الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

تأملات في حجة الوداع (18)

فالتواجُد وسط المسلمين والشعور بمشاعرهم والتألم لآلامهم صفاتٌ أساسيةٌ في أي قائدٍ لمجموعةٍ فيهم

تأملات في حجة الوداع (18)
ياسر برهامي
الخميس ٢٢ نوفمبر ٢٠١٨ - ١٦:٥٧ م
983

تأملات في حجة الوداع (18)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في خطبة عرفة في حجة الوداع: (وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ)، وقوله: (وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) فيه: بيان صفة القيادة الحكيمة الرشيدة المُصلحة إصلاحًا حقيقيًّا: فالقائد الحقيقي هو الذي يبدأ بنفسه في الإصلاح ومقاومة الفساد وإبطاله ومنعه، وكذلك يبدأ بأهل بيته وأقاربه وحاشيته؛ فالقيادة في المسلمين ليستْ مجرد اتخاذ قراراتٍ مِن غرفٍ مغلقةٍ، ولا تلذذ بالسمع والطاعة مِن الناس -فضلًا عن قهرهم أو التجبر عليهم-، بل هي أسوة حسنة وقدوة صالحة.

يبدأ القائد بنفسه في المخاوف وتَحَمُّل الآلام والشدائد والصبر على المشاق، قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب:21)، وهكذا كان الخلفاء الراشدون، فعمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في عام المجاعة كان لا يشبع مِن الزيت حتى يجده المسلمون؛ فكان يواسيهم بنفسه وبماله، بل وربما حَمَل بنفسه على ظهره الدقيق إلى بيوت الأرامل واليتامى؛ ليُشْعِر نفسَه بالمسؤولية، رغم أن مولاه "أَسْلَم" كان معه، ولكن يريد أن يكون قدوة في خدمة الضعفاء والفقراء واليتامى والأرامل، وثبت أنهم عَدُّوا له عِدَّة رُقَعٍ في ثوبه، كما كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُرَقِّع ثوبَه ويَخْصِف نعله -أي: يُصلحه-، هذه الأمور التي اختفت مِن فقرائنا فضلًا عن أغنيائنا أو المتوسطين؛ لأن الأوضاع الاجتماعية صارت لا تسمح بذلك، وربما أوشكت مهنة خاصف النعال على الاختفاء.

وما كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليفعل ذلك إلا ليكون قدوةً لأُمَّتِه في البذل والنفقة والتَحَمُّل؛ رغم أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منذ أن فتح الله عليه بني النضير كان يَدَّخِر لأهل قُوتَ سَنَتِه، ومع ذلك كان يجود على المسلمين والسائلين مِن هذا القُوتِ حتى ينفذ قبْل السَّنَة، وقد أتاه رَجَلٌ مَجْهُودٌ مِن الفقر فقال: يا رسول الله إِنِّي مَجْهُودٌ؛ فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نعم"، ثم أرسل إلى بيوت أزواجه التسع <وهذا يدل على أن ذلك كان متأخرًا، بعد زواج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِن نسائه التسع>، فترسل كل واحدة منهن: "وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلا المَاءُ"؛ فيبحث -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عمن يُضَيِّف الرجلَ المجهود؛ فيأخذه أبو طلحة إلى بيته، فيعَشِّيه على طعام الصبيان، بعد أن أمر امرأته "أم سليم" -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أن تُنَوِّم الصبيان وتُطفئ السراج حتى يأكل الضيف، ويبيتا طَاوِيَيْن! (متفق عليه)؛ وما حدث ذلك إلا لأنهم رَأوا القدوة الحسنة العظيمة في رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد مات -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- <بعد أن فتح الله عليه خيبر، وفتح عليه مكة المكرمة، والجزيرة العربية كلها> ودِرْعُه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من طعام.

ولما سمع أهل المدينة صوتًا أفزعهم فخرجوا لاستطلاع الأمر؛ فإذا هم برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ، فِي عُنُقِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَيْفٌ، عائدًا مِن مصدر الصوت -قد سبقهم جميعًا- وهو يقول لهم: (لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا)، ثم يقول عن الفرس: (لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْرًا)، أَوْ: (إِنَّهُ لَبَحْرٌ) <أي: سريع الجري>. (متفق عليه).

وكان مِن أشجع الناس -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فقد كان يدير المعارك مِن أرض المعركة، وكان أصحابه إذا اشتد بهم البأس أثناء القتال يجتمعون برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويجتمعون حوله، وجُرِح -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في وجهه، وكسرت رباعيته في غزوة أُحُد.

وكذلك كان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعود مرضاهم، ويحضر جنائزهم، حتى الفقراء منهم، ولو فاتته جنازة أحد منهم يتحَرَّى أن يُصَلِّي عليه في قبره، كما فعل مع المرأة السوداء التي كانت تقم -أي: تكنس- المسجد؛ فسأل عن قبرها، فلما أروه إياه صَفَّهُم خلفَه ثم صَلَّى عليها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلاة الجنازة.

فالتواجُد وسط المسلمين والشعور بمشاعرهم والتألم لآلامهم صفاتٌ أساسيةٌ في أي قائدٍ لمجموعةٍ فيهم، ولو كان إمام المسجد، أو عريف مجموعة، أو نقيب عائلة أو قبيلة أو طائفة أو جماعة، أو مسؤولًا عن أي عمل مِن الأعمال العامة، فضلًا عن الأمير العام والقائد العسكري، وما عانَت أُمَّتُنا منذ قرون إلا لَمَّا صارت الإمارة مغنمًا ومُلْكًا يُتقاتل عليه، وإلا عندما ضعفت روح المسؤولية -أي: أن الإنسان سيسأل أمام الله عَزَّ وَجَلَّ- وتَحَمُّل الأمانة، وتأخرت روح الإيثار والبدء بالنفس والأهل في الإصلاح ومنع الفساد، وما أروع موقف عمر بن عبد العزيز -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في جهوده العظيمة في رَدِّ أموالِ أقارِبِه مِن بني أمية إلى بيت المال التي رأى أنهم أخذوها بغير حَقٍّ، وقد بذل ما استطاع، وما قدر على أن يرد كل شيء، ولكن صار مُلْحَقًا بالخلفاء الراشدين مِن أجل علمه وعدله الذي يُضرب به المثل، رغم قِصر مُدَّة إمارتِه التي كانت في حدود السنتين.

وفي الحديث إبطال الربا: أي: رد الزيادة عن أصل رأس المال، كما قال تعالى: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (البقرة:279)، وفي هذا الدليل الواضح على أن مال الربا لا يَملكه المُرابِي ولو بعد توبته، وإن كان في يده، بل يَجب عليه أن يَرُدَّه إلى مَن أخَذَه منه؛ فإن جهله أو عجز عن الوصول إليه، أو مات ولم يُعرف وارثه؛ رُدَّ إلى بيت المال، ليكون صدقة عن صاحبه الحقيقي، يُتَصَدَّق به عنه في مصالح المسلمين، وإذا لم يوجد بيت مالٍ فإنه يتولى إنفاقه مَن تاب مِن الربا أو مَن يوكله في المصالح العامة نيابة عن صاحِبِه، لا عن نفسه؛ فإنه إن كان عن نفسه كان حرامًا خبيثًا غير طيب؛ فلا يُقبل، ولكن إذا كان بنية الوكالة وتَصَرُّف الفُضُولِيِّ عن صاحبه المجهول كان حلالًا.

ويَصِحُّ التصرف فيه في إطعام الفقراء وبناء المساجد وكسوة العاري المحتاج، وجميع المصالح، وليس كما يظن البعض أنه لابد وأن يُنفق في دورات المياه والمجاري، ونحو ذلك، فإنه ليس بصفة الحرام إذا أنفقه نيابة عن صاحبه المجهول، وكذا في جميع الأموال المُحَرَّمة التي لم يُعرف صاحبها، كما فعل ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عندما لَمْ يَجِد مالكَ الجارية التي اشتراها منه ودخل ليُحْضِر له الثمن فخرج فلم يجده، وبَحَثَ عنه فلم يجده، فجعل يتصدق بالثمن ويقول: "اللهم عن رب الجارية؛ فإن رضي فهي له -أي: الصدقة-، وإن لم يرضَ فله عَلَيَّ ثمنها ولي الصدقة" أو نحو هذا الكلام.

والأصل في هذا: صحة تصرف الفضولي، ويتأكد وجوب ذلك إذا عجز عن معرفة صاحب المال، وبالتالي لا يستطيع معرفة رضاه، ولكن يوم القيامة لا شك أنه سيكون أسعد بالصدقة وثوابها منه بالمال الذي فُقد منه.

وكذلك مال الربا ونحوه مِن المكاسب المُحَرَّمة، كثمن الخمر والمخدرات ولعب القمار، لا يورث؛ لأنه لم يملكه المُورث حتى يَرِثه وَرَثَتُه، وطالما علموا مصدر المال الحرام وجب عليهم أن يردوه إلى صاحبه، أو يُنفق في مصالح المسلمين، ومنها الصدقات، لا عن أنفسهم؛ بل عن المالك الأصلي إذا لم يعلموه، فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يعلمه.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة