الثلاثاء، ٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الفساد (43) هجرة الكفاءات العلمية... مسئولية مَن؟ (1-5)

عوامل طرد ودفع الكفاءات العلمية من بلادنا إلى الخارج

الفساد (43) هجرة الكفاءات العلمية... مسئولية مَن؟ (1-5)
علاء بكر
الاثنين ٢٧ يناير ٢٠٢٠ - ١٨:٥٩ م
647

الفساد (43) هجرة الكفاءات العلمية... مسئولية مَن؟ (1-5)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد تخوض بلادنا معركة كبيرة من أجل التطور والتقدم والتنمية، تحتاج فيها إلى عشرات الآلاف من الكفاءات العلمية من العلماء والخبراء، والأساتذة والإداريين في كل المجالات في الهندسة والطب، والصناعة والزراعة والإدارة، وإلى الآلاف مِن الفنيين، والعمالة الحديثة المهرة، وإلى أصحاب المواهب في كافة التخصصات.

وعلى الرغم من ذلك، فإننا ومنذ عقود طويلة نعاني من نزيفٍ دائمٍ نفقد به كفاءتنا العلمية بصفة مستمرة بهجرة عقولنا المتخصصة من بلادنا إلى بلاد الغرب حيث التكنولوجيا والتقدم العلمي، فتشارك هناك في زيادة دفع عجلات التقدم والازدهار بعد حصولها على أدق وأعلى مستويات التخصص هناك.

وهذه الهجرة وهذا النزيف، قضية كبيرة وخطيرة ينبغي التصدي لها والتعامل معها بعد كل هذا السبات العميق لعشراتٍ من السنين تعرضنا فيها لخسارة بشرية ومادية ضخمة سحبت من رصيدنا لتضاف إلى رصيد الغرب، ليزداد الغرب تفوقًا وتقدمًا، ويزداد تخبطنا وتشتد معاناتنا وتلاحقنا المشكلات وتتعقد الأزمات، حتى صرنا نحتاج إلى ما يشبه المعجزة للخروج منها، أي: أننا دفعنا بسبب هذه الهجرة ثمنًا غاليًا جدًّا في وقتٍ كنا فيه في أشد الحاجة إلى تلك الكفاءات والطاقات.

إن كل كفاءة نمت في بلادنا خلال مسيرتها التعليمية، وأثبتت تفوقها واستكملت مشوارها العلمي حتى بدايات التخصص الدقيق قد أنفق عليها الآلاف من الجنيهات، وتفانت الأسرة والدولة في تعليمها وإعدادها أملًا من الجميع أن تؤتي هذه الكفاءة والموهبة والمهارة أكلها، وتستفيد الأمة كلها من جهودها ونبوغها، ولكن للأسف الشديد يجد هذا المجتهد النابغ الأبواب مؤصدة أمامه ليستكمل ما يحلم به لنفسه وبلده، فلم تحسن الدولة اختيار مجال تعليم له تحتاج إليه فيه، أو لم تقدر على توفير العمل لمجال أحبه هو وتفوق فيه، ناهيك عن أعداء النجاح الذين لا ينظرون إلا لمصالحهم الشخصية، وجمود البيروقراطية ذات الأفق الضيق، وروح التقاعس وتفشي الإهمال، في الوقت الذي يفتح له الغرب كل الأبواب وتتلقاه الأيدي المتلهفة لتفوقه ونبوغه ليترك وطنه الذي أهمله ليقيم في بلدٍ أجنبيةٍ احتضنته، فيحقق فيها كل ما كان يصبو ويتطلع إليه ويتبوأ أعلى المراكز العلمية هناك.

إن مجموعة متكاملة من هؤلاء النابغين كفيلة -إن شاء الله تعالى- لو تبوأت مكانها اللائق بها في مصر، وتمنح كل الصلاحيات أن تغير وجه الحياة العلمية والإدارية والتنموية في بلادنا.

أن منطقتنا العربية من أكثر مناطق العالم الثالث معاناة بسبب هجرة عقولها العلمية، فالموارد والثروات كثيرة ومتنوعة، والثروة البشرية متوفرة، ولكن بلادنا كانت لعشرات السنين وما زالت مناطق طرد للكفاءات، بينما الغرب مناطق جذب مغرية لها، بل لا تمانع الدول الغربية في منح جنسياتها لهذه الكفاءات لتقيم عندها إقامة كاملة دائمة!

إن 70 % من هذه الكفاءات لا يعودون لوطنهم الأم، وما زال هذا النزيف للعقول والكفاءات في تصاعد مستمر، وازدياد متواصل، بصورة يصعب إيقافها، بل ولا توجد بوادر أمل في ذلك! ولعل أكبر دليل على ذلك ما نراه ونعيشه مِن تعتيم إعلامي كبير على هذه القضية، وتجاهل المسئولين لها تجاهلًا تامًّا، فلا توجد إحصائيات ولا بيانات، ولا حصر لهذه الكفاءات المهاجرة، ولا توجد أي إجراءات جادة وفعالة وبناءة من أجل استعادتها رغم شدة الحاجة إليها، فمن يتحمل مسئولية ذلك؟ لعل الإجابة تتضح فيما سنعرضه هنا.

عوامل طرد ودفع الكفاءات العلمية من بلادنا إلى الخارج:

وهي عوامل كثيرة تدفع العقول النابغة والكفاءات العلمية إلى السفر إلى الخارج حيث قوى الجذب المتعددة من التقدم العلمي والتخصصات المتنوعة، والتشجيع والتبني لها على اختلافها.

ومن أهم تلك العوامل وأبرزها:

الأسباب الاقتصادية:

(يمكننا القول: إن الأسباب الاقتصادية هي في مقدمة الأسباب التي تدفع العقول العربية للخروج من أوطانهم إلى الدول المتقدمة، إن العيون البصيرة حين تتفحص الواقع الاقتصادي في الوطن العربي تستطيع أن تدرك الفجوة الهائلة القائمة بين الأعداد المتزايدة من الخريجين وبين الأماكن التي تستطيع استيعابهم، وفضلًا عن أن هذا يعتبر مؤشرًا خطيرًا للفشل الذريع الذي تتخبط فيه خطط التنمية العربية، فإنه في حد ذاته يعكس الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعني عدم قدرة النظم الاقتصادية العربية وعجزها عن تقديم المستويات التي تليق بالكفاءات العربية؛ بما يؤدي إلى دفع هذه الكفاءات للخروج من أوطانهم الأصلية، والبحث عن أوطان أخرى والهجرة إليها) (راجع: "نزيف الأدمغة: هجرة العقول العربية إلى الدول التكنولوجية" د. عطوف محمود ياسين، دار الأندلس بيوت لبنان، ط. أولى 1984 م - 1404 هـ، ص 43 بتصرف).

وهذا الغياب للتخطيط العلمي الصحيح وهذه المساوئ للسياسات الاقتصادية أدت إلى المعاناة من:

أ- قلة الدخل المادي: فلا تجد الكفاءات العلمية والفنية الأجور التي تكفي للحد الأدنى من الشعور بالاستقرار النفسي، والقدرة على التفرغ للإنتاج والبحث العلمي، كما أن غلاء الأسعار بسرعة كبيرة وارتفاع نفقات الحياة لا يقابلها ارتفاع في الدخل يتناسب معها إن وجد، وهذا مما يزيد من المعاناة مع مرور الوقت فلا يبدو للمشكلة بوادر حل.

إن مِن (المؤسف ألا تكون كفاءة الإنسان ومؤهلاته هي المقياس عند التعيين أو الترقية أو تحديد الراتب والأجور)، إن (الدول ذات النظم الاقتصادية الراسخة تضع مسبقًا الجداول الخاصة بالأجور، مع اتساق دقيق لارتفاع الأسعار طبقًا لدراسات إحصائية تنبؤية للعرض والطلب، والسلع والأسواق، والتحركات الاقتصادية من صعود وهبوط، بينما تميل معظم النظم العربية إلى تجاهل هذه الاعتبارات طالما أن مصالح الطبقة العليا مضمونة بالمليارات والملايين. أما مشكلات الإنتاج وسوء توزيع الثروة وتكديسها والاحتكارات والتكتلات فهي الإطارات التي تزيد قلة الدخل المادي سوءًا على سوءٍ، وتجعل منه دافعًا للهجرة في عصر لم يعد للأوراق النقدية فيه أية قيمة أمام موجات الغلاء الفادحة وانهيار القيمة الشرائية للنقد) (المصدر السابق، ص 44).

ب- ازدياد التخلف الاقتصادي: فالتخلف الاقتصادي بمظاهره وأشكاله المتعددة يزيد من التضخم والحرمان، فلا تجد الدولة الإمكانيات المادية الكفيلة بالإنفاق على مشاريع التنمية الاقتصادية، والتي منها -أو يجب أن يكون في مقدمتها- إقامة مؤسسات البحث العلمي الجيدة الإعداد والتجهيز.

إن العالم في بلادنا محروم من الأجهزة والمعدات، والأدوات التكنولوجية الحديثة المتقدمة، بينما علماء الغرب والشرق بين أيديهم مئات الآلاف من الأجهزة والأدوات والوسائل الحديثة المتقدمة والمختبرات المهيأة لاستقبال وتفجير طاقات العلماء، وإخراج ما فيها من إبداعٍ وابتكارٍ (ومع الازدياد الأفقي في عدد الخريجين من المدارس والجامعات وبقاء الأوضاع الاقتصادية متخلفة، فإن إمكانية الاستفادة من الكفاءات العلمية تتضاءل مما يدفع بالأعداد الكبيرة منها للتفكير في ترك أوطانها الأصلية) (المصدر السابق، ص 45).

ج- افتقاد التخطيط السليم: فرغم وجود وزارة وهيئات رسمية للتخطيط، فإن التخطيط في بلادنا أشبه بمادة إعلامية دعائية أكثر من كونها حقيقة لها وزنها ونتائجها، والدلائل على انعدام وجود التخطيط العلمي السليم بمفهومه المعاصر تتمثل فيما نعيشه من تخلف اقتصادي وتردي في إقامة مشروعات التنمية وغلاء المعيشة، وانهيار القيمة النقدية للعملة الوطنية.

د- غياب الأيديولوجية الاقتصادية الواضحة: إن بلادنا سوق استهلاكية للدول الكبرى ليس له هوية اقتصادية بالمعنى العلمي، فتفتقد بلادنا مبادئ الحرية الفردية والتنافسية والديمقراطية السياسية التي تقوم عليها الرأسمالية، ولم تستطع أن تقيم بناءً اقتصاديًّا اشتراكيًّا موجهًا قويًّا، وإنما هي خليط يتأرجح بينهما يجمع مساوئهما ويفتقد إيجابياتهما، (فلم يأخذ صورة متبلورة في نظمه الاقتصادية، فهو مزيج من الإقطاع الزراعي إلى الرأسمالية الإعلامية إلى اشتراكية الشعارات إلى حالات الفصام الاجتماعي، والعصاب السياسي، والذهان الفكري بكل ما تحمله هذه الاختلالات من أعراض مرضية واحدة) (المصدر السابق، ص 43).

وغياب الأيديولوجية الاقتصادية هو السبب في:

- عدم قدرة الدولة على التحكم في الأسعار.

- عدم وجود حد أدنى للدخل يحفظ كرامة المواطن.

- عدم وجود توزيع عادل لثروات البلاد.

- عدم وجود خطط تنموية هادفة (المصدر السابق، ص 48).

الأسباب السياسية:

إن قضية حقوق الإنسان العربي في بلادنا مشكلة متعددة الأبعاد، ويأتي في مقدمتها حقوق ذوي الكفاءات في المساهمة في اتخاذ القرارات وممارسة الحريات العامة، (ففي الأغلبية الساحقة من الدول العربية يمكن مصادرة حريات الإنسان بأية لحظة وفي أي مكان، وبسبب وبدون سبب وبدون سابق إنذار أو تبليغ، وإلحاق التهم بمجرد استماع الشائعات المغرضة عنه، ويمكن أن يزج به في غياهب السجون، وتسلط على جسده أنواع التعذيب قبل أن تثبت إدانته، وفي مقدمة هؤلاء الناس العقول والخبرات العربية)، إن هناك مئات وآلاف من الكفاءات والعقول (كانوا ضحايا الواقع السياسي الذي يرتدي الشعارات والثياب الدستورية، ويغتال من ورائها كافة الحقوق الإنسانية، وكان منهم المدنيون والخبراء العسكريون الذين سُرِّحوا وشُردوا)، (وتعتبر الصيحات الغاضبة التي أطلقها أعضاء مؤتمرات المحامين العرب، والحقوقيون العرب، ونقابات الأطباء، ومؤتمرات الأدباء العرب، والمظلومون الذين ذهبوا بصمتٍ وتعتيم إعلامي دلائل واضحة كالشمس على أن الواقع السياسي في الوطن العربي أصبح عاملًا دافعًا لذوي الكفاءات للرحيل عن أوطانهم إلى بلاد أخرى!) (المصدر السابق، ص 49، 50 بتصرفٍ).

إن تردي الأحوال السياسية يعود بالضرر على أصحاب الكفاءات والخبرات من خلال:

- مصادرة الكلمة كتابة ولفظًا، أو على الأقل محاصرتها، والضغط على أنفاس أصحابها؛ أي: فقد الإنسان لحرية التعبير عن رأيه في وطنه، ولهذا تأثيره على استقرار الإنسان النفسي، وعلى مُثله وقيمه ومفاهيمه.

- انعكاس عدم الاستقرار السياسي على الأوضاع الاقتصادية؛ مما يتسبب في اضطراب وتدهور الإنتاج، وزيادة البطالة، ولهذا تأثيره السلبي على الجميع.

- سيطرة فئة معينة على الحكم بعد خروج الاستعمار العسكري في معظم الدول التي نالت استقلالها واعتمادها على الأعوان من أصحاب الولاء لا الكفاءة، وبالتالي معاداتها للمثقفين والكفاءات، وممارسة الإرهاب الفكري والكبت السياسي ضدهم، وتوجيه الإعلام للتشكيك فيهم لعزلهم جماهيريًّا بعد عزلهم اجتماعيًّا.

- انعدام التقدير للكفاءات العلمية، وتقديم الفئات غير المؤهلة على العلماء والمثقفين، وفي ظل الاختلال في المعايير تطبق اللوائح والقوانين على فئات وتستثنى فئات، فيعيش المثقف أو العالم بدون تكريم لا يطمئن على حاضره ومستقبله، وينعكس ذلك على مكانته الاجتماعية وأحواله المعيشية.

- تشكك الحكومات وتخوفها من الكفاءات العائدة للوطن من الخارج بعد تخصصها في البلاد المتقدمة؛ إذ تسيطر نظرة الشك من النظم المستبدة أو المتسلطة تجاه هؤلاء العائدين خشية ما قد يحملونه من أفكار من بلاد متقدمة غرست فيهم الإحساس بكرامة الإنسان وحقوقه وكيانه، وهذا يقلق هذه النظم ويجعلها في حالة تربص بتلك الكفاءات.

وهكذا ينتهي مصير الكفاءات إلى ثلاث نوعيات لا يستفاد منها، فهي:

- إما تعيش في الوطن بعد دراستها وتخرجها ولا عمل لها.

- وإما عائدة للوطن بعد استكمال تخصصها في الخارج، وتعد عبئًا على السلطة لا تستفيد منها، بل تتربص بها.

- وإما تاركة للوطن إلى غيره حيث الأمان والتقدير، والعمل والإنجاز (راجع المصدر السابق، ص 50 - 52).

وقد أُجريت دراسة في 22 ولاية أمريكية في بداية السبعينيات عن أسباب هجرة الكفاءات، فكشفت:

- أن 85% منهم ذكروا أن سبب هجرتهم: تمييز الأجنبي عليهم في أوطانهم الأم.

- أن 83% منهم اشتكوا من انخفاض مستوى حرية الرأي.

- أن 55 % منهم اشتكوا من سوء المعاملة في الوظيفة والعلاقة مع الرؤساء في العمل.

- أن 25 % منهم اشتكوا من انخفاض مستوى المعيشة.

وفي دراسة أخرى أجريت في نفس الفترة مع الطلبة العرب الذين يتخصصون في الدول الأجنبية كشفت أن الأوضاع السياسية المتخلفة في الوطن العربي هي المسئولة عن هجرة العلماء والخبراء وبقاء الطلاب في أمريكا، وبينت أن أبرز مظاهر هذا التخلف السياسي يتمثل في: الزعامة الرجعية، وكبت الحريات السياسية، وغياب الحكومات الشعبية، وعدم كفاية أعداد الزعماء، وعدم الإخلاص للجماهير، وتغلب الأنظمة العسكرية على الحكم، وعدم كفاية النضوج السياسي وعدم الاستقرار، واضطهاد الحكومات للمثقفين، وأقوال بلا أعمال، ونقص في الديمقراطية (راجع المصدر السابق، ص 52).

(ويشير الدكتور إلياس زين في دراساته حول أسباب الهجرة بأن حركة الهجرة العلمية والفنية تزداد إبان الأحداث الدامية وعدم الاستقرار السياسي والأمني، ولعل أكبر دليل على ذلك أزمة لبنان والحرب الأهلية فيها، ففي إبان الأحداث الدامية (1975 - 1977 م) وصلت نسبة الذين غادروا لبنان 50 بالمائة من الأطباء، و48 بالمائة من المهندسين)، (ولعل الأوضاع السياسية في بلدان المهجر وخاصة الولايات المتحدة تعتبر عاملا جاذبًا للمهاجرين؛ لأنها تتسم بالاستقرار السياسي والحرية الديمقراطية، وهذا ما يشجع العلماء والخبراء على الهجرة، وكذلك الطلاب على البقاء والعيش هناك) (المصدر السابق، ص 53).

البيروقراطية والتعسف الإداري:

ترتبط بيروقراطية المؤسسات والأعمال الإدارية في أي مجتمع بالواقع السياسي والنظام الاقتصادي، وتنعكس عنهما بشكل وثيق، ففي معظم دول العالم الثالث نوع من المركزية في اتخاذ القرار الإداري بحيث لا يسمح لأي إدارة أن تتخذ أي قرار في أي شأن، ويعاني أصحاب الكفاءات من هذه المساوئ.

ومن صور ذلك:

أ- سيطرة الروتين الإداري: الذي يتسبب في إضاعة الوقت والأموال والجهود دون مردود ملموس، ويترتب عليه ازدحام الدوائر الحكومية بالموظفين والمتعاملين معهم، مع ضعف العمل والإنجاز من الناحية الإنتاجية.

ب- عرقلة ما يحتاج إلى سرعة في القرار والحل: فالتأجيل لما يحتاج إلى قرار أو حل سريع يوقع في أزمات أو في ضياع فرص، ويؤثر على الإنجاز، ويسبب إضرارًا بالمواهب والكفاءات، خاصة من يعودون من أوروبا وأمريكا بأعلى التخصصات فيجدون أنفسهم في مواجهة ظروف مليئة بالقيود الإدارية والتعسف البيروقراطي، وهذا يدفع ذوي المؤهلات على الهجرة كمخرج من هذه القيود (راجع المصدر السابق، ص 55).

ج- كثرة العراقيل والمماطلات: والتي تبدو أحيانًا أنها مقصودة، ويترتب عليها احتضار المشاريع وموتها ربما قبل ولادتها، أو تعرضها للتعطيل وللإهمال أو للإلغاء، من خلال عناصر لا تبالي بتعويق النهضة والتنمية في البلاد، أو تسعى لاستقدام الخبراء الأجانب للقيام بعمليات البناء على حساب الكفاءات الوطنية.

د- بيروقراطية التعليم: فلقد تحولت الجامعات والمعاهد إلى مؤسسات بيروقراطية تخرج مئات الألوف من الطلبة الذين نادرًا ما يجدوا مجالًا للعمل فيما تخصصوا فيه، فالتعليم في بلادنا (لا يرتبط بالمجتمع ولا بالتنمية ولا بسوق العمل العربي، ولا بد أن نتساءل: ما أهداف الجامعة في كل وطن عربي، وما الروابط بين ما تقوم به وبين ما يحتاجه المجتمع وينتظره ويتوقعه منها؟ إن الهجرة العلمية التي تمثل استمرار النزيف هي عمومًا دليل صارخ على أن التربية ومناهجها في الوطن العربي ليست سبيلًا إلى التنمية، ولكنها الجسر المؤدي إلى الهجرة) (المصدر السابق، ص 56 بتصرفٍ).

(وقد أشارت جريدة السفير اللبنانية في عددها الصادر في 10 /11 / 1974 م بأن معظم الجامعات في بلادنا تؤهل الأطباء على الطريقة الغربية دون مراعاة للأوضاع المحلية وحاجات البلاد ومتطلبات المجتمع، وإن الذي يدفع الطبيب للهجرة هو شعوره بأن طبيعة تدريبه في شكله وجوهره معد لخدمة مجتمع غير مجتمعه. ويشير مصدر آخر: بأن التخلف الصحي والطبي في المؤسسات والوسائل غالبًا ما يدفع ذوي الخبرات للهجرة، وتشير الدراسة بأن هجرة الأطباء والممرضات تعود إلى تخلف الأجواء الطبية، ومن أبرز مظاهر هذا التخلف: قلة المؤسسات الطبية كالمستشفيات والعيادات، أو عدم وجودها في بعض المناطق من البلاد، ويزيد الأمر تعقيدًا: البطء في تنفيذ المشاريع الطبية) (المصدر السابق، ص 53).

انعدام البحث العلمي الجاد:

فتفتقد بلادنا الاهتمام بالبحث العلمي الجاد، وتفتقد الحرية الأكاديمية للباحث.

ومن نتائج ذلك:

- ضحالة البحوث العلمية الجادة.

- انعدام الابتكار والتجديد والإبداع، فأكثر ما يوجد من إنتاج نظري أو عملي لا يخرج عنه كونه منقولًا أو مترجمًا، والإنتاج الجيد منها قليل نادر أو مضطهد أو مستبعد!

- عدم وجود ارتباط بين خطط التنمية من جهة، والإنتاج والبحث العلمي من جهة أخرى.

- نقص الإمكانيات المطلوبة للبحث العلمي الجاد لنقص الاعتمادات الكافية للبحث العلمي اللائق، فالأجهزة الحديثة والمختبرات عالية التجهيز مفقودة، وما وجد منها لا يجد الكوادر الفنية المحلية لاستخدامها، وما يستخدم منها لا تجرى لها أعمال الصيانة اللازمة، بل هناك أجهزة ثمينة مستوردة أكلها الغبار في المخازن ولم تستخدم لسنواتٍ عن قصدٍ -أو بغير قصدٍ- بعد أن كلفت الدولة الملايين من الجنيهات، ومنها ما صمم لتدريب علماء في الذرة والبحوث الالكترونية والكيمياء، ولكن المناخ العلمي الجاد غير متوفر لها.

- معظم البحوث وجدت لغايات نفعية كحصول الباحث على درجة يترقى بها، ونادرًا ما تتسم بالمستوى العلمي اللائق؛ لذا فالإنتاج العلمي الجاد في البلاد العربية ضئيل جدًّا.

الأسباب الاجتماعية:

فالتخلف الاجتماعي المرتبط بالتخلف الاقتصادي يجعل النظام الاجتماعي القائم لا يمنح أفراد المجتمع الفرص المتساوية، ولا تعترف بكفاءة الإنسان وقدراته ومؤهلاته، حيث تنتشر المحسوبية والمجاملات، وتتعثر الكفاءات العلمية والفنية، وتقل فرصة عملها إن وجدت، ومع خيبة الأمل واليأس أحيانًا تكون الهجرة إلى خارج الوطن.

ويساهم في ذلك:

- ازدياد معدل النمو السكاني مع افتقاد التنسيق وحسن التوزيع للسكان على أرض الوطن، فتتكدس الجموع على شريط ضيق لا يتعدى 6 % من مساحة البلد.

- تمركز القوة الاقتصادية والقوة السياسية في أيدي مجموعة من ذوي المصالح التي تستأثر بالسلطة وخيرات البلد، وتقلل فرص التقدم أمام الكفاءات العلمية والفنية.

- إيمان الأنظمة الحاكمة بعبقرية الخبرات الأجنبية؛ وبالتالي: حرمان الكفاءات الوطنية من فرص العمل رغم حصولها على نفس الشهادات والتخصصات التي لدى الخبراء الأجانب، وكلما منعوا من فرص العمل حرموا من الخبرات العملية، وضعفت هممهم وعزائمهم، وإن أعطوا بعض الأعمال فتكون الأجور أضعف بكثير مما يعطى للأجنبي على مثل هذا العمل، مع مطالبتهم بنفس الجهود والنتائج! فكيف يرتقي مستوى الكفاءات في بلادنا في ظل هذا الجحود، وهذه التفرقة في المعاملة، وفي ظل الثقة المطلقة في الأجنبي والحط من الكفاءات الوطنية وحرمانها من فرص المشاركة والتطوير وإثبات الذات؟!

- نظرة المجتمع الدونية لأصحاب المهن المختلفة من الفنيين والحرفيين والعمال رغم خبراتهم وكفاءاتهم.

العوامل الثقافية:

فمع علو المستوى العلمي والثقافي للكفاءات العلمية، خاصة العائدة من الخارج بعد الدراسات العليا والتخصص فهي تجد نفسها غريبة عن المستوى الثقافي لعامة الشعب، محرومة من مراكز القيادة والتوجيه، فتعيش وهي تعاني من عزلة وفجوة كبيرة بينها وبين عامة الشعب؛ مما يدفعها نفسيًّا للانسحاب من المجتمع أو الهرب منه.

العوامل الأخلاقية والسلوكية:

في ظل التردي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لا يكون الإنسان فاعلًا يصنع الأحداث، بل يتحول إلى منفعلٍ يرد على ما يتعرض هو له مِن أفعال، وتتسبب هذه الأحوال في إصابة أصحاب الكفاءات بالقلق أو الاكتئاب، ويعانون من الحقد عليهم والحسد لهم، بل ويتعرضون للدسائس والمؤامرات والاضطهاد، ومع الشعور بالهوان يكون التفكير الجاد في الهجرة للخارج (للاستزادة: راجع المصدر السابق، ص 73-75).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة