السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

تطبيق الشريعة وإقامة الشرع .. بحث في المصطلح وآثاره

إقامة شرع الله مسؤولية عامة الأمة، وليست تكليفًا منوطًا بفئة دون أخرى

تطبيق الشريعة وإقامة الشرع .. بحث في المصطلح وآثاره
محمد السعيدي
السبت ٢١ يناير ٢٠١٧ - ١٣:٥٩ م
1236

تطبيق الشريعة وإقامة الشرع .. بحث في المصطلح وآثاره

كتبه/ محمد السعيدي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

"تطبيق الشريعة" مصطلح حديث ظهر بعد شيوع القوانين الوضعية في البلاد الإسلامية، أعقابَ الاستعمار الأجنبي الذي فُرِض على معظم بلاد المسلمين؛ وكان الفقهاء المسلمون الذين كتبوا في السياسة الشرعية قبل ذلك يصطلحون على "إقامة الشرع"..

والفرق بين المصطلحين: أن الأول مصطلح قانوني، يعرفه القضاة والمحامون وصُنّاع القوانين، فالالتفاتة فيه إلى الحُكَّام وتذكيرِهم بواجبهم الأول، وهو استبدال الشريعة الإسلامية بالقوانين وتطبيقها على الأمة. أما الآخر فالالتفاتة فيه إلى عموم الأمة وتذكيرِ كلٍّ منها -حُكَّامًا ومحكومين، أفرادًا وجماعات- بوجوب المصير الى كتاب الله تعالى وسُنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- والتزام كلٍّ منا بهما فيما خوطب به؛ فالحاكم يقوم بهما في سلطانه، والقاضي في من تحاكم إليه، والتاجر يقوم بهما في ماله، والرئيس فيما أُنِيط به من مسؤولية، ورب الأسرة في القيام بأهله وولده، وكل عبد من عِبَاد الله -ذكرٍ أو أُنثَى- يقوم بها في كَسبِ قلبه وجوارحه وعمل يده.

وخطابات الشرع تؤيد الاصطلاح الآخر وتؤكد عليه، لما فيه من عموم وإطلاق، كالآية في سورة النساء: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾؛ فالخطاب فيها متوجه لكل من تولى حُكْما بين الناس في صغير الأمور وعظيمها، يدخل فيه السلاطين والقضاة والمسؤولون -مهما صغرت صلاحياتهم- والآباء والأمهات وجميع الأولياء؛ والعدل هو شرع الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ولعل من الإعجاز البياني في القرآن الكريم أن ذكر الله تعالى في هذه الآية "العدل" ولم يذكر الشرع؛ وحِكْمَةُ ذلك والله أعلم: أن من المسائل التي تنزل في الناس على مرّ الأعصار ماليس منصوصًا عليها بعينها في الكتاب والسُنّة، أو ما نتج عن ظنّية دلالتهما عليها اختلاف العلماء فيها؛ فالمجتهد في ذلك يتحرى أعدل الأقوال فيها، وهو ما وافق عمومات النصوص ومطلقاتها، وما وافق الأصول التي تصلح للقياس عليها، وما كان منها أحفظ لمقاصد الشريعة الكلية والجزئية؛ فما كانت هذه سماته من الأحكام فهو شرع الله تعالى، وإن لم يَرِد فيه نص على عين الواقعة.

وهذا يُخْرِج ما يخدم أهواء النفوس البشرية؛ إذ ليس الهوى مرجعًا يُصار إليه للتعرف على حُكِم الله في الأرض، سواء أكان هوى فردٍ أم جماعةٍ، بل لو أطبق أهل الأرض جميعًا على اشتهاء أمرٍ فليس في ذلك دلالة على أنه العدل الذي يريده الله تعالى، مالم يوافق نصًا خاصًا أم عامًا، أو يوافق أصلًا منصوصًا عليه يمكن اعتباره بقياسٍ صحيح وفق القواعد الصحيحة لإلحاق الفروع بالأصول..

ومن ذلك أن تكون عِلَّة الأصل منصوصًا عليها كقوله تعالى: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾..

أو تكون عِلَّة الأصل ثابتة بطريق المناسبة، وذلك بأن تكون "ظاهرةً"، أي لا تخفى على أهل الاجتهاد، "منضبطة"، أي لا تظهر في مكان وتختفي في آخر، "يصلح من ترتيب الحكم عليها ما يصلح أن يكون مقصودًا للشارع من جلب مصلحة أو دفع مفسدة"، ومثاله: تعليل تحريم القعود مع من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها الوارد في قوله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء: ١٤٠]، فإن العلماء علَّلُوه بسد ذريعة التأثّر بهم، وهو وصف في غاية الظهور وغاية الانضباط؛ ولذلك يصلح أن يقاس عليه ما شاركه في هذه العلة من الأحكام النازلة.

وبذلك لا يكون استطلاع آراء الناس حجة لإقرار مخالفة شرعية حكم أهل العلم بتحريمها، كما لا يكون حجة في إبطال أمر حكم أهل العلم بشرعيته؛ فالمرجع في الشريعة ليس لأهواء الناس واستطلاع آرائهم، بل للعدل الذي أمر الله به وهو الشرع الذي مضى تلخيص سبل الوصول إلى أحكامه.

وقد جاء النص القرآني مُحَذِّرًا من اتخاذ الأهواء مَرْجعًا للأحكام في مثل قوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾، وتوجيه الخطاب في هذه الآية للنبي -صلى الله عليه وسلم- دليل على أن من دونه -صلى الله عليه وسلم- من العلماء والحُكّام والسادة والرؤساء أولى بالحُكْم، وهو ما يسميه الأصوليون بالقياس الجليّ، وهو أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق؛ فجميع من هم دون النبي -صلى الله عليه وسلم- من البشر -وكل البشر ولا شك دونَه- منهيون عن تقديم الأهواء -مهما كَثُر أهلُها أو عَظُموا- على شرع الله أو بعض شرع الله، وأن تقديم الهوى على الشرع من دواعي إصابة الأمم بالبلاء ونزع النعمة.

والشرح السابق لمعنى العدل في الآية يخرج به أيضًا المصالح الاقتصادية، سواء أكانت خاصة أم عامة؛ فليست مرجعًا يمكننا التعرف من خلاله على العدل الذي هو مُراد الله من عباده في هذه الأرض، مالم يكن متوافقًا مع النص أو ما هو في معنى النص.

بل إنَّ النصوص الشرعية واضحة في النهي عن جعل المنافع الاقتصادية مُعَطِّلَة لشرع الله في آيات كثيرة كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، النحل (95).

أعود إلى القول بأن إقامة شرع الله مسؤولية عامة الأمة، وليست تكليفًا منوطًا بفئة دون أخرى، فتعاليم الشريعة هي حدود الله التي نُهِي الجميع -دون تفريق- عن قربها ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾، ونُهينا -دون تفريق- عن تعدّيها ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾، وأُمِرنا -دون تفريق- بحفظها ﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

وهنا محل سؤال، وهو: مادامت إقامة الشرع مسؤولية جميع الأمة -كلٌ فيما يخصه-؛ فما وجه تسمية بعض العلماء لآية سورة النساء المتقدم ذكرها بآية الأمراء؟

الجواب: أن سلطة الأمراء أعظم، ومسؤوليتهم عمن دونهم أكبر؛ ولهذا فالآية أكثر اختصاصًا بهم؛ فالمجتمعات مهما مانعت على ما بِيَدِها من الشرائع وتواصت بالحق وتواصت بالصبر، فإنها إذا ابتليت بمن يدفعها ويأطرها في اتجاهٍ خلاف ما تريده لنفسها قلَّما تصبر على شرع الله، كما حدث للمجتمعات الأندلسية، فإنها بالرغم من وفرة العلماء العاملين المخلصين، الذين عمرت بهم الأندلس حتى القرن التاسع الهجري، إلا أن دفع أمراء الطوائف لهم نحو الانحلال الأخلاقي أوقعهم فيما وقعوا فيه من استشراء الفساد بأنواعه بينهم، والذي جعلهم ضعفاء جدًا في مواجهة الإسبان الذين كانوا أقل منهم عددًا وعتادًا؛ ولو أن حكام "غرناطة" في ذلك الزمان حينما تمت محاصرتهم من قبل جنود "آراجون وقشتالة" قاموا بإعادة البناء العقدي والأخلاقي للأمة -كخطوة أولى من خطط الدفاع- لانقلبت النتيجة رأسًا على عقب، ولكنهم آثروا الاستمرار في دعم الانهيار الأخلاقي والعقدي -لمقتضيات سياسية بزعمهم- في مواجهة جيوش محتشدة على أسس عقدية وأحقاد تاريخية؛ فكانت النتيجة البائسة، وقد قال تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com