الثلاثاء، ٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

تأملات في حجة الوداع (24)

فَـحَيَّهَلًا إِنْ كُنْتَ ذَا هِمَّـةٍ فَـقَـدْ حَـدَا بـِكَ حَـادِي الشّـَوْقِ فَاطْـوِ الْمَرَاحِلَا

تأملات في حجة الوداع (24)
ياسر برهامي
الخميس ٠٣ يناير ٢٠١٩ - ٢٢:١٠ م
1071

تأملات في حجة الوداع (24)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، وَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ. ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ" (رواه مسلم).

في هذا الجزء مِن الحديث أن المبيت بالمزدلفة ليلة النحر بعد الدفع مِن عرفة نُسُكٌ مِن مناسك الحج، قال الله -تعالى-: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) (البقرة:198)، وقد ذكر الله هذا النُّسُك بلفظ الذِّكر ولم يذكره بلفظ المبيت الذي اعتاد العلماء على استعماله؛ وهذا يبيِّن لنا حكمة شرع هذه المناسك.

والأصل في الذِّكْر ذِكْر القلب، والتعبير عنه باللسان؛ فليجعل الحاج غايته في هذه المناسك حضور قلبه وانكساره لله -عَزَّ وَجَلَّ-؛ خاصة أنه يبيت في مكان غير مُهَيَّأ؛ ينام على التراب والحصى، وعلى قارعة الطريق، دون فراش مُعَدٍّ ولا مِهَادٍ لَيِّنٍ، مع أن أكثر الناس ينفرون مِن ذلك ويَستَصعِبُونه، ويبحثون عن رخص المذاهب للانتهاء منه سريعًا؛ إلا أنه مِن أعظم حقائق العبودية أن ينتقل الإنسان مِن مكانٍ إلى مكانٍ ينزل حيث أُمر، ويتحرك حيث أُمر، حيث سَنَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبيَّن، ويظهر انقياده وتضحيته بعاداته ونومه وطعامه وشرابه ولباسه؛ فهو عبدٌ لله لا للعادات، ولا للطعام ولا الشراب والهيئة؛ ولذا كان مَن يلتزم بهذا النُّسُك العظيم -الذي ذَكَرَه الله في كتابه مقترنًا بالوقوف بعرفة تعظيمًا لشأنه- يَجِدُ لَذَّةً وقُربًا لا يجدها في غير هذا المكان، ولا يَجِدُها مَن وَجَد ثِقَلًا في النزول بمزدلفة أو تَرَخَّصَ الرُّخَص غير التي دَلَّت عليها سُنَّة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وما أحسن الأبيات التي ذكرها ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- في وصف هذه اللحظات وما تكتنفه مِن حُبٍّ وشَوقٍ؛ قال -رَحِمَهُ اللهُ-:

فَـحَيَّهَلًا إِنْ كُنْتَ ذَا هِمَّـةٍ فَـقَـدْ حَـدَا                 بـِكَ حَـادِي الشّـَوْقِ فَاطْـوِ الْمَرَاحِلَا

وَقـُـلْ لِـمُـنَـادِي حُـبّـِهِـم وَرِضــَاهُـمُ                 إِذَا مـَا دَعـَا لَـبّـَيْــكَ أَلْـفًـا كَــوَامـِلَا

وَلَا تـَنْـظُرِ الْأَطـلَالَ مِـن دُونِهِم فَإِنْ                 نَـظـَرْتَ إِلَى الْأَطْلَالِ عُـدْنَ حَـوَائِـلَا

وَلَا تَـنْتـَـظِرْ بِالـسَّـيْرِ رُفـْقَـةَ قــَاعِـدٍ                 وَدَعْـهُ فَـإِنَّ الشـَّـوْقَ يَكْفِيكَ حَـامـِلَا

وَخُذْ مِنْهُـمُ زَادًا إِلَـيْهِم وَسِـرْ عَـلـَى                 طَرِيقِ الْهُدَى وَالْفَقْرِ تُصْبِحُ وَاصِلَا

وَأَحْـيِ بِـذِكْـرَاهُـم سُـرَاكَ إِذَا وَنَــتْ                 رِكَـابُـكَ فَـالـذِّكْـرَى تـُعِـيــدُكَ عَامِلَا

وَإِمَّـا تــَخـَـافَــنَّ الْـكَـلَالَ فَقـُـلْ لـَهَـا                 أَمَامُكِ وِرْدُ الْوَصْلِ فَابْغِ الْمَنَاهِـلَا

وَخـُذْ قَبَسًا مِنْ نُورِهِمْ ثُمَّ سِرْ بِـهِ                    فَـنُـورُهُـمُ يَهْـدِيكَ لَـيْسَ الْمَشَاعِلَا

وَحَــيّ عَـلَى وَادِ الْأَرَاكَ فـَقِـلْ بِــهِ                   عَـسَـاكَ تَرَاهُمْ فِيهِ إِنْ كُنْتَ قَـائِـلَا

وَإِلَّا فـَفِي نُـعْـمـَانَ عِـنْـدَ مُــعَــرِّفِ                  الأَحِبَّةِ(1) فَاطْـلُبْهُمْ إِذَا كُنْتَ سَائِلَا

وَإِلَّا فَفِي جَمْعٍ بِلَيْلَتِهِ(2) فَإِنْ تَـفُـتْ                   فَـمَـتَى؟ يَـا وَيـْحَ مـَنْ كَـانَ غَـافِـلَا

وَحَـيَّ عَـلَـى جَـنَّـاتِ عَـدْنٍ بِـقُـرْبِـهِـم               مـَنَـازِلُـكَ الْأُولَـى بِهَـا كُــنْــتَ نَـازِلًا

وَلَــكِـنْ سَــبَـاكَ الْكَـاشِحُـونَ لِأَجْـلِ ذَا               وَقَفْتَ عَلَى الْأَطْلَالِ تَبْكِي الْـمَـنَـازِلَا

فَـدَعْـهـَا رُسـُـومًا دَارِسَـاتٍ فَـمـَا بِهَـا               مـَقـِيـلٌ فَـجَـاوِزْهَــا فَـلَـيْـسَتْ مَنَازِلَا

رُسُومٌ عَفَتْ يَفْنَى بِهَا الْخَلْقُ كَـمْ بِهَـا               قـَـتِيلٌ وَكَمْ فـِيهـَا لِـذَا الْخـُلـُقِ قَاتِــلَا

وَخُذْ يَمْنَةً عَنْهَا عَلَى الْمـَنْهَجِ الَّـــذِي               عـَلَـيْـهِ سـَـرَى وَفـْدُ الْـمَحَبَّـةِ آهِــلَا

وَقُلْ سَاعِدِي يَا نَفْسُ بِالصَّبْرِ سَاعـَةً               فـَعِـنـْدَ اللُّقَّا ذَا الْـكـَـدِّ يُـصْبِـحُ زَائـِلَا

فـَمَـا هِـيَ إِلَّا سَـاعَـةٌ ثــُمَّ تـَـنْـقَـضِي                وَيُـصْبـِحُ ذُو الْأَحْزَانِ فَرْحَانَ جَاذِلَا

قال النووي -رَحِمَهُ اللهُ-: "فِي هَذَا الْفَصْلِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: أَنَّ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ بَعْدَ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ نُسُكٌ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ رُكْنٌ أَمْ سُنَّةٌ؟ وَالصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ وَاجِبٌ لَوْ تَرَكَهُ أَثِمَ وَصَحَّ حَجُّهُ وَلَزِمَهُ دَمٌ، وَالثَّانِي أَنَّهُ سُنَّةٌ لَا إِثْمَ فِي تَرْكِهِ وَلَا يَجِبُ فِيهِ دَمٌ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا هُوَ رُكْنٌ لَا يَصِحُّ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ كَالْوُقُوفِ بعرفات، قالَه مِن أصحابنا ابن بِنْتِ الشَّافِعِيِّ وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَقَالَهُ خَمْسَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ وَهُمْ عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ" (شرح النووي على مسلم، 8/ 188).

وهذا يدلنا على خطر التفريط في المبيت بمزدلفة؛ إذ لا أَقَلَّ مِن الوجوب، والقول بالركنية قولٌ فيه اجتهاد؛ فلا يصح أن نُفَرِّط في هذا الأمر أو نضيعه ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا.

وروى أبو داود والنسائي وغيرهم وصححه ابن حبان والدارقطني والحاكم عن عروة بن مضرس قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِجَمْعٍ -أي: مُزْدَلِفَة-، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فقَدْ أَنْضَيْتُ رَاحِلَتِي؛ فَقَالَ: (مَنْ صَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَقَدْ وَقَفَ مَعَنَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ)، وخَالَف في هذا الحديث مُطَرِّف، فقال: "مَنْ أَدْرَكَ جَمْعًا مَعَ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ حَتَّى يُفِيضُوا فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ مَعَ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ فَلَمْ يُدْرِكْ" (رواه النسائي)، وأكثر أهل العلم على شذوذ هذه الرواية، احتج بهذا الحديث مَن يقول برُكْنِيَّة الوقوف بمزدلفة؛ لأنه سوَّى بينه وبيْن عرفة، واحتج به أيضًا مَن يقول بسُنِّيَّتِه؛ لأن وقت الوقوف بعَرَفَة ممتدٌ إلى آخر لحظة مِن ليلة النحر، والحديث يَدل عليه؛ لقوله في رواية: "وكان قد وَقَف قبل ذلك بعَرَفَة بليلٍ أو نهارٍ"؛ فهو يمكنه أن يكون آخر لحظة مِن الليل قبْل طلوع الفجر بعَرَفَة ويطلع عليه الفجر وهو بها فلم يُدرك شيئًا مِن ليلة جَمْعٍ والمبيت بها؛ فدَلَّ على سُنِّيَّتِها، والصحيح أن هذا الاستدلال ليس صحيحًا؛ لأن الحديث اشتَرَط أن يدرك جَمْعًا -أي مزدلفة- ولو كان بعد الفجر؛ فمَن أدرك المزدلفة قبْل طلوع الشمس فقد تم حجة وقضى تفثه، وذلك بشرط أن يؤدي بقية الأركان بعد ذلك كطواف الإفاضة والسعي والحلق أو التقصير، وإنما سئل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أركان الحج وهو بمزدلفة فلم يتعرض لما بعد ذلك.

فوقت الوقوف بمزدلفة مِن بعد غروب الشمس مِن يوم عرفة إلى طلوع الشمس مِن يوم النحر، وإن كان يجب على غير النساء والضعفة أن يمدوا وقوفهم إلى الفجر؛ لأنه رُخص لهم ولم يرخص لغيرهم، وحديث أسماء في صحيح مسلم أنه لما غاب القمر دَفَعَت فوقَفَت بمزدلفة، فوقفت عند المشعر الحرام ودَعَت، ثم دفعت إلى منى، فقالت: "إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَذِنَ لِلظُّعُنِ" -أي: للنساء-، تعني: في الانصراف عن مزدلفة بالليل، وغياب القمر يكون عند نحوٍ من ثلث الليل الأخير أو ربعه على حسب أوقات السَّنَة.

روى البخاري وغيره عن ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "أنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ"، وروى أيضًا في كتاب الحج في "بَاب مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِلَيْلٍ فَيَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَدْعُونَ وَيُقَدِّمُ إِذَا غَابَ الْقَمَرُ": عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوْا الْجَمْرَةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: "أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"، وهذا الحديث يَدُلُّ على أنه ليس لغير هؤلاء الانصراف قبْل الفجر.

وقد كَثُر انصراف المجموعات من الحُجَّاج كُلِّها -ضَعَفَةً وأقوياء، ذُكُورًا وإناثًا- قبْل الفجر مِن مزدلفة، تبعًا لبرامج حَجِّهِم، وأرى أن الرجال الأقوياء ليسوا معذورين ولا يجوز لهم الانصراف قبْل الفجر، ولو تَرَكُوا المجموعة؛ فلا يُخاف على هؤلاء الضياع ولا العجز لمَن أراد اتباع السُنَّة الواجبة؛ وكذا كَثُر من العُمَّال الذين يعملون في المناسك -كمن يعملون في المجازر- الانصراف قبْل الفجر، والرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُرَخِّص للرُّعَاة ولا للسُّقَاة في الانصراف من مزدلفة، وإنما رَخَّصَ للنساء والضَّعَفَة، ورَخَّصَ للرُّعَاة والسُّقَاة في ترك المبيت بمنى، ولا نَعلم حديثًا واحدًا في الإذن للسُّقَاة والرُّعَاة بالانصراف مِن مزدلفة؛ فلا يجوز الانصراف للعمال قبل الفجر؛ بل يُمكِنهم أن يبقوا في مزدلفة في طَرفها الذي قِبَل وادي مُحَسِّر ومنى؛ فإذا طلع الفجر صَلّوا وانصرفوا إلى عَمَلِهم.

وفي قوله: "ثم اضطجع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" دليلٌ على أنه لا يشرع قيام تلك الليلة، وذلك ليتقوى على أعمال يوم النحر، ولا يعني ذلك ترك الوتر -كما يظنه البعض-؛ فإن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يَثبت عنه ترك الوتر أبدًا في حَضَرٍ أو سَفَر.

وقوله: "وَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ" فيه: أن صلاة الفجر لا بُدَّ أن تكون بعد أن يتبين الصبح؛ ولذا يجب الحَذَر مِن صلاتها قبل وقتها بسبب الحسابات الخاطئة لتوقيت الفجر مع تعجُّل الناس، ورُكْنِيَّة الصلاة أعظم من رُكْنِيَّة الحج كله؛ فليحذر المسلمون مِن تضييع الصلاة بصلاتها قبْل وقتها في الحج وغيره، ولينتبه رُكَّاب الطائرات التي تُقْلِع قبل الفجر وتصل بعد الشروق -أو قبله بحيث لا يتمكنون من صلاة الفجر قبل شروق الشمس-؛ فيلزمهم إما أن يُصَلُّوها في الطائرة قيامًا بركوع وسجود وفي اتجاه القبلة -ولو في ممرات الطائرة- ولا يعبأوا بمَن يمنعهم؛ فإن عَجَزوا صَلّوا قاعدين وبالإيماء والانحناء أو فليتركوا ركوب هذه الطائرات ويقاطعوها، حتى تُغَيِّر الشركات مواعيدها كي لا تضيع صلاة الفجر.

وقوله: "ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ".

قال النووي -رحمه الله-: "وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: قُزَحُ -يقصد المشعر الحرام-، وَهُوَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ فِي الْمُزْدَلِفَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةُ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ هُوَ قُزَحُ، وَقَالَ جَمَاهِيرُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ السِّيَرِ وَالْحَدِيثِ: الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ جَمِيعُ الْمُزْدَلِفَةِ" (شرح النووي على مسلم، 8/ 189)، وجبل قُزَحُ هو الجبل المجاور لمسجد المشعر الحرام الذي بني هناك على جزءٍ منه وبقي منه جزء آخر على يسار المسجد -إذا كان الإنسان متجهًا إلى تجاه القبلة- يمكن صعوده إلى الآن، وإن وقف في أي مكان من مزدلفة فقد صح وقوفه؛ لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ) (رواه مسلم).

وهذا الوقت وقت ذكر ودعاء، وتهليل وتكبير وتوحيد، كما فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ويستحب أن يظل واقفًا حتى ينتشر ضوء الفجر قبل طلوع الشمس ويحصل الإسفار جدًّا، كما ذكر في الحديث، ويستحب أن يدفع قبْل أن تطلع الشمس؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أراد بذلك مخالفة المشركين، الذين كانوا لا يدفعون مِن مزدلفة -التي كانوا يقفون بها بدلًا مِن الوقوف بعَرَفَة وهذا خاص بقريش- وكانوا يدفعون بعد شروق الشمس، ويَقُولُونَ: "أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرُ" -يعنون: طلعت الشمس مِن فوق جبل ثبير هناك، لكي ينفروا إلى منى-؛ فخالَفَهم النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدَفَع قبل أن تطلع الشمس.

كما حرص -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على مخالفة المشركين في معظم المناسك، في كل ما يختص بهم:

فخَالَفَهم في الاعتمار في أشهر الحج.

وخَالَفَهم في التلبية؛ فأهَلَّ بالتوحيد، وكانوا يُهِلُّون بالشرك -يقولون فيها-: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، مَلَكْتَهُ وما مَلَك"، وكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأ في الركعتين في سُنَّة الطَّوَافِ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، و(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)؛ مُخَالَفَةً للمشركين في عقائدهم.  

وخَالَفَهُم في الوقوف بمزدلفة؛ فلم يقف بها يوم عَرَفة -وجاوَزَها إلى عَرَفَة- ولم يقف بها إلا بعد الدَّفْعِ من عَرَفَة ليلة النحر.

وخَالَفَهُم في الدفع مِن مزدلفة؛ فدفع قبل شروق الشمس -وقد كانوا يدفعون بعد شروق الشمس-؛ والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قد حرص أَتَمَّ الحرص على أن تكون للمسلمين شخصيتهم المستقلة التي لا يُشَابِهُون فيها المشركين في شيءٍ مِن عباداتهم ولا عاداتهم ولا معاملاتهم، وقد قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

نسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يحفظ المسلمين مِن كل سوءٍ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يعني: عَرَفَة.

(2) يعني: بمزدلفة.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة