الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

القدوة المفقودة! (2)

إن غياب القدوة الصالحة يفتح باب الشيطان ليشكك في صدق المنهج كله

القدوة المفقودة! (2)
صلاح عبد المعبود
السبت ٠٢ فبراير ٢٠١٩ - ١٦:٢٨ م
788

القدوة المفقودة! (2)

كتبه/ صلاح عبد المعبود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ 

فالناظر في سيرة نبي الأمة، الداعي الأول -صلى الله عليه وسلم-؛ ليجد أنه لُقب قبْل البعثة بالصادق الأمين؛ فهل بعد الصدق والأمانة إذا توفرتا في شخصٍ أن يكذب على الله أو يخون قومه، ويدلس عليهم؟!

فكان مِن دواعي الثقة عند ذوي الفطرة السليمة والعقول الناضجة صدق الداعي وأمانته، وسلوكه وخلقه العظيم الذي تحلى به، وكان طبيعة فيه وميزة في أحواله ومعاملاته كلها مع العام والخاص، وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَفْزَعُ لَهُ أَهْلُ النَّارِ فَيَجْتَمِعُونَ لَهُ فَيَقُولُونَ لَهُ: يَا فُلَانُ، مَا لَقِيتَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: بَلَى، كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَا أَنْتَهِي) (متفق عليه).

فكانت عقوبته شديدة وعاقبته مريرة؛ لأنه دلَّ الناس على الخير، فمنهم مَن استقام وفاز بالجنة، ومنهم مَن أصم أذنيه وأعمى بصره فدخل النار، رغم أنه كان سببًا في نجاة غيره، ولكنه لم ينتفع هو بعلمه، فكان بمثابة النار التي تأكل نفسها لتضيء لغيرها، وتلك هي خسارة الدنيا والآخرة، أن يخرج الإنسان بغير زاد رغم معرفته وعلمه الذي آتاه الله إياه.

وما أجمل ما ذكره ابن القيم -رحمه الله- في كتابه: "الفوائد"، وهو يصف هذا الصنف الخبيث مِن الدعاة حيث قال: "علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقًّا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع طرق!".

وكم مِن عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها، ويعلن غيرها مِن أباطيل وأضاليل، فيستخدم علمه في التحريفات المقصودة والفتاوى الزائفة، إنهم صنف خبيث مِن الدعاة، مِن جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، يفتون الناس بغير الحق، ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا.

والملاحظ في هذه الأيام هو افتقاد القدوة الصالحة مِن بعض مَن تصدوا للدعوة، فكانوا حجر عثرة في سبيل السالكين والمجدين.

وأثمر ذلك خطرين شديدين:

الأول: الانفصام الخطير في عقول العامة بين العلم المطبوع في الكتب والمسموع مِن ألسنة العلماء، وبين العمل والتطبيق في واقع الحياة ودنيا الناس، فقد حدثت فجوة هائلة بين العلم والعمل.

الثاني: فقدان الثقة بأهل الصدارة والعلماء؛ نتيجة لزلات بعضهم الفاضحة، وزلة العالم بلاء متعدٍ ضرره إلى الأمة بأسرها، ومركز السلامة في دائرة الأمن بالنسبة للأمة هي ثقتها بعلمائها، فهم قادتها وأولو الأمر فيها، فكثير مِن الدعاة -إلا ما رحم ربي- يدعو الناس إلى احتقار الدنيا والزهد فيها وهم أول الناس مسارعة إليها وحرصًا عليها، ومنهم مَن ينهى عن الغيبة والنميمة وتجريح الأشخاص وغض الطرف عن مساوئهم والنظر إلى محاسنهم ثم هم يترصدون الأخطاء لبعضهم ويتصيدون الزلات، ويفضحونها ولا يسترونها حرصًا على وحدة المسلمين واجتماع كلمتهم، هذا فضلًا عن إظهار الشماتة بمَن ابتُلي أو أصابه الضر في نفسه أو ماله أو ولده.

ومنهم مَن يُرّغبون الناس في الورع والبُعد عن الشبهات والزهد في فضول الحلال خشية الوقوع في الحرام، ثم هم يحومون حول الشبهات، ويحرصون على المنصب والجاه بأي وسيلة وأي طريق!

وتلك الصور المؤسفة -وكثير غيرها- هي أعراض لمرض القلب ونقص الإيمان، وقلة التقوى، وأصحابها أنفسهم في حاجة إلى علاجٍ كي يبرأوا منها، فإن صورتهم تدعو إلى السخرية مِن أناسٍ يدعون إلى الفضيلة والزهد وهم يعانون مِن التخمة، ويجمعون الأموال ويشيدون البنيان، ورحم الله سلف الأمة حيث قلَّ كلامهم وكثرت أعمالهم، وكانت طرائقهم وسيرهم غرة في جبين الدهر لكل سالك طريق الآخرة، فكانوا كالنجوم التي يُقتدى بها في دياجير الظلام وأستار الليل.

إن لسان الحال أبلغ وأصدق مِن لسان المقال، والصحابة لم يكونوا على معرفةٍ كاملةٍ بلغة البلاد التي فتحوها، ولكنهم خرجوا إليهم بلغة العمل، وهذه اللغة يفهمها جميع الناس وهي أقصر الطرق إلى الإقناع والتصديق فرأى الناس منهم الصدق والأمانة في المعاملة، والهمة العالية والنشاط في العبادة والطاعة، فتأثرت قلوبهم ودخلوا في دين الله أفواجًا.

يستطيع فرد أن يغير أمة منحلة بالدعوة والقدوة، ولا تستطيع أمة كاملة عابدة أن تغير فاسدًا واحدًا بمجرد العبادة، فمناط التغيير هو الدعوة، ولابد للداعي أن يكون قدوة صالحة، فالناس ينظرون إلى المنهج الذي يدعو إليه هل هو واقع حي مطبق في حياته أم هو مجرد دعوى يدعيها باللسان؟!

فإذا رأوه يصدق قوله فعله انقادوا إليه بحبٍّ وولاءٍ، وآمنوا عن يقين صادق بما يدعو إليه، بل ويصبحوا هم كذلك دعاة إلى منهج الحق، فلا يكتفون بتطبيق المنهج على أنفسهم وإنما يصبحون دعاة لغيرهم؛ وبذلك ينتشر الحق والخير، والبداية كانت هي القدوة الحسنة التي صلحت في نفسها واجتهدت لإصلاح غيرها، قال -تعالى-: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (البقرة:44).

إن غياب القدوة الصالحة يفتح باب الشيطان ليشكك في صدق المنهج كله، ويسمح بالدخول إلى العقول ليفسدها ويغرس فيها الوهم والظن والشك، ويسقيها بالسم الرعاف، ويقلب فيها جميع القيم والموازين لتخرج مِن كل هذا التخبط بنتيجةٍ واحدةٍ، وهي أن هناك كلامًا يُقال، وحقائق مسطورة في بطون الكتب، وواقعًا يختلف مع هذه الحقائق وتلك القيم، وهذه النتيجة المرة تموت في مهدها بوجود القدوة الصالحة، فهل نعود إلى كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-؛ نتمسك بهما ونسير على هديهما فتطابق أقوالنا أفعالنا، ونكون دعاة إلى ديننا بعقيدتنا وسلوكنا؟!

ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com