الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

(الهدهد)... وتحمُّل الأعباء!

الباقي علينا: أن نسمع، ونعمل لديننا وعقيدتنا، ولا أقل أن نكون مثل الهدهد!

(الهدهد)... وتحمُّل الأعباء!
خالد آل رحيم
الخميس ١١ يناير ٢٠١٨ - ١١:٤٦ ص
1147

"الهدهد"... وتحمُّل الأعباء!

كتبه/ خالد آل رحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فربما يتعجب القارئ مِن هذا العنوان!

فما علاقة "الهدهد" بالتحمُّل، وما علاقته بالأعباء؟! فهو ليس مكلفًا ولا محاسَبًا، وما المقصود مِن ذكره مقترنًا بهذا العنوان؟!

عفوًا، لا تتعجل، ولا تتعجب؛ فسريعًا سيزول هذا التعجب، ويبقي التأمل والانتفاع لمَن أراد النجاة والفوز بالدنيا والآخرة، وما دعاني للحديث عن "الهدهد" هو ذكره في "القرآن الكريم"، وهي رسالة لنا أن: تعلموا مِن الطير ما ينفعكم، ويكون سبب نجاتكم؛ فهذه المخلوقات غير مكلفة، ومع ذلك عملت بكل طاقتها مِن أجل دين الله، وبني جنسها، بل ومِن أجل الإنسان!

ونبدأ الحديث عن الهدهد:

قال الله -تعالى-: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ . لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ . فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ . إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ . وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ . أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ . اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (النمل:20-26).

ولنا مع قصة هدهد سليمان -عليه السلام- وقفات، وهي:

أولًا: سليمان -عليه السلام- سأل عن الهدهد المعروف، ولم يسأل عن أي هدهد، وهذا دليل على أن الاختيار لمَن يعمل لا بد أن يكون على قدر تحمل المسئولية التي توكل إليه، وأن يؤديها على أكمل وجه: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ).

ثانيًا: قال الهدهد: (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ): قال الشوكاني -رحمه الله-: "والإحاطة: العلم بالشيء مِن جميع جهاته". وقال: الطاهر بن عاشور -رحمه الله-: "والإحاطة: الاشتمال على الشيء، وجعله في حوزة المحيط، وهي هنا مستعارة لاستيعاب العلم بالمعلومات. قال العلماء: والهدهد لم يقنع بأخذ طرفٍ مِن الأخبار، وإنما ما زال ببلقيس وقومها حتى (أحاط) بأخبارهم، وفي هذا مِن الدقة والضبط ما لا يخفى" (انتهى).

وعدم الإحاطة بالأمور يُعد مِن أعظم الأسباب التي أدت بالشباب "بل وببعض الدعاة" للوقوع في أعراض العلماء والدعاة؛ لأنهم حكموا على أمورٍ لم يحيطوا بها، ونظروا إليها مِن زاوية واحدة، وبنوا أحكامهم على إثرها؛ ولذلك تجب الإحاطة أولًا، ثم الحكم على الأمور؛ ولهذا قال الهدهد: (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ).

ثالثًا: التسلح بالعلم، فإذا كان الهدهد كذلك؛ فبني الإنسان أولى بذلك، قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن سليمان لما توعد الهدهد بأن يعذبه عذابًا شديدًا أو يذبحه، إنما نجا منه بالعلم، وأقدم عليه في خطابه له بقوله: (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ)، وهذا الخطاب إنما جرأه عليه العلم؛ وإلا فالهدهد مع ضعفه لا يتمكن مِن خطابه لسليمان مع قوته بمثل هذا الخطاب؛ لولا سلطان العلم!).

وهكذا ارتفع الهدهد بالعلم، والعلم دائمًا يرفع صاحبه: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة:11)؛ ولهذا قال الربيع: "والله ما اجترأتُ أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ، هيبة له!"، وعن الفضيل قال: "عالم عامل بعلمه يُدعى كبيرًا في ملكوت السموات!".

ومِن الدروس الكثيرة والعظيمة في قصة الهدهد:

رابعًا: الإيجابية في المبادرة بإصلاح الناس ودعوتهم، واستنكاره لعبادتهم غير الله -عز وجل-؛ لأن بصلاحهم تصلح الدنيا والآخرة، وبعبادتهم لله يمكِّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم؛ ولذلك قال الله -تعالى- على لسان الهدهد: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ . اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).

خامسًا: تحمل المسئولية، والذهاب إلى اليمن منطلقًا مِن تحمله لمسئولياته، وإن كان غير مكلف، لكنه علم أنه مخلوق مِن مخلوقات الله -تعالى- يجب عليه الدعوة إليه، والتحدث عن هذا الرب العظيم، وذكر أفضاله ونعمه على الناس.

سادسًا: أمانة النقل عن القوم فلم يزد حرفًا أو يُنقص حرفًا، وهذا يحتاج إليه الكثير مِن الناس في زماننا المعاصِر؛ فكم مِن كلمةٍ قيلت بأحرف قليلة فصارت منشورًا أو مقالًا وربما كتابًا! وهذا بسبب عدم التورع في نقل الأخبار، ولهم نقول: "أما لكم في الهدهد أسوة حسنة؟!".

سابعًا: إيصال ما يريده بخطابٍ موجزٍ، وعدم التقعر في الحديث وقول ما لا يفيد، فقد ذكر الهدهد القصة كلها بإيجازٍ في كلماتٍ معدودة: (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ).

ثامنًا: التركيز على الأصول وأهمها التوحيد، وهذا أصل الأصول، وبه قامت السموات والأرض؛ فلا تمكين ولا عز، ولا نجاة إلا بالتوحيد، وهذا ما جاء به الأنبياء، وما أُنزلت به الكتب، وما كُلف به البشر، وقد علم الهدهد هذا؛ فأول ما أنكر عليهم هو إشراكهم بالله -تعالى-.

تاسعًا: اقتراح الحلول، وهو عبادة الله والسجود له، ومع إنكاره لشركهم وضع لهم الحلول، وهذا هو الداعية الناجح والعالم الرباني الذي يبيِّن الطريق ويوضح السبيل، فإن قال: لا تفعل كذا، لا بد أن يتبعه بقوله: وافعل كذا، وهذا ما فعله الهدهد، فلما بيَّن لهم خطأ الإشراك بالله دعاهم إلى توحيده (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ . أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ . اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).

وأخيرًا: الحديث عن الهدهد يطول؛ فكم مِن الفوائد تُستفاد منه، أما هو فقد أوعظ وأبلغ، والباقي علينا: أن نسمع، ونعمل لديننا وعقيدتنا، ولا أقل أن نكون مثل الهدهد!

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة