الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (49) ثورة يزيد بن المهلب عام 102هـ

فقد كان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يتحسس أخبار ولاته ويراقبهم ويحاسبهم على تقصيرهم

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (49) ثورة يزيد بن المهلب عام 102هـ
زين العابدين كامل
السبت ٢٢ سبتمبر ٢٠١٨ - ١٧:٤٠ م
1229

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (49) ثورة يزيد بن المهلب عام 102هـ

كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ 

فهذه فتنة سياسية جديدة وثورة مسلحة وقعتْ أيضًا في أرض العراق في عصر الدولة الأموية، تبدأ فيها الأحداث بسبب خلاف وقع بيْن المهلّب والحجّاج بن يوسف، فذهب يزيد إلى عبد الملك فأمنّه، ثم لما أفضت الخلافة إلى سليمان بن عبد الملك سنة 96هـ عيَّن يزيد بن المهلب(1) على خراسان، فافتتح جرجان وداغستان، ثم رجع إلى العراق، فبلغه وفاة سليمان بن عبد الملك، وخلافة عمر بن عبد العزيز، فعزله عمر -رحمه الله- وأمر بالقبض عليه، ولما مثل يزيد بن المهلب بيْن يدي عمر، سأله عمر عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان بن عبد الملك. ثم قال له: "ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتقِ الله وأدِّ ما قبلك، فإنها حقوق المسلمين، ولا يسعني تركها"، ثم أمر بحبسه في السجن.

فقد كان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يتحسس أخبار ولاته ويراقبهم ويحاسبهم على تقصيرهم، ثم هرب يزيد مِن السجن في مرض عمر، وقد قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "اللهم إن كان يريد بهذه الأمّة شرّه، فاكفهم شّره، واردد كيده في نحره" (وفيات الأعيان لابن خلكان).

ولما تولى يزيد بن عبد الملك بن مروان الخلافة خرج يزيد بن المهلّب وخلع بيعته، واستولى على البصرة، فجهّز يزيد بن عبد الملك لقتاله جيشًا بقيادة أخيه مسلمة بن عبد الملك، وانتهى إليه مسلمة بن عبد الملك في جنودٍ لا قِبَل ليزيد بها، فجمع يزيد بن المهلّب جموعًا كبيرة، والتقى الطرفان بالعقر مِن أرض بابل، ودارت بينهما معركة رهيبة دامت ثمانية أيّام، فهزم أهل البصرة أهل الشام، ثم اشتد أهل الشام فحملوا على أهل البصرة فهزموهم وقتلوا منهم جماعة، وكان مع يزيد نحو مِن مائة ألف وعشرين ألفًا، وقد بايعوه على السمع والطاعة، وعلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى أن لا يطأ الجنود بلادهم، وعلى أن لا تعاد عليهم سيرة الفاسق الحجاج، ومَن بايعنا على ذلك قبلنا منه، ومَن خالفنا قاتلناه.

وكان الحسن البصري -رحمه الله- في هذه الأيام يحرِّض الناس على الكف وترك الدخول في الفتنة، وينهاهم أشد النهى، وذلك لما وقع مِن القتال الطويل العريض في أيام ابن الأشعث، وجعل الحسن يخطب الناس ويعظهم في ذلك، ويأمرهم بالكف، فبلغ ذلك نائب البصرة عبد الملك بن المهلب، فقام في الناس خطيبًا فأمرهم بالجد والجهاد، والنفر إلى القتال، ثم قال: "ولقد بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي- ولم يسمه- يثبط الناس، أما والله ليكفن عن ذلك أو لأفعلن ولأفعلن"، وتوعد الحسن، فلما بلغ الحسن قوله قال: "أما والله ما أكره أن يكرمني الله بهوانه، فسلمه الله منه".

ولما اشتد القتال فرَّ أهل العراق سريعًا، وبلغهم أن الجسر الذي جاءوا عليه حٌرق فانهزموا، فقال يزيد بن المهلب: "ما بال الناس ولم يكن مِن الأمر ما يفر مِن مثله؟!"، فقيل له: "إنه بلغهم أن الجسر الذي جاءوا عليه قد حٌرق. فقال: قبحهم الله".

وفي النهاية: قٌتل يزيد بن المهلب وعّدد مِن إخوته، وخلق كبير مِن جيشه، وتفرق سائر جيشه وأهل بيته فلوحقوا وقتلوا بكّل مكان، وكان ذلك سنة 102هـ" (تاريخ الرسل والملوك للطبري)، وجاءوا برأس يزيد إلى مسلمة بن عبد الملك، واستحوذ مسلمة على ما في معسكر يزيد بن المهلب، وأسر منهم نحوًا مِن ثلاثمائة، فبعث بهم إلى الكوفة، وبعث إلى أخيه فيهم، فجاء كتابه بقتلهم، ولما جاءت أخبار هزيمة ابن المهلب إلى ابنه معاوية وهو بواسط، عمد إلى نحو مِن ثلاثين أسيرًا في يده فقتلهم، منهم نائب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، عدي بن أرطاة -رحمه الله- وابنه، وجماعة مِن الأشراف (البداية والنهاية لابن كثير).

وقد أورد الذّهبي -رحمه الله- أن الحسن البصري -رحمه الله- قال في فتنة يزيد بن المهلب: "هذا عدو الله يزيد بن المهلب، كلما نعق بهم ناعق اتبّعوه". وفي رواية أخرى: "أنه دعا عليه بأن يصرعه الله، وذكر ما كان يفعل مِن انتهاك المحارم وقتل الأنفس، وأكل أموال الناس".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم، فهُزموا وهُزم أصحابهم، فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا!" (منهاج السُّنة).

وهكذا في أوقات الفتن تطيش العقول، ويسهل سفك الدماء، وتكثر المفاسد، وتعطل الثغور، ولا يثبت إلا أهل العلم والفقه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وُلد عام 53هـ في خلافة معاوية، ولي المشرق بعد أبيه، ثم ولي البصرة لسليمان بن عبد الملك، ثم عزله عمر بن عبد العزيز بعدي بن أرطاة، وطلبه عمر وسجنه، وكان الحجاج مزوجًا بأخته، وكان يدعو: "اللهم إن كان آل المهلب براء فلا تسلطني عليهم ونجهم"، وله أخبار في السخاء والشجاعة. قيل: هرب يزيد مِن الحبس فمرَّ بعُرَيْبٍ في البرية، فقال لغلامه: استسقنا منهم لبنًا فسقوه، فقال: أعطهم ألفًا! قال: إن هؤلاء لا يعرفونك، قال: لكني أعرف نفسي". قال شعبة بن الحجاج: "سمعتُ الحسن البصري يقول في فتنة يزيد بن المهلب: هذا عدو الله يزيد بن المهلب، كلما نعق بهم ناعق اتبعوه" (تاريخ دمشق لابن عساكر).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com