الثلاثاء، ٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الفساد (7)

دور المجتمع في مكافحة الفساد

الفساد (7)
علاء بكر
الثلاثاء ٠٩ أبريل ٢٠١٩ - ١٧:٥٨ م
765

الفساد (7)

دور المجتمع في مكافحة الفساد

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد جاء الإسلام بمحاربة الفساد والتنفير منه، والحث على العمل الجاد؛ لاجتثاثه مِن جذوره، والقرآن الكريم مملوء بالآيات المتنوعة في بيان ذلك.

ومنها الآيات الدالة على عدم محبة الله -تعالى- للفساد:

قال الله -تعالى-: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة:205)، وقال -تعالى-: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة:64)، وقال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس:81)، وقال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:77).

الآيات في النهي عن الفساد:

قال -تعالى-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) (البقرة:11-12)، وقال -تعالى-: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف:56)، وقال -تعالى- على لسان شعيب إلى قومه: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) (الأعراف:85)، وقال -تعالى- على لسان صالح -عليه السلام- لقومه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ . وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ . الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) (الشعراء:150-152)، وقال -تعالى- في نصح قوم قارون لقارون: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:77)، وقال -تعالى-: (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (البقرة:60)، (الأعراف:74)، (هود:85)، (الشعراء:183)، (العنكبوت:36).

الآيات في ذم المفسدين:

ومنها قوله -تعالى-: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة:27).

الآيات في توعد المفسدين:

قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد:25)، وقال -تعالى- لأهل مدين على لسان شعيب -عليه السلام-: (وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (الأعراف:86)، وقال -تعالى- في قصة فرعون: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (الأعراف:103)، وقال: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل:14)، وقال -تعالى-: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) (النحل:88).

وفي الحث على الإصلاح والابتعاد عن الفساد:

قال الله -تعالى-: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ . وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود:116-117)، وقال -تعالى-: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83).

مِن مهام الأمة: (محاربة الفساد):

جعل الله -تعالى- مِن مهام رسله إلى جانب الدعوة إلى التوحيد: الدعوة إلى الإصلاح والنهي عن الفساد، قال الله -سبحانه وتعالى- عن رسوله: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) (الأعراف:157).

وبعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- صارت الأمة ككل مكلفة بهذه المهمة؛ إذ لا نبي بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران:110)، فخيرية الأمة إنما هو لقيامها بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بأعباء هذه الوظيفة مِن صفات أهل الإيمان، قال -تعالى-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (التوبة:71).

وهذا الدور ينبغي على المسلم أن يقوم به مِن جهتين:

أ- جهة فردية: فيقوم بذلك بصفته مخاطبًا به بصفته الفردية، ففي الحديث المرفوع: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) (رواه مسلم)، والحديث صريح في تحميل الفرد مسئولية إزالة الفساد مِن حوله، ويجعله في حالة استعداد للإصلاح وإزالة الفساد؛ إذ جعل أقل أحوال العبد عند العجز عن إزالة المنكر باليد أو اللسان أن يكون كارهًا له بقلبه، يتمنى وجود القوة على تغييره باليد أو اللسان.

قال الإمام النووي -رحمه الله-: "فبقلبه معناه: فليكرهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمنكر، ولكنه هو الذي في وسعه" (شرح النووي على مسلم)، فكراهية المنكر بالقلب عند العجز عن إزالته باليد واللسان مقدمة للتغيير، وإعداد وتهيئة للنفس للتغيير الفعلي عند القدرة، فكراهية الشيء مقدمة لإزالته وسابقة لتغييره، فجاز إطلاق اسم التغيير على كراهية القلب للمنكر بهذا الاعتبار.

ب- جهة جماعية: فيشارك بصفته فردًا في مجتمعه في القيام بهذا الدور الذي هو فرض كفاية على الأمة ككل، قال -تعالى-: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "والمقصود مِن هذه الآية: أن تكون فرقة مِن هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبًا على كل فردٍ مِن الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ)" (تفسير ابن كثير).

ويكون ذلك الدور ضروريًّا مع ازدياد الفساد واستفحاله، ويؤكِّد هذا المعنى في العمل الجماعي قوله -تعالى-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة:2)، خاصة إذا كان هذا الدور لا يمكن تحصيله إلا مِن خلال التكاتف والاجتماع عليه.

نماذج قرآنية خالدة في نصرة أتباع الأنبياء للأنبياء:

1- قصة صاحب سورة (يس):

قال الله -تعالى-: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ . اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ . إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ . قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ . وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ . إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُون) (يس:20-29).

2- قصة مؤمن آل فرعون:

قال -تعالى-: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ . يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ . وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ . مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ . وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ . يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ . وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ) إلى قوله -تعالى-: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) (غافر:28-45).

الإسلام يحمِّل المسلم مسئولية إصلاح المجتمع الذي يعيش فيه:

فلا يكفي المسلم كونه صالحًا مهتديًا، وإنما ينبغي أن يكون كذلك مصلحًا وهاديًا لغيره، بحسب قدراته وإمكانياته واستطاعته، وفي إطار ضوابط وقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما بيَّنها العلماء، والتعاون في تحقيق ذلك مع الآخرين مِن العلماء والدعاة والمصلحين في المجتمع.

وهذه المسئولية الكبيرة تتحتم على المسلم مِن وجوهٍ عديدةٍ، منها:

1- أن رسالة الإسلام باقية إلى قيام الساعة لا تتوقف، والقيام بأعبائها مهمة كل مسلم بحسب قدرته، بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والإسلام هداية وإصلاح، ومنع للفساد والإفساد.

2- أن فساد المجتمع يؤثِّر تأثيرًا كبيرًا على كل فردٍ فيه، فلا يجد الفرد راحته وراحة أسرته ولا يتمكن مِن تنشئة أولاده على الصلاح كما يريد في مجتمعٍ يغلب عليه الفساد، بل قد يفتقد هو أيضًا القدرة عاجلًا أو آجلًا على الالتزام بالصلاح والتمسك به في وسطٍ لا يتسم بالصلاح والحرص عليه.

يقول د."عبد الكريم زيدان" في كتابه (أصول الدعوة): "الإنسان كائن اجتماعي يتأثر بالمجتمع الذي يعيش فيه، فتمرض روحه أو تهزل، أو تصح وتقوى، تبعًا لصلاح المجتمع أو فساده، وقد أشار النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الحقيقة، فقد جاء في الحديث الشريف: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) (متفق عليه)، فالأبوان بالنسبة للصغير مجتمعه الصغير الذي يؤثِّر فيه فيدفعه إلى الفساد أو الصلاح، فإذا كان الأبوان ضالين دفعاه إلى الضلال وأخرجاه عن مقتضى الفطرة السليمة التي خلقه الله عليها، وإذا كانا صالحين أبقياه على الفطرة التي خلقه الله عليها، ونمَّيا فيه جانب الخير، وهكذا شأن المجتمع الكبير في تأثيره في الفرد صلاحًا وفسادًا".

ويؤيد ذلك قوله -تعالى- في قصة بلقيس ملكة سبأ: (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ) (النمل:43).

ويقول د.عبد الكريم زيدان أيضًا: "وقيام المجتمع الصالح ضروري للفرد؛ لأن المطلوب مِن المسلم تحقيق الغرض الذي خُلق مِن أجله وهو عبادة الله وحده، قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، وهذا المعنى الواسع للعبادة يقتضي أن يجعل المسلم أقواله وأفعاله وتصرفاته وعلاقاته مع الناس على وفق ما جاءت به الشريعة الإسلامية، والمسلم لا يستطيع أن يصوغ حياته هذه الصياغة الإسلامية إلا إذا كان المجتمع الذي يعيش فيه منظمًا على نحو يسهل عليه هذه الصياغة، أي أن يكون مجتمعًا إسلاميًّا صحيحًا".

3 - إن عاقبة الفساد وانتشاره سيعاني منها الجميع حتى مَن لم يشارك فيه ويمارسه؛ إذ إن تردي المجتمع الفاسد يهوي بكل مَن فيه، ويتحمل مَن لم يشارك أو يمارس الفساد هذه العاقبة لكونه لم يحاول بجدٍّ ويسعى بقوة مع المصلحين؛ لمقاومة هذا الفساد وانتشاره.

قال -تعالى-: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال:25)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب أي يصيب الصالح والطالح، وفي الحديث عن زينب بنت جحش -رضي الله عنها- سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-: أَفَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخُبْثُ) (متفق عليه).

وقد جاء في قصة أصحاب السبت في سورة الأعراف قوله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (الأعراف:164-165).

فقد كان أهل هذه القرية التي شهدت هذه القصة على ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المعصية، وفرقة أنكرت عليهم ووعظتهم، وفرقة سكتت عنهم؛ لم تفعل المعصية معهم، ولكنها لم تنهاهم عنها، بل عاتبت الفرقة التي أنكرتْ: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا)، أي لا داعي للإنكار عليهم فقد أهلكوا أنفسهم واستحقوا بمعصيتهم العقوبة مِن الله، فقالت لهم الفرقة الناهية المنكرة: (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ)، أي تقديم ما يوضح عذرنا عند الله بالقيام بأداء أمانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا نملك إلا هذا، (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ): ولعل هذا الإنكار عليهم يعيدهم إلى ربهم.

وجاءت النهاية بنجاة هؤلاء الذين نهوا عن المنكر، ووقوع العذاب والعقوبة على العاصين، فكان النهي عن المنكر سببَ النجاة مِن العقوبة الجماعية مع الفاسدين.

وفي حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا) (رواه البخاري). وحدود الله: ما نهى الله -تعالى- عنه. والقائم في حدود الله: المنكر لها القائم على دفعها وإزالتها. واستهموا: أي اقترعوا.

وفي حديث أم سلمة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ) (رواه مسلم).

قال النووي -رحمه الله-: "معناه: مَن كرِه بقلبه ولم يستطع إنكارًا بيدٍ ولا لسان، فقد برئ مِن الإثم وأدَّى وظيفته، ومَن أنكر بحسب طاقته فقد سلم مِن المصيبة، ومَن رضي بفعلهم وتابعهم فهو العاصي" (شرح النووي على مسلم).

وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ) (رواه مسلم).

وفي حديث حذيفة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).

4- استحقاق مَن هادن الفاسدين للعن:

في الحديث عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ، فَيَقُولُ: يَا هَذَا، اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ، فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ) ثُمَّ قَالَ: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) إِلَى قَوْلِهِ: (فَاسِقُونَ) (المائدة:81)، ثُمَّ قَالَ: (كَلَّا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ) (رواه أبو داود، وصححه الشيخ أحمد شاكر). ومعنى تأطرنه: أي تعطفوه. ومعنى: ولتقصرنه: أي لتحبسنه.

وفي حديث أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا ظَالِمًا، فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

قال د."عبد الكريم زيدان": "ومِن خصائص النظام الاجتماعي في الإسلام: تحميل الفرد مسئولية المجتمع؛ بمعنى أن كل فرد فيه مطالب بالعمل على إصلاح المجتمع وإزالة الفساد منه على قدر طاقته ووسعه، والتعاون مع غيره لتحقيق هذا المطلوب، قال -تعالى-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)، ومِن أعظم التعاون: التعاون على إصلاح المجتمع، وإذا كان الفرد مطالبًا بإصلاح المجتمع فمِن البديهي أنه مطالب بعدم إفساده، قال -تعالى-: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا).

ومِن القواعد الفقهية: (ما حُرم أخذه حرم إعطاؤه)؛ لأن إعطاء الحرام للغير مِن الفساد والإفساد، وأن المسلم إذا عجز عن الإصلاح فعلى الأقل عليه أن يمتنع مِن الإفساد، وتكثير الفساد، وعلى هذا لا يجوز إعطاء الرشوة كما لا يجوز أخذها، ولا يجوز إعطاء الربا كما لا يجوز أخذه".

وقال أيضًا: "ويؤكِّد القرآن الكريم مسئولية الفرد عن إصلاح المجتمع بما يقصه مِن أخبار الأمم السابقة التي فرَّط أفرادها بواجب الإصلاح؛ فلحقهم الذم والهلاك، حتى يعتبر كل مسلم بما حلَّ بهم، فلا يفرِّط تفريطهم؛ لئلا يصيبه ما أصابهم".

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة