الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

بوادر الأمل... مفاتيح العمل

ومَن استسلم في معركة الإصلاح والتغيير للإحباط واليأس فسوف يرى الأرض أكثر صعوبة وتحجرًا

بوادر الأمل... مفاتيح العمل
رجب أبو بسيسة
الثلاثاء ١٨ فبراير ٢٠٢٠ - ٠٩:٣٣ ص
551

بوادر الأمل... مفاتيح العمل

كتبه/ رجب أبو بسيسة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فمهما وصلت الحالة في المجتمعات من السوء والتردي؛ إلا أنه يجب على الدعاة المخلصين ألا يفقِدُوا الأملَ في التغيير أبدًا، ولا يصيبهم الإحباط؛ فالبشرية وصلت قبل ذلك في مراحل سابقة لأبعد درجات الانحطاط والفساد، بل والشرك، ومع ذلك خرج مِن أصلابهم وذويهم أناسٌ ضربُوا أروعَ الأمثلةِ في الإيمان والاستقامة والتدين، والقيام بالوحي والرسالة، وسعِدت بهم البشريةُ مشركُها ومؤمنها، ونقلوا الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

فالمجتمعات فيها أناسٌ مثل المعادن النفيسة التي غطتها طبقات الأرض الوعرة، فإذا وجدنا مَن ينقب ويبحث بإصرار وأمل ورجاء فيما عند الله -عز وجل- فسوف نجد فيها كل نفيس وثمين عما قريب، ونخرج من الأرض ما فيها من كنوز وخيرات بإذن ربنا؛ المهم ألا يتوقف العمل أبدًا.

أيها المصلح... عليك أن تبحث عن المكان الذي يُتَوسم فيه المعادن النفيسة -وقد تكون بجوارك- فسل ربك التوفيق والصبر والإعانة، مع العمل بكل إصرار وصمود أمام طبقات المكان، وسوف تجد بين ضربات معولك أملًا يبرق، وسوف تُهدى للتي هي أقوم ما دمت مسترشدًا بالوحي ومقتديًا بمن سبقك من الصالحين والصديقين والأنبياء، الذين لم يسمحوا لشيء في قلوبهم بالبقاء غير الأمل والرجاء واليقين، وحتى ولو تسرب اليأس إلى قلوبهم مرة فإنهم كانوا يطردونه، ويتعوذون بالله من الشيطان الرجيم الذي يوسوس بالشر، وترك العمل والإخلاد إلى الأرض.

ومَن استسلم في معركة الإصلاح والتغيير للإحباط واليأس فسوف يرى الأرض أكثر صعوبة وتحجرًا، بل وسيرى الشر فيها مطبقًا، ولا يرى خيرًا فيها ولا أملًا، وكل كلمات اليأس لن تسعفه في وصف الواقع.

فكن واحدًا من أولئك الرجال الذين يحملون الهموم الحقيقية، ترى الواحد منهم منشغلًا بالأمل المقرون بالعمل، مضيئًا قلبه بالرجاء لا يخبو ولا تطفئه الرياح والأعاصير، مستمدًا قوته من العزيز الكبير رب الأرض والسموات.

وفي طيات صفحات التاريخ صفحاتٌ مشرقةٌ وساطعة تهدي الحيارى، وعلاماتٌ يهتدي بها السالك في طريق التغيير والإصلاح.

تأمل قصة ذكريا -عليه السلام-، وكيف كان رجاؤه وأمله فيما عند ربه، وأثر ذلك في قلبه، فلم ييأس لحظة، ولم يخبو رجاؤه يومًا، وقد انتشر في بني إسرائيل الانحراف والشرك، والفواحش والموبقات انتشارًا سدَّ الأفق، وزكريا -عليه السلام- بلغ من العمر عتيًّا، واشتعل رأسُهُ شيبًا، ولم يكن أحد من أهله يحمل الهم الذي يحمله، ولم يكن له ولد يحمل هم الدعوة، وينشغل بالإصلاح ِمِن بعده، وكل الأسباب المادية تقول: الإصلاح مستحيل! لكن إذا كان القلب موصولًا بالله؛ فعلى قدر ما في القلب مِن هموم ونوايا يأتي الفرج وتكون العطايا.

زكريا -عليه السلام- صاحب رجاء، وعنده أمل، فعندما دخل على مريم -عليها السلام- ووجد عندها رزقًا قال لها متعجبًا: (أَنَّى لَكِ هَذَا) (آل عمران:37)؛ أي مِن أين حصلت عليه؟ فقالت: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).

(هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) (آل عمران:38)؛ أي لما شاهد منة الله وقرب عطائه، لم يتوانَ ولم يتكاسل عن الدعاء والطلب، والإلحاح فيه. 

فشهود المنن والعطايا مِن حولك تحرك كل خصال الإيمان في قلبك، فزكريا -عليه السلام- لم يرَ مِن الموقف إلا مجرد فاكهة الصيف في الشتاء، أو العكس، لكنَّه رأى ذلك بعين الإيمان وشهادة معاني التوحيد، فدعا ربه دعاءً خفيًّا، قال -تعالى-: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) (مريم:3).

وتأمل ماذا يريد زكريا أيها المصلح والداعية؟!

لقد طلب مِن ربه أن يرزقه غلامًا يحمل أعباء الرسالة والدعوة -كما جاء في التفسير، وهذا هو الصواب خلافًا لتفسير أهل الكتاب: أنه كان يريد مَن يرث المال فقط- فذكر السبب: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (مريم:6)، يريده أن يرث الدعوة والإصلاح والتغيير؛ إذ إن الأنبياء لا تُورث وما تركوه صدقة.

وهكذا كان أسلافه من أنبياء الله، كان همهم الدعوة والعبادة -وهذا طريق الأنبياء جميعًا- فيعقوب عليه السلام عندما حضرته الوفاة سأل بنيه تقريرًا لدين مَن يعبدون مِن بعده: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:133).

ثق تمامًا أيها المصلح أن الأمل قريب، ما عليك فقط إلا أن تتوجه لمولاك وخالقك ومالكك، وتسأله أن يقوي قلبك، ويمحو ما به من إحباط ويأس بسبب ما تسمع وترى مِن تمكن الباطل وسطوته.

وانظر لما قاله نبينا -صلى الله عليه وسلم- لعدي بن حاتم لما أتاه: "لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المالُ أن يفيض فيهم حتى لا يُوجد مَن يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليُوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزورَ هذا البيتَ لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البِيض مِن أرض بابل قد فُتحت عليهم، ولتُفتحن علينا كنوز كسرى بن هرمز" (السيرة النبوية لابن هشام).

كنوز كسرى بن هرمز التي وعد بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سراقةَ بن مالك أثناء رحلة الهجرة رغم ما كان يراه سراقةُ أمامه من التضييق والإبعاد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكنه الأمل واليقين في موعود الله -عز وجل-، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى"، فقال سراقة في تعجب: "كسرى بن هرمز؟!"، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "نعم كسرى بن هرمز"، إنه الأمل واليقين.

دارت الأيام دورتها، وآل أمرُ المسلمين إلى الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وتحققت نبوءة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وانتصر المسلمون في القادسية، وحُملت الغنائم إلى المدينة، وكان من بينها تاج كسرى، وثيابه، فدعا الفاروق -رضي الله عنه- سراقة بن مالك فألبسه قميص كسرى وسراويله، وخُفَّيْه، وقلده سيفه، ووضع على رأسه تاجه، وألبسه سواريه.

وليس الغرض هنا هو الأمور المادية والدنيوية، بل الغرض هو بث الأمل والرجاء المقرون بالعمل.

ونحن عندنا من البشارات والنبوءات ما تجعل المؤمن يعمل بكل يقين ورجاء وتوكل غير عابئ بما يسمع ويرى حتى لا يحبط وييأس، فينحرف وينتكس عن الطريق.

هذه الأمة منصورة شريطةَ أن يحقق أفرادها ما أمر الله به، قال -تعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55).

اللهم استعلمنا ولا تستبدلنا... ولنا أمل.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

ربما يهمك أيضاً