. ففي هذا الحديث كيف كان صلى الله عليه وسلم يواسي الفقراء، وكيف أنه لم يلتفت إلى صور الناس؛ لأن العبرة بالقلوب والأعمال وليس بهذه المظاهر الكاذبة، هكذا تعلم منه الأصحاب الذين هم أولو الألباب رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

 

ذم الاهتمام الكبير بالمظهر

 

عن عبد الله بن شقيق قال: (كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عاملاً بمصر، فأتاه رجل من أصحابه وهو شعث الرأس مشعان، فقال: مالي أراك مشعاناً وأنت أمير؟! فقال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم ينهانا عن الإرفاه)، فأصل الرفه أن الجمل يتعود أنه كل يوم يذهب به إلى البئر ويرد الماء ويشرب، فأخذ منه معنى الرفاهية والترفه، قوله: (فكان ينهانا عن الإرفاه) يعني: كثرة التجمل والاشتغال بهذه المظاهر. (قلنا ما الإرفاه؟ قال: الترجل كل يوم) رواه النسائي وصححه الألباني إننا نهتم بتخريج الأحاديث من وقت ما رأيت الإخوة البريطانيين يعتبون جداً على ألا يذكر الإنسان حديثاً ولا يذكر تخريجه ومن صححه، فاستفدنا منهم ذلك ألا نترخص بذلك. في طريق أخرى عن يزيد بن هارون عن الجريري عن عبد الله بن بريدة رحمه الله: (أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر، فقدم عليه وهو يمد ناقة له، فقال: إني لم آتك زائراً وإنما أتيتك لحديث بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوت أن يكون عندك فيه علم، فرآه شعثاً فقال: مالي أراك شعثاً وأنت أمير البلد؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه، ورآه حافياً، فقال: مالي أراك حافياً؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نحتفي أحياناً).

 

 

ربعي بن عامر يعلم رستم أن مظاهر الدنيا ليس لها قيمة

 

هذا ربعي بن عامر رضي الله تبارك وتعالى عنه، أرسله سعد قبل موقعة القادسية رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فلما دخل عليه وأراد رستم أن يظهر له العظمة والأبهة كي يذل الصحابة رضي الله عنهم بهذا المظهر، فزين مجلسه بالنمارق والزرابي، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة العظيمة، ووضع على رأسه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وجلس رستم على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب غليظة وفرس قصيرة، فأراد رضي الله تعالى عنه أن يلقنه درساً لا ينساه، أراد أن يعلمه أن كل هذا لا يساوي عندنا شيئاً، فتعمد رضي الله عنه أن يركب الفرس فلم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، حتى يبين أن هذه الأشياء ما لها قيمة عندنا ولا تهزنا هذه المظاهر، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك! فقال: إنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فخرق عامتها، يعني: أنتم تريدون أن تذلوني بدنياكم فهذه دنياكم، فأخذ الرمح وظل يمزق هذه النمارق والزرابي فخرق عامتها وأفسدها عليهم، فقال له: ما جاء بكم؟ فقال: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله. إذاً: فهذه الأمور التافهة والمظاهر الدنيوية ليس لها أي قيمة في نظر من يريد الدار الآخرة، فكان جندي من جنود المسلمين يعرف لماذا خلق، ومن الذي كلفه بهذه الرسالة. يقول: (إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام).

 

مقاييس وموازين الإسلام للرجال

 

المقاييس التي غرسها الإسلام في نفوس أتباعه والقيم والموازين هي أن شأن عباد الله الصالحين أنهم لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، كما قال الله تبارك وتعالى في سورة القصص بعد ما حكى عاقبة قارون وما كان عليه من المظاهر والرياش والأموال: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص:76] يعني: كانت المفاتيح فقط تحملها عصبة من أولي القوة وتكون ثقيلة عليهم، هذه مفاتيح الخزائن فما بالك بما في الخزائن! لكن ماذا كانت عاقبة قارون؟ أهلكه الله تبارك وتعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ [القصص:81]. في نهاية القصة يقول تبارك وتعالى مبيناً العبرة والدرس من هذه القصة العظيمة: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، كلمة (تلك) إشارة تعظيم وتفخيم، وفيها تنزيل الشيء الغيبي منزلة المشاهد والمحسوس. قوله: ((تلك الدار الآخرة)) يعني: تلك التي سمعت خبرها وبلغك وصفها هي الدارة الآخرة. قوله: (نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) قيل: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس. تأمل في الآية لم يقل تبارك وتعالى: نجعلها للذين لا يعلون في الأرض ولا يفسدون، لكنه نفى عنهم مجرد الإرادة، يعني: أنهم أصلاً لا يريدون فضلاً عن أن يفسدوا أو يعلوا في الأرض، حتى مجرد الإرادة أو الميل بالقلب لا يخطر على قلوبهم، ففي تعليق الوعيد بترك إرادتهما لا بترك أنفسهما مزيد تحذير منهما، بمعنى أننا يجب ألا نريد العلو ولا الفساد في الأرض فضلاً عن أن نقع في العلو أو الفساد، كما قال عز وجل: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود:113] فعلق الوعيد بالركون، والركون: هو مجرد الميل القلبي أو مساعدة الظالم، كما قال بعض السلف: لو أن ظالماً طلب منك أن تناوله قلماً لا تعطه أخذاً بهذه الآية؛ خشية أن يكتب به ظلماً فتعينه على ظلمه. قوله: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً) العلو: هو الغلبة والتسلط بسوء وتكبر على المسلمين، ونتأمل هنا قوله تبارك وتعالى: (لا يريدون علواًَ في الأرض ولا فساداً) فكرر (لا) ، إشارة إلى أن كلاً من العلو والفساد مقصود بالنفي، ليس هما شيئاً واحداً معطوفاً على بعض، يعني: لا يريدون علواً ولا فساداً. قال عكرمة : العلو في الأرض: التكبر وطلب الشرف والمنزلة عند سلاطينها وملوكها، والفساد: العمل بالمعاصي وأخذ المال بغير حقه. ......

 

اهتمام الناس بقشور المباهاة والمفاخرة ونقدهم لمسائل الدين

 

 

إن التواضع في الحقيقة له صور كثيرة جداً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كان يأتي الصبي الصغير أو الجارية الصغيرة فيأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فيمضي معه حيث أخذه، وقالت له عائشة رضي الله عنها وهو يأكل يوماً: (هلا اتكأت -يعني: نأتي لك بمتكأ تجلس عليه- فحنا رأسه عليه الصلاة والسلام وقال: بل آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد)، صلى الله عليه وآله وسلم. فهذه هي قيم الإسلام، وهذه قشور القوم، وهذا هو اللب والجوهر والروح، فما بال القوم قد ابتغوا العزة في رباط العنق (الكرفتة)، ويكون لونها مناسباً مع لون القميص ومع الأزرار والبدلة، وكذلك مع السيارة أحياناً، فجعلوا العزة في مثل هذه المظاهر، لا، هذه مقاييس أهل الدنيا، هذه ليست لنا، هذه الزينة وهذه القيم للقوم الذين جنتهم عجلت لهم: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر). فمهما سابقناهم في هذا فلن ندركهم، فهم يسبقوننا في الرياضة، ويسبقوننا في الزينة وفي الرياش والفخفخة لن ندركهم ولن نلحقهم؛ لأن هذه ليست لنا، هذه لغيرنا، وزينتنا هي التواضع والبذاذة كما قال عليه الصلاة والسلام: (البذاذة من الإيمان). زينتنا قيام الليل، وذكر الله عز وجل، وصلاة الجماعة، هذه هي الزينة التي تليق بعباد الرحمن، قال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63] فما بال القوم ابتغوا العزة في هذه المظاهر الكاذبة والقشور الفارغة، في ربطة العنق وكي الملابس، وأهدروا أموالهم في مظاهر قشرية جوفاء، وإذا ندبت أحدهم إلى الاعتدال وقلت له: ترفق بنفسك مهلاً، انطلق كالصاروخ يسرد لك ما أسعفه من الحجج والمعاذير، في حين أنه بمجرد رؤيته لمن يتمسك بالسنة وبهدي النبي صلى الله عليه وسلم مثل: ارتداء القميص حيث كان أحب الثياب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه الأستر وفيه تواضع، والعمامة أو غير ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا به يشمئز ويقول: هذه شكليات وهذه قشور لا ينبغي الاشتغال بها، نقول: لماذا شغلت أنت نفسك بهذه القشور؟ أنا ما كلمتك وما دعوتك بأن تفعل مثلي، ومن حقي أصلاً أن أدعوك. فمن الذي استفزته هذه القشور؟ وهناك مفارقات عجيبة في الحقيقة نلمحها في مجتمعاتنا تعكس الخلل في هذه القيم وفي هذه الأمور، فمثلاً تلمح بعضهم إذا رأى إماماً للصلاة متمسكاً بالسنة يلاحظ اهتمامه الشديد بتسوية صفوف الصلاة وبرصها أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، يقول: هذه شكليات هذه قشور، بل إن منهم من سخر من هذه السنة لما سئل في بعض الأحاديث الصحافية ما هي آخر نكتة، أو (كاريكاتير) أعجبك؟ فقال: رأيت (كاريكاتير) جماعة أحدهم لابس قفاز الملاكمة، فقالوا له: ماذا تفعل؟ هل أنت تستعد للملاكمة؟ قال: لا أنا سأسوي الصف. من يفعل هذا؟ هل هناك من يضرب الناس حتى يسووا الصفوف؟ إن هذا تنفير من السنن واستهزاء بأشياء قد تضر إيمانهم وإسلامهم. فالشاهد قولهم: هذه شكليات وهذه قشور، بينما تراهم في أنشطتهم إذا عملوا معسكرات كشافة أو حتى معسكرات رياضية أو حفلات واستقبالات سواء كانوا من الكشافة أو من الصحفيين أو غيرهم، فانظر إلى اهتمامهم بتسوية الصفوف مثلاً في الاستعراضات العسكرية، أو استقبال حرس الشرف، أو في المدارس والمعسكرات وطابور الصباح، وكل هذا من أجل المحافظة على مظهر الاستعراض! أليست هذه شكليات أو قشور؟! فيقول لك: هذا من لوازم الانضباط والنظام وكذا وكذا إلى آخر هذه المعاذير، هذا من المفارقات العجيبة في الحقيقة، لماذا تقولون في الصلاة: شكليات وقشور؟ ولماذا في حفلاتكم ومراسيمكم تهتمون بهذه المظاهر؟ إذا جاء الفقير ذو الدين والخلق الحسن إلى أحدهم يخطب ابنته تمسك بالمظاهر وتشبث بالقشر، وأهمل الجوهر واعتبر المظهر، وعقد الأمور، وغالى في المهور، وإذا كان رجلاً طيباً وتورع عن المغالاة في المهر وقنع باليسير لابد أن يظهر أمام الناس أن المهر قدره كذا وكذا، لماذا؟ من أجل الاشتغال بهذه القشور. أما قشور المآتم فحدث ولا حرج عما يقع بسبب التباهي في المآتم، بل إنهم يتباهون بحسن أكفان الموتى، في أحد المساجد هنا قريباً في المنطقة تجد إذا دخلت الباب كفناً درجة أولى وكفناً عادياً وهكذا، وإلى عهد قريب إذا دخلت بعض المدافن تجد رخاماً مكتوباً عليه: مدفن درجة أولى ممتازة بكذا جنيه، ومدفن درجة ثانية بكذا جنيه، ومدفن عادي بكذا جنيه. هذا التباهي في الجنائز، وهذا غير التفاخر بالبنيان فوق القبور، مع ما في ذلك من المخالفة الصريحة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البناء فوقها. ومن القشور المدمرة كما يقولون: موت وخراب بيوت، أو كما يقول الشاعر الفصيح: ثلاثة تشقى بهن الدار العرس والمأتم ثم الجار فتجد في الجنائز إذا كان الميت له أقارب في مدن أخرى تتحول دار أهل الموت إلى فندق ومطعم يستقبل أفواجاً من المعزين تقيم الأيام والليالي، ويستنفر أهل الميت لخدمتهم وتأمين حاجياتهم، وحدث ولا حرج عن تكاليف السرادقات والتباهي بالمشاهير من المقرئين، وربما استدانوا لأجل هذه المظهرية، وربما دفعوا تكاليف هذه المظاهر الكاذبة الخادعة والقشريات من أموال قد صارت ملكاً لليتامى؛ لأن الميت انفصل عن ماله، صار ملك اليتامى القاصرين المساكين، فإذا بهم يأخذون من أموال اليتامى ولا يتحرجون، رغم أن هذا من أكل أموال اليتامى ظلماً وسحتاً في هذه المظاهر الكاذبة، فمن الذي يهتم بالقشور؟ ومن الذي تستعبده المظاهر وتلك العادات الخبيثة؟ وهذا أيضاً مخالف للسنة؛ لأن جيران أهل الميت الأصل أنهم هم الذين يصنعون الطعام لأهل الميت؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال عندما استشهد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فإنه قد أتاهم ما يشغلهم). أيضاً في سبيل هذا التصور وفي سبيل المظهرية الفارغة يضحي بعضهم بالنفس والنفيس، وربما أشغل ذمته بالدين أركبه الهم والذلة في النهار وأرقه بالليل. إذا فرح في الأفراح بذَّر في نفقات الإضاءة وأسرف في الولائم، مجاراة للتقاليد ومجاراة للأغنياء والوجهاء، يقول عليه الصلاة والسلام: (المتباريان لا يجابان ولا يؤكل طعامهما) رواه البيهقي وصححه الألباني. قوله: (المتباريان) أي: لو أن شخصاً صنع وليمة وقام الثاني وصنع وليمة أفخم من وليمته، فتباريا كأنها مسابقة، فهذان يعاقبان شرعاً بأنهما لا يجابان ولا يؤكل من طعامهما، ويقول عليه الصلاة والسلام: (شر الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله) صلى الله عليه وسلم، رواه مسلم . المقصود يمنعها المساكين من الدخول، فليس من الممكن أن تجد فقيراً في الأفراح، فلو ذهبت إلى (البوفيه) مثلاً فرأيت الفطائر والحلويات وهذه الأشياء فهل تجد رجلاً فقيراً مسكيناً رث الثياب يجلس مع هؤلاء الوجهاء الذين يتباهون بالملابس وبالثياب والمظاهر الفارغة؟ هل يمكن أن يتركوا واحداً فقيراً أو مسكيناً يأكل معهم؟ لا يمكن أن تجد هذا إلا أن يشاء الله، فهذه مظهرية فارغة. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (شر الطعام طعام والوليمة). وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يحضر أحدكم وعند كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها، ولا يدعها للشيطان) رواه مسلم ، فإذا كانت اللقمة لا تتركها حتى لا تدعها للشيطان، فكيف بمن يطعم الشيطان ما لذ وطاب من أصناف الطعام والشراب؟ كنت في إحدى البلاد العربية في شيء مثل المخيم، فأتوا بخروف كبير جداً مشوياً بطريقتهم، وأتوا به على صواني كبيرة جداً كما هي الطريقة المعروفة عند بعضهم، فالناس أكلوا أكلاً يسيراً جداً، فبقي هذا الشيء يكاد يكون كما هو، والأكل الموجود من الفواكه والأرز بما عليه من الزبيب وغيره من الأشياء هذه كلها، وإذا أنا بهم يدخلون بإناء كبير جداً، جفان كالجواب ربما يصعد إليها بالسلالم، فالمهم أتوا ببقية الطعام فجعلوا يضعون اللحم على الخبز على الفواكه، فاستغربت من المنظر فقلت: أين تذهبون بها؟ فكأن الأخ أحرج فقال لي: نتصدق بها على الطيور، فهنا نقول: كيف تهدر نعم الله سبحانه وتعالى بهذا الشكل؟ هناك من المسلمين من يموت بالتخمة ومن الشبع، ومن المسلمين من يموت بسبب الجوع، فهل هذا هو شكر النعم التي أنعم الله تبارك وتعالى بها علينا؟ كل هذه مظهرية كاذبة لا تليق بالمسلم، فإذا كان الشيطان لا تترك له لقمة، فكيف تترك له أصناف الطعام والفواكه والشراب وغير ذلك حتى يهنأ بها ويتقوى عليك ويهزمك؟! وكيف بمن يرمي في القمامة أكواماً من الطعام تفقدها أفواه محرومة، وبطون خاوية، ويلقي في المزبلة بقايا الولائم في حين يغلي قلبه حسرة على ما ركبه من ذل الدين وهمه في سبيل قشور فارغة وفي سبيل المظاهر الكاذبة؟! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

 

أقسام الناس في العلو والفساد في الأرض

 

إن الناس على أقسام فيما يتعلق بالعلو والفساد في الأرض، فمن الناس من يريد علواً في الأرض وفساداً كالحكام الظلمة والفسقة والفجرة، فهو يجمع بين أمرين: حب الرياسة والزعامة، والتسلط والقهر والعلو، ويريد أيضاً في نفس الوقت أن ينشر الفساد في خلق الله وإباحة المعاصي، وتيسيرها على الناس، فهذا يريد العلو ويريد الفساد أيضاً. وهناك قسم آخر يريد علواً ولا يريد فساداً، وتجد هذا أحياناً في بعض أهل الصلاح، يريد العلو والرياسة، ولكنه ينهى عن المعاصي ولا يريد المعاصي، كما قال الشاعر: هلاك الناس مذ كانوا إلى أن تأتي الساعة بحب الأمر والنهي وحب السمع والطاعة وقسم ثالث: وهم الذين لا يريدون علواً ولكنهم يريدون أن يكون الفساد متوفراً لهم، فهذا الصنف يريد فساداً لا يريد علواً، لكن أهل الآخرة هم الذين قال الله فيهم: لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (إن الرجل لو أحب أن يكون شسع نعله أجود من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية). يعني: أن يحب أن يتميز على أخيه حتى في شسع النعل، والشسع: هو القطعة من الجلد التي تدخل بين أصبع القدم الكبيرة والتي تليها، فإذا أحب الرجل أن يكون شسع نعله أفضل من غيره فهذه درجة من درجات حب العلو في الأرض، لكن لا بأس أن يحب أن يكون نعله حسناً كما جاء في الحديث الذي ذكرناه، لكن لا يتكبر على من دونه في الدنيا، ولا يكون ممن يريد العلو في الأرض. قول علي : (إن رجلاً يحب أن يكون شسع نعله أجود من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية) قال العلماء: لعل هذا إذا أحب ذلك لافتخر على صاحبه ويستهين به، وإلا فقد جاء في الحديث: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً؟ فقال: إن الله تعالى جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس). فالكبر عمل قلبي أساساً لكن إذا كان الإنسان ركب سيارة أحسن من سيارة جاره، أو لبس ثياباً معينة حتى تكون ثيابه أفضل فهذا يريد العلو، لكن لا حرج أن تحب الجمال والنظافة والثياب الجديدة، لكن لا لتعلو بها على خلق الله، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا لبس أو استجد ثوباً كان يدعو الله تبارك وتعالى يقول: (اللهم إني أسألك خيره وخير ما صنع لأجله، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع من أجله)، فإنه يصنع ويلبس أحياناً لأجل التفاخر والتعالي على الناس وهذا منهي عنه، ويصنع ويلبس لأجل الستر والزينة وهذا لا بأس به، وكان علي رضي الله عنه يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة، يرشد الضال، ويعين الضعيف، ويأتي إلى البقال والبياع فيفتتح عليه القرآن، ويقرأ تلك الآية: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]. نحلم باليوم الذي ينزل فيه الرؤساء إلى الأسواق والشوارع ويتلون هذه الآية: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]. ولما قرئت هذه الآية عند بعضهم قال: ذهبت الأماني هاهنا، يعني: الآمال العظيمة التي يأملها الإنسان في الدنيا انقطعت الآن، عند هذه الآية يعرف الإنسان أنه ليس بحاجة إلى علو ولا إلى استكبار على خلق الله. وجاء عن عمر بن عبد العزيز أنه في لحظة وفاته رضي الله عنه كان يرددها حتى قبض رحمه الله. وقال أبو معاية : الذي لا يريد علواً هو من لم يجزع من ظلمها، ولم ينافس في عزها، وأرفعهم عند الله أشدهم تواضعاً. ومر علي بن الحسين وهو راكب على مساكين يأكلون كسراً لهم من الخبز فسلم عليهم، فدعوه إلى طعامهم، فتلا هذه الآية: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] ثم نزل وأكل معهم، ثم قال: قد أجبتكم فأجيبوني كما أجبت دعوتكم، فحملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم وصرفهم. هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم.

 موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

ربما يهمك أيضاً

رسالة من غريق
1907 ١٢ يناير ٢٠١٧
آداب التخلي -3
2391 ٠٨ ديسمبر ٢٠١٦
آداب التخلي -2
1863 ٠١ ديسمبر ٢٠١٦
البيع بالتقسيط
2843 ١٧ نوفمبر ٢٠١٦
السيرة البازية
1480 ١٠ نوفمبر ٢٠١٦