الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

كذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب -3

فقد جعلهم الله أعلامًا على طريق الثبات على الدين،

كذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب -3
محمد خلف
السبت ٢١ سبتمبر ٢٠١٩ - ١٩:٤٢ م
785

كذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب -3

كتبه/ محمد خلف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد وقفنا في مقالنا السابق عن حجم الضلال وحب الدنيا الذي كان عليه سحرة فرعون قبل إسلامهم -رحمهم الله-، وكيف وصل بهم الحال إلى تعظيم فرعون كما قال -تعالى-: (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) (الشعراء:44).  

وجاءت اللحظة الفارقة في حياتهم التي أحيا الله بها قلوبهم، وانتشلت به هذه القلوب من وحل الضلال وحب الدنيا، فارتوت بالإيمان واستنارت به، كما قال -تعالى-: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:122).

وهذه اللحظة الفارقة لما ألقى موسى -عليه السلام- عصاه، قال الله -تعالى-: (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ . فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ . قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:45-47). أي: لما تبيَّن السحرة أن الذي جاءهم به موسى حق لا سحر، وأنه مما لا يقدر عليه غير الله الذي فطر السموات والأرض من غير أصل، خرّوا لوجوههم سجدًا لله، مذعنين له بالطاعة، مقرّين لموسى بالذي أتاهم به من عند الله أنه هو الحقّ، وأن ما كانوا يعملونه من السحر باطل، قائلين: (آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) الذي دعانا موسى إلى عبادته دون فرعون وملئه (انظر تفسير الطبري).

وهنا وقفة مع سرعة استجابة هؤلاء لداعي الإيمان كما ذكر البقاعي -رحمه الله-: "(فَأُلْقِيَ) أيْ: عَقِبَ فِعْلِها مِن غَيْرِ تَلَبُّثٍ (السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) أيْ: فَسَجَدُوا بِسُرْعَةٍ عَظِيمَةٍ حَتّى كَأنَّ مُلْقِيًا ألْقاهم بِغَيْرِ اخْتِيارِهِمْ مِن قُوَّةِ إسْراعِهِمْ، عِلْمًا مِنهم بِأنَّ هَذا مِن عِنْدِ اللَّهِ، فَأمْسَوْا أتْقِياءَ بَرَرَةً، بَعْدَ ما جاءوا في صُبْحِ ذَلِكَ اليَوْمِ سَحَرَةً!" (انتهى).

وهكذا أمر الله -تعالى-، كما قال سبحانه: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:133)، وقال -تعالى-: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (الحديد:21).

وكان عمر -رضي الله عنه- يقول: "التأني كله خير إلا في عمل الآخرة"؛ فإذا أتاك داعي الهدى والإيمان فبادر أخي بالاستجابة، فإنك لا تدري متى يأتيك أجلك، فبادر قبل أن تُبادر، وخذ من قصة هؤلاء العِبَر والعظات.

فما كان مِن فرعون لما رأى صنيع هؤلاء السحرة مِن الإيمان بالله تعالى رب العالمين إلا أن أخذ يتوعدهم، وأخذ يفتري عليهم الكذب، قال: (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) (الشعراء:49)، ولكن كل ذلك لم يؤثِّر ولم يثنِ من عزائم هؤلاء الكرام الذين ذاقوا حلاوة الإيمان، وقالوا هذه الكلمات الخالدة التي خلَّدها الله -تعالى- بكتابه الكريم، ونذكر منها كما في سورة الشعراء:  (قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ) (الشعراء:50)، "أَيْ: لَا حَرَجَ وَلَا يَضُرُّنَا ذَلِكَ وَلَا نُبَالِي بِهِ (إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ) أَيِ: الْمَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا فَعَلْتَ بِنَا، وَسَيَجْزِينَا عَلَى ذَلِكَ أَتَمَّ الْجَزَاءَ" (تفسير ابن كثير).

وما أجمل استعمالهم لفظ: (رَبِّنَا)، فالرب هو الذي خلقهم ورزقهم ورباهم بنعمه، وهو الذي اختصهم بمزيد عناية، وفضلهم بأن هداهم للإيمان به، فكان ذكر الرب مناسبًا للمقام. والله أعلم.

وقالوا أيضًا كما في سورة طه: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى . إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى . وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى . جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) (طه:72-76)

فهذا الذي ذكرنا تمامه في سورة طه إنما هو مِن كلام السحرة كما قال ابن كثير -رحمه الله-: "الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ: أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ مَا وَعَظَ بِهِ السَّحَرَةُ لِفِرْعَوْنَ، يُحَذِّرُونَهُ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ الدَّائِمِ السَّرْمَدِيِّ، وَيُرَغِّبُونَهُ فِي ثَوَابِهِ الْأَبَدِيِّ الْمُخَلَّدِ" (تفسير ابن كثير)، فانظر إلى هذا الكلام العظيم الذي لا يخرج إلا مِن قلوب استنارت وعمرت بالإيمان رغم أنهم لم يطل بهم المقام!

ولا شك أن المقام لا يتسع لذكر فضائل هؤلاء الكرام، وأثر الإيمان في تغير أحوالهم وثباتهم الذي هو مِن تثبيت الله لهم، فهم علموا أنهم لن يصمدوا ويثبتوا إلا أن يوفقهم الله لذلك، كما في سورة الأعراف: (وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) (الأعراف:126).  

فقد جعلهم الله أعلامًا على طريق الثبات على الدين، وهداية لعباده بعد أن كانوا مِن أهل الظلم والضلال.

فاللهم يا مقلب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك.

وصلِّ اللهم وسلم على محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة