السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في حياتنا أسباب وعلاج -5

الصحبة السيئة

مظاهر القسوة في حياتنا أسباب وعلاج -5
ياسر برهامي
الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠١٩ - ١٦:٤٢ م
991

مظاهر القسوة في حياتنا أسباب وعلاج -5

الصحبة السيئة

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن الإنسان قد خُلق مدنيًّا بطبعه؛ يميل بفطرته إلى العيش في تجمعاتٍ، وهذه التجمعات تؤثِّر في بعضها البعض أعظم تأثير، وبها تُقبل العقائد الباطلة حتى عَبَد الناسُ الأوثانَ التي نَحَتُوها من دون الله، كما قال -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (العنكبوت:25)، وقال -تعالى-: (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) (هود:109)، وهل يَقبل عقلُ الإنسان أن يعتقد الإلهية في حجرٍ جمادٍ هو الذي نحته بيده -(أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ) (الصافات:95)-؟! أو أن يَركع ويَسجد ويَعبد بقرةً غيرُه يذبحها أو قردًا غيرُه يربطه ويَلعب به؟! وهل يَحتمل عقلُ إنسانٍ عاقلٍ أن يُقَدِّس أو يُعَظِّم وَثَنًا يرمز إلى إهانة الإله، وقتله وإذلاله على حسب اعتقادهم -كالصليب ونحوه-؟! وما حدث ذلك إلا بالتقليد للطائفة التي نشأ فيها الإنسان.

وكذلك قبول ما يخالف الفطرة الإنسانية من السلوكيات الشائنة التي تخالف طبيعة الجسم الإنساني وأجهزته، وما فُطِر عليه: كاللواط، والجِماع في الدُّبُر -ولو مع المرأة-، وكشف العورات، وممارسة المعاشَرة الجنسية أمام الناس، وقد فُطِر الإنسان على حب سترها والمبادَرَة إلى ذلك، وأنه يسوؤه ظهورها وكشفها، قال- عز وجل-: (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) (الأعراف:22)، وقال -تعالى-: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) (الأعراف:26)، ومع أن الإنسان مضى عليه آلاف السنين يستقبح كشف العورات أو حصول المعاشَرة أمام الناس إلا أن زمانًا مثل زماننا حصل فيه هذا الأمر؛ بسبب الصحبة السيئة التي قَبِلَت ذلك ورَوَّجَتْهُ ثم أشاعته في المجتمع، ثم في العالم، وزعمت أنه حق لها ولمَن أراد ذلك، وكذلك قضية المعاشرة الجماعية تُنَافِي الفطرة، وما قُبِلت حفلات الجنس الجماعي إلا بسبب الصحبة السيئة!

ولو عَددنا أثر المجتمع والصحبة والجماعة على قيم الإنسان ومعتقداته، وأفعاله وأقواله لطال بنا الكلام؛ فانتشار الظلم والضرب، والشتم والسب والقذف، وسب الآباء والأمهات -وربما سب الدين-؛ إنما هو من آثار اجتماع الإنسان مع غيره من الظَّلَمَة والفَسَقَة والفَجَرَة.

وقضية القسوة ومظاهرها من أوضح هذه المسائل التي يتأثر الإنسان بمَن حوله فيها، وما كُوِّنَت العصابات الإجرامية والجماعات الإرهابية إلا بسبب ذلك، ولو نَظَرنا في تاريخ الشعوب القاسية التي مَلَأت التاريخ قسوةً: كاليونان والرومان والأوروبيين؛ لوجدنا قبول صور القسوة البالغة التي نستنكرها اليوم إنما حصل بسبب القبول الجماعي، وتلذذ الأصحاب بها، مثل: مشاهدة إلقاء العبيد أو الأسرى أو المخالفين في الاعتقاد للأسود المفترسة عند اليونان والرومان، وكذلك رياضات المصارعة حتى الموت وبالأسلحة القاتلة بين العبيد التي تصور أشد صور منافاة الفطرة الإنسانية.

ولو أردنا أن نعرف كيف كانت "العُصبة" سببًا في ترويج القسوة؛ فلننظر في سلوك إخوة يوسف -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رغم نشأتهم في بيت نُبُوَّة، وحصول النسب الكريم لهم المسلسل بالأنبياء، والنشأة في رحاب بيت المقدس، والتربية الإيمانية العظيمة من الأب الشفيق والأم الحنون التي اختارها الله زوجةً لنبيه يعقوب -عليه السلام-، ورغم كل ذلك كانت عُصبَتهم سببًا لترويج القسوة إلى درجة العزم على قتل أخيهم  يوسف -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أو طَرحه أرضًا يهلك فيها جوعًا وعَطَشًا، قال -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ . إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) (يوسف:7-9)، ويوسف وَلَدٌ صغير يُوضَع في دلو البئر، لا يملك لهم ضَرًّا، ولم يَحدث لهم منه أذىً، مع خَلقٍ رائع الجمال وخُلُقٍ نادر المثال، وكان أهونهم في القسوة مَن قال: (لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) (يوسف:10)، مع القسوة الشديدة في التعامل بمجرد أن غابوا عن نظر أبيهم؛ فهذا يَضربه، وهذا يَشتمه، وهذا يَلطمه فجأة بدون سبب ولا مقدمات!

قال ابن كثير -رحمه الله-: "ذَكَر السدي وغيره: أنه لم يَكُن بين إكرامهم له وبين إظهار الأذى له إلا أن غابوا عن عين أبيه وتَوَاروا عنه، ثم شرعوا يؤذونه بالقول -مِن شَتمٍ ونحوه-، والفِعل -مِن ضَربٍ ونحوه-، ثم جاءوا به إلى ذلك الجُبِّ الذي اتفقوا على رميه فيه فرَبَطُوهُ بحبلٍ ودَلُّوه فيه؛ فجعل إذا لجأ إلى واحدٍ منهم لَطَمَه وشَتَمه، وإذا تشبث بحافات البئر ضربوا على يديه، ثم قطعوا به الحبلَ مِن نصف المسافة؛ فسقط في الماء فغَمَرَه، فصعد إلى صخرة تكون في وسطه، يقال لها: "الراغوفة" فقام فوقها، ولا حول ولا قوة إلا بالله" (تفسير ابن كثير 4/ 374).

ثم جَرَّدُوه مِن قميصه ليَكذِبوا على أبيه، وتركوه بلا قميصٍ في البئر المظلم، ورجعوا إلى أبيهم عشاءً وتركوه في الليل وحيدا؛ فتخيَّل الطفلَ الصغير في غَيَابَة الجُبِّ وحده في صحراءٍ ليس فيها أحد، وقد أتى عليه الليل المظلم بلا مصابيح، ولا أنيس، ولا أحد؛ كل هذه القسوة بلا ذنبٍ منه إلا توهمهم ضلال أبيهم بحُبِّه الذي لا يملك مع جمال الخَلْق والخُلُق والصفات الرائعة إلا حب يوسف -عليه السلام-، وإذا كنا نحن لا نملك على بُعد الزمان والمكان والغياب وعدم الرؤية ولا الصحبة إلا حبه كذلك؛ فكيف بوالده الذي يراه وهو بضعة منه؟! وما رَوَّج لهذه القسوة الفظيعة منهم -بل والحسد والغل الذي مَلَأَ قلوبَهم- إلا صحبتهم السيئة لبعضهم، حتى آل أمرهم إلى بيعه رقيقًا بدراهم معدودة، وكانوا فيه من الزاهدين.

ولو تأملنا ما وقع في التاريخ من الاضطهاد والتعذيب الذي تَعَرَّضَ له أتباع المسيح -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الأوائل بصرفهم عن عقيدة التوحيد وتصديق الرسول إلى الوثنية الجاهلة، ثم ما جرى في محاكم التفتيش في الأندلس للمسلمين على أيدي الفرنجة من صور التعذيب والقتل التي تشيب لها الولدان، والتي صارت أسوة سيئة لأهل زماننا في اختراع أدوات التعذيب الذي لا يتحمل الانسان مشاهدته لو كانت فطرته سوية؛ لَعَلِمنا أثر الصحبة السيئة التي أدَّت إلى قبول هذه الممارسات بالتقليد الأعمى، والتعاون على الإجرام، والإثم والعدوان.

ولو تأملتَ مجتمعك... ما الذي ينشر العادات القبيحة فيه بين الشباب الغض: كالتدخين، وإدمان الخمر والمخدرات، والنظر إلى المواقع الإباحية وإدمانها، وتكوين عصابات الخطف والسرقة بالإكراه والاغتصاب والشذوذ، مع التعذيب والقتل بأبشع الصور؟! لوجدتَ أن الصحبة السيئة هي التي تُزَيِّن -لِجَهل الشباب- التفاخر بالإجرام، وتكوين العصابات والشِّلَل التي تَغَيَّرَت فيها القيم والموازين إلى استحسان الجريمة، والقسوة والعدوان!

وما عصابات "المافيا" في العالَم -التي صارت دُوَلًا داخل الدُّوَل- إلا أمثلة من أثر هذه الصحبة السيئة على انتشار مظاهر القسوة ومُبَاشَرَتها والتعاون عليها، وزاد الأمر سوءًا وسائل التواصل الاجتماعي التي سَهَّلَت التواصل بين هذه الجماعات المنحرفة، والشِّلَل والعصابات الإجرامية.

ويتمثل العلاج في امتثال أمر الله ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بترك الصحبة السيئة ومُلَازَمَة الصحبة الصالحة، قال -تعالى-: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا . يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا . لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) (الفرقان:27-29)، وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِنًا، وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيٌّ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ، وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) (متفق عليه).

ولا بد أن نهتم بأصدقاء أولادنا -ذكورًا وإناثًا، شبابًا وبنات- مِن أجل النظر في صحبتهم، وتشجيعهم على الصحبة الصالحة، والبعد عن الصحبة السيئة، وعدم ترك الأمور حتى تتفاقم لتدمير الأخلاق بسبب هذه الصحبة السيئة.

والله المستعان.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة