الثلاثاء، ٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

من فقه الخلاف

العلم مع الخشية، فبالعلم والعمل والخشية والإخلاص ساد الصحابة -رضي الله عنهم

من فقه الخلاف
أحمد عبد السلام ماضي
الاثنين ٠٦ يناير ٢٠٢٠ - ١٩:١٩ م
782

من فقه الخلاف

كتبه/ أحمد عبد السلام

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فمن فقه الخلاف عدم الخلط بين بيان خطأ المخالف، وبين معرفة منزلته واحترامه والتماس العذر له إن كان من أهل العلم، فالإنكار والبيان يكون منصبًا على القول وبيان خطئه أو مرجوحيته،  فلا يمنعنا منزلة العالم من بيان الصواب، ولا يدفعنا الخطأ إلى التطاول على أهل العلم.

ولقد ضرب السلف، وأهل العلم بعدهم أروع الأمثلة في فقه الخلاف الجامع بين تعظيم الوحي والدليل، والتماس الأعذار لأهل الفضل والعلم.

ومن ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه: "سُئِلَ أبو مُوسَى عن بنْتٍ وابْنَةِ ابْنٍ وأُخْتٍ، فَقالَ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، ولِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ، فَسَيُتَابِعُنِي، فَسُئِلَ ابنُ مَسْعُودٍ، وأُخْبِرَ بقَوْلِ أبِي مُوسَى فَقالَ: لقَدْ ضَلَلْتُ إذًا وما أنَا مِنَ المُهْتَدِينَ، أقْضِي فِيهَا بما قَضَى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لِلاِبْنَةِ النِّصْفُ، ولِابْنَةِ ابْنٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وما بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ فأتَيْنَا أبَا مُوسَى فأخْبَرْنَاهُ بقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقالَ: لا تَسْأَلُونِي ما دَامَ هذا الحبر فيكم"، وفي رواية لأحمد: فقال: "لقد ضللتُ إذًا وما أنا من المهتدينَ إن أخذتُ بقولِهِ، وتركتُ قولَ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-".

فانظر رحمك الله إلى هذا العالم القرآني، وإلي هذا الفقه الرباني؛ أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- من علماء الصحابة وفقهائهم يُسأل عن مسألة في المواريث فيفتي فيه باجتهاده ويظن نفسه قد أصاب، ولكن من تواضعه وتحريه يأمر السائل أن يسأل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- الحبر الإمام السابق للإسلام، والذي قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ , فَلْيَقْرَأهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، فيأتي السائل ابن مسعود ويخبره بقول أبي موسى الأشعري، فإذا ابن مسعود يقول تلك الكلمات الرائعة في بيان الحق: "لقد ضللتُ إذًا وما أنا من المهتدينَ إن أخذتُ بقولِهِ، وتركتُ قولَ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-".

- انتبه: لم يقل: إن أبا موسى ضل أو خرف أو انحرف، مع أنه خالف نصًّا صحيحًا سمعه ابن مسعود، ولكن هو يقول عن نفسه: قد ضللتُ إن تركتُ الوحي المنزل، وتابعت رأي أبي موسي، فخالفه ورد قوله مع حفظ مكانته.

ولا يفوتني أن أنوه على هذا الأدب الراقي والتواضع الجم من الفقيه العالم والصحابي الجليل أبي موسي -رضي الله عنه-، لما بلغه قول ابن مسعود -رضي الله عنه-، إذ قال: " لا تَسْأَلُونِي ما دَامَ هذا الحبر فيكم"؛ أي تواضع، وأي رجوع إلى الحق هذا؟!

 إنه العلم مع الخشية، فبالعلم والعمل والخشية والإخلاص ساد الصحابة -رضي الله عنهم- الدنيا، وبذلك أعزهم الله.

وأسوق هذا لطائفتين: طائفة تميع الدين وتهون من شأن الأحكام الشرعية بدعوى الخلاف، وكأن كل خلاف معتبر، ولا يفرقون بين الخلاف المعتبر في فهم الأدلة وبين الخلاف الذي يصادم الدليل، وهم بطريقتهم هذه يجعلون الدين  تابعًا لأهواء ورغبات الناس بزعم التيسير في الإسلام! وهذا من الجهل والجرأة على الله وعلى دينه، ومنهم مَن يدعو إلى التزام مذهب معين من المذاهب الأربعة المشهورة دون التفات إلى تعلم الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة؛ مما يُبعد الناس عن فهم الكتاب والسنة، ويجعل كأن المذاهب شرائع مختلفة على كل مسلم أن يلتزم واحدًا منها، وهذا خلاف هدي السلف الصالح، والصحابة الكرام -رضي الله عنهم-.

والطائفة الثانية تجعل زلة العالم سبيلًا لإسقاطه والتطاول عليه!

يقول الذهبي -رحمه الله - في سير أعلام النبلاء: "لو أنا كلما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفورًا له قمنا عليه وبدعناه وهجرناه؛ لما سلم معنا لا ابن نصر، ولا ابن منده، ولا مَن هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق".

وما زالت تلك طريقة أهل العلم في نقاش مسائل الخلاف، وبيان الراجح من المرجوح، وبيان الأقوال الضعيفة والشاذة، ومَن طالع كتب الفقه المقارن وشروح الأحاديث يجد ذلك جليًّا (راجع تفسير القرطبي، وشرح البخاري لابن حجر، وشرح مسل للنووي -رحم الله الجميع-).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في بيان سبب ترك بعضهم لأحاديث صحيحة: "وهم معذورون في تركها، ونحن معذورون في ترك أقوالهم" (رفع الملام عن الأئمة الأعلام).

وها انا أضرب لك بعض الأمثلة للإمام النووي في عرض الخلاف، وبيان الراجح من الضعيف من الأقوال، فقد ذكر في شرح صحيح مسلم خلاف العلماء في عدد الرضاعات المحرمة، وقول المالكية أنها رضعة واحدة، ورد بعضهم لحديث: (لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ أَوِ الرَّضْعَتَانِ، أَوِ الْمَصَّةُ أَوِ الْمَصَّتَانِ) (رواه مسلم)،

فقال: "وزعم بعضهم أنه حديث مضطرب، قال -وانتبه لقوله رحمك الله-: وهذا غلط ظاهر، وجسارة على رد السنن  بمجرد الهوى وتوهين صحيحها  لنصرة المذاهب" (شرح النووي على مسلم).

وقال في مساله فيما يثبت به الفراش ناقلًا قول أبي حنيفة بأنه يثبت بمجرد العقد حتي لو طلق عقب العقد من غير إمكان وطء فولدت لسته أشهر من العقد لحقه الولد، قال: "وهذا ضعيف ظاهر الفساد"، بل أحيانًا يرجح النووي خلاف قول الشافعي مع أنه شافعي المذهب، وهذا من إنصافه مثلما رجح جواز المزارعة.

وها هو العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- يضعف المذهب الذي ينتمي إليه ويخالفه في أكثر من عشرة مسائل من كتاب الطهارة. (انظر الشرح الممتع).

لذا يجب على طالب العلم أن يسلك سبيل السلف وأهل العلم معظمًا الدليل، متجنبًا الأقوال التي تخالفه، وفي نفس الوقت لا يتسرع في الترجيح بين الأقوال وتخطئة العلماء، فإن العلم بحره واسع.

فأحببت أن أنبِّه على هذه القضية المهمة في وقتٍ انتشر فيه تمييع الدين باسم الخلاف كما انتشرت الدعوة إلي التعصب المذهبي والتقليل من شأن الأدلة وكتب السنة.

ويجب أن يعرف طالب العلم أن أقوال العلماء يُستدل لها لا بها، وأن المقلد ليس بعالم، وأن الخلاف ليس بحجة.

 وفقنا الله وإياكم للعلم النافع، والعمل الصالح.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

ربما يهمك أيضاً

من محاسن الشريعة
648 ٢٤ ديسمبر ٢٠١٩
المرجع عند الخلاف
755 ٢٤ نوفمبر ٢٠١٩
نظرة الإسلام للمال
1041 ١٨ نوفمبر ٢٠١٩
هل تفرِّط في النعم؟!
1037 ١٧ مايو ٢٠١٨
عواقب الأمور
2409 ٠١ نوفمبر ٢٠١٧