الثلاثاء، ٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

تأملات في حجة الوداع (5)

للأسف صارت أكثر شعوب المسلمين اليوم تقلد الغرب وتتشبه به، حتى في الضلالات والسخافات والفواحش!

تأملات في حجة الوداع (5)
ياسر برهامي
الخميس ١٦ أغسطس ٢٠١٨ - ١٩:٢٨ م
1350

تأملات في حجة الوداع (5)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "لَسْنَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ؛ لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ. حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ؛ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَام- فَقَرَأَ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى(البقرة:125)؛ فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ. فَكَانَ أَبِي يَقُولُ، وَلَا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ"، وَ"قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ".

إن مخالفة المشركين والتبرؤ منهم، وتحقيق الشعور بالشخصية المستقلة لدى المسلمين أمر في غاية الظهور في حجة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بل في شؤونه كلها.

كان المشركون في الجاهلية يرون أن العمرة في أشهر الحج مِن أفجر الفجور؛ فنزل القرآن بمخالفتهم، وجعل العمرة في أشهر الحج والبقاء إلى الحج بمكة متعة يستمتع المسلم بها، ويشكر ربه على هذه النعمة بالهدي، وهو على الصحيح هَدْي شُكْران لا هَدْي جُبْران، والتمتع أفضل المناسك، قال -تعالى-: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (البقرة:196).

وأجاز النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأصحابه في أول الإحرام أن مَن شاء أن يُحْرِم بحج فليُحْرِم، ومَن أراد أن يُحْرِم بعُمْرَةٍ فليُحْرِم، ومَن أراد أن يُحْرِم بحج وعمرة فليُحْرِم، وكانت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- ممن أهَلَّ -أي أحْرَم- بعُمْرَة، وكان هو -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أحْرَم بحج وعمرة قارنًا بينهما بأمر ربه -عَزَّ وَجَلَّ-؛ إذ أتاه جبريل ليلة الإحرام مِن ربه -عَزَّ وَجَلَّ- وقال له: (قُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ) (رواه البخاري)؛ لأنه كان قد ساق الهدي، وهذه العمرة هي لمخالفة المشركين في زعمهم الكاذب أن العمرة في أشهر الحج مِن أفجر الفجور!

ومخالفة الكفار وعدم التشبه بهم سمة أساسية للمسلم بأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في شعائر وشرائع وعبادات وعادات كثيرة جدًّا، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ومَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ) (رواه أحمد وأبو دود، وصححه الألباني).

وللأسف صارت أكثر شعوب المسلمين اليوم تقلد الغرب وتتشبه به، حتى في الضلالات والسخافات والفواحش! حتى يُقال على مسامعهم مِن بعض رؤسائهم أنه لا دخل لدولتنا بالدين والمرجعية الدينية ولا بالقرآن ولا بالآيات القرآنية؛ وذلك تمهيدًا لتشريع المساواة بيْن الذكر والأنثى في الميراث؛ هذا الكفر البواح، هو لتقليد الغرب والاستجابة لمطالبه، وكذا في ما يسمى بالحرية الجنسية وحقوق المثليين -زعموا- في أن تسن التشريعات التي تحفظ حقوقهم! نعوذ بالله، وغيرها مِن الضلالات والكفريات التي ربى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصحابه على النفور منها، والتبرؤ  منها، ورفضها ومحاربتها، بل ما دون ذلك بكثير.

وقد ورد الأمر عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بإعفاء اللحية مخالفةً للمشركين؛ فقال: (خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ؛ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَوْفُوا اللِّحَى) (رواه البخاري ومسلم واللفظ له)، وقال في دفن الموتى: (اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وقال في الصيام: (فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ) (رواه مسلم)، وفي عاشوراء قال: (لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ، لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ) (رواه مسلم)، مخالفةً لليهود.

ونهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها؛ لأنها ساعة يسجد فيها المشركون فيها للشمس، وهي (تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ) (متفق عليه)، وأمر أصحابه بفسخ الحج إلى عمرة إلا مَن كان قد ساق الهدي -كما في حديث مُسْلِم الذي معنا-؛ مخالفةً للمشركين، ورَمَل ثلاثًا ومشى أربعًا؛ تذكيرًا للمسلمين بإغاظة المشركين؛ فإن أول تشريع الرمل كان في عُمْرَة القَضِيَّة، فعن عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قال: "قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَقَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاَثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ" (متفق عليه)؛ وذلك أن المشركين جلسوا مما يلي الحجر، فكان ما بيْن الركنين لا يرون المسلمين فيه.

أما في حجة الوداع فقد رَمَل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِن الحجر الأسود إلى الحجر الأسود، أي في الطوفة كلها، الطوافات الثلاث الأولى؛ فقد صارت سُنَّة مستقلة، وقد استشكل عُمَر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ذلك بعد أن نفى الله الشرك وأهلَه، فعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يقول: "فِيمَ الرَّمَلَانُ الْيَوْمَ وَالْكَشْفُ عَنِ الْمَنَاكِبِ؛ وَقَدْ أَطَّأَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ؟ مَعَ ذَلِكَ، لَا نَدَعُ شَيْئًا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (رواه أبو داود وابن ماجه، وقال الألباني: حسن صحيح).

وبقيت سُنَّة الرَّمَل وسُنَّة الاضطباع، لتحيي في قلب المسلم قضية مخالفة المشركين وأهل الكفر وإغاظتهم، ولو بعد زوال السبب؛ لكي لا يتسلل إلينا هَوَان مداهنتهم ومشابهتهم وإرضائهم بحالٍ مِن الأحوال، قال -تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ) (التوبة:120)، والرَّمَل هو: الإسراع في المشي دون الجري مع تقارب الخطى، والاضطباع هو: كشف المنكب الأيمن، وإلقاء طرف الرداء على المنكب الأيسر؛ وهي هيئة تعين على الإسراع.

ومِن ضمن البراءة مِن الشرك وأهله: ما قرأه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِن سورة "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ" في الركعة الأولى من سُنَّة الطواف بعد الفاتحة، و"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" في الركعة الثانية؛ وذلك لأن سورة الكافرون براءة مِن الشرك، وهي تتضمن إقرارًا بالكفر لكل مَن خالَف دين الإسلام؛ فـ"لَكُمْ دِينُكُمْ"؛ فكل مِلَّة تخالف دين الإسلام يخاطَب أصحابها بـ"قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ"، و"وَلِيَ دِينِ"؛ ديني هو الإسلام لا دين سواه، ولا تصح عبادة أحد لله -عَزَّ وَجَلَّ- وهو يعبد غيره؛ فمن عَبَد غير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فإنه لم يعبد الله؛ لأن المقصود أن يعبده بالتوحيد، ففيها البراءة مِن الشرك وأهله، وكذلك "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ"، فيها إثبات صفة الكمال والوحدانية لله -عَزَّ وَجَلَّ-، فـ"اللَّهُ الصَّمَدُ"؛ الصَّمَدُ: السيد الذي قد كَمل في سؤدده العظيم، الذي قد كمل في عظمته، الحليم الذي قد كمل في حِلْمِه، العليم الذي قد كمل في عِلْمِه، الذي قد كمل في كل أنواع الكمال والتعظيم، وهو الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم.

وكذلك نفي أن يكون له والد أو ولد؛ إبطالًا لملل الكفر الذين يثبتون لله ولدًا أو يجعلونه مولودًا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا-، ثم ختمت بالآية الجامعة: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)؛ فهاتان السورتان تبينان للمسلمين دائمًا مفارقتهم لأهل الشرك والكفر.

أما استلام الحجر فقد فعله النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حَجّه وعمراته كلها، وقبَّله، وثبت أيضًا السجود عليه، وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (نَزَلَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وعنه مرفوعًا: (وَاللَّهِ لَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وهذا تذكير لنا بموطننا الأول الذي خرجنا منه بالخطيئة والمعصية، بالابتلاء والمِحْنَة، بحكمة العَلِيِّ القدير العزيز الحكيم، وما زالت نفوسنا تشتاق إلى بلادنا الأولى في الجَنَّة، وتَحِنُّ نفوسنا إلى أحجارها، ومِن رحمته -سبحانه- أن جعل لنا مِن مواطننا الأولى حجرًا تَرِقُّ قلوبنا وتدمع عيوننا شوقًا إلى الجنة، وندمًا على السيئات؛ ولذا كان استلامه يحط الخطايا حطًّا، ومَن عَجَز عن تقبيله استلَمه بيده أو بشيءٍ في يده، وقبَّل يده أو قَبَّل ذلك الشيء، عن أبي الطفيل قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ" (رواه مسلم)، والمحجن عصى ملتوية، ومَن عجز عن الاستلام أشار إليه، ولم يُقَبِّل يدَه.

ومع ذلك فالحجر الأسود، حجر لا يضر ولا ينفع، كما قال عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- للحَجَر بعد أن قَبَّله: "إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ" (رواه البخاري)؛ فليس عند المسلمين اعتقادات شركية في الأحجار، أو أنها تضر أو تنفع؛ بل الاتباع للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والشوق والحنين لوطننا الأول هو الدافع لذلك، مع كمال التوحيد لله -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَـحَيَّ عَـلَى جَنَّاتِ عَدنٍ فَإِنَّها             مَنَازِلُنَا الأولَى وَفِيها المُخَيَّـمُ

وَلكننَا سَبْيُ العَدُوِّ فَهلْ تـُرَى             نـَعُـودُ إِلَى أَوْطَـانِـنـَا وَنُسَلّـَمُ

وللحديث بقية إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة