السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في المجتمع أسباب وعلاج (20) علاج التفكك الأسري المعنوي

فإن السعادة هي سعادة القلب بالأحاسيس الجميلة النبيلة

مظاهر القسوة في المجتمع أسباب وعلاج (20) علاج التفكك الأسري المعنوي
ياسر برهامي
الخميس ٠٥ مارس ٢٠٢٠ - ١٨:٢٤ م
793

مظاهر القسوة في المجتمع أسباب وعلاج (20) علاج التفكك الأسري المعنوي

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلا زلنا في رحاب آيات "القرآن الكريم" حول الجلسة التربوية الإيمانية التي تعالِج مِن بداية النشأة أسباب القسوة، وتوجِّه قلب الإنسان لعداوة الشيطان بدلًا مِن عداوة إخوانه ومجتمعه، وتهيئه لأحسن الأخلاق مِن الكرم والجود والإحسان، والعفو والصفح، ومغفرة الزلات؛ هذه الأخلاق الحسنة التي تفتح أبواب الرحمة على الأسرة والمجتمع، وتغلق أبواب الشر وسيئ الأخلاق التي تملأ القلب بالضغينة والغل، والحقد والحسد؛ فتنفجر هذه الأخلاق في المجتمع فجورًا في الخصومة، وسوءًا في المعاملة، وقسوة في القلب والعلاقات الاجتماعية.

 وقد كنت كتبتُ في تأملات إيمانية في سورة يوسف كلامًا أحببتُ أن أضيفه هنا؛ إتمامًا لما ذكرته في المقال السابق عن جلسة يعقوب مع يوسف -عليهما السلام- لعظيم فائدتها، نفعنا الله -عز وجل- به.

قال الله -تعالى-: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ  . قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يوسف:4-5).

نلحظ في هذا الحوار الجميل -بين الابن وأبيه- المليء بالأدب والتقدير، والاسترشاد من الابن البار، والحب والشفقة والنصح والتوجيه والتربية من الأب الحنون، ونلحظ وجود هذه المجالسة الخاصة التي لا يحضرها غيرهما، والتي تكاد تكون  قد غابت بالكلية عن أكثر الأسر اليوم، وعن أكثر المربين والموجهين، شغلتهم عنها ملاهي الحياة، واكتفوا في توجيه أبنائهم ومَن يربونهم بمجرد الأوامر العامة التي كثيرًا ما تكون أشبه بالأوامر العسكرية الزاجرة، التي لا تنبت عاطفة ولا تؤثر في قلب؛ هذا إن وُجدت أصلاً في زحمة الحياة المعاصرة التي يتولى التوجيه والتربية فيها وسائل الإعلام -أقصد وسائل الإفساد- مِن تليفزيون وشريط فيديو، وبث مباشر، وشبكة (الإنترنت)، ومجلة، وشريط أغاني، ومناهج تعليم منحرفة، وأصدقاء سوء.

فضلًا عن الغنى المطغي أو الفقر المنسي الذي يجعل الأب -وغالبًا الأم- لا يجلسان مع أولادهما أصلًا؛ بل يخرج الأب قبل استيقاظهم ويعود بعد نومهم! ولو بقي وقت يستثمره؛ فهو يقضيه على المقهى يلعب (الطاولة)، ويتجاذب أطراف الحديث مع قرنائه في مجالس السوء هذه! أو لو جلس في البيت فالكل صامت أمام العجل الفضي (التلفزيون) يتلقى منه هو وأولاده التوجيه والتعليم؛ فأين هذه الجلسة التي يستنصح الابن فيها أباه منفردًا به، مختصًا به؟!

هذه الجلسة لها أهمية قصوى في التربية، لا بد أن يعطيها الأب والشيخ والمعلم لكل ابن من أبنائه، وتلميذ من تلامذته على حدة؛ حتى تتواصل القلوب، وتتقارب المشاعر، ونخرج من نطاق المادية ودائرة الرفاهية الكاذبة التي تُشقي الإنسان ولا تُسعده؛ فإن السعادة هي سعادة القلب بالأحاسيس الجميلة النبيلة، والمعاني الإيمانية الحية التي أصلها حب الله، وعبادته والشوق إليه ثم حب أنبيائه ورسله الكرام -صلوات الله وسلامه عليهم- ومتابعتهم.

 فلا بد لنا أن نضع في برامج توجيهنا لأبنائنا مثل هذه الجلسة التي تجدها في هذا الموضع؛ كما تجدها في قصة إبراهيم -عليه السلام- مع ابنه إسماعيل -عليه السلام- حين يقول له: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِي) (الصفات:102)، وتجدها في وصية لقمان لابنه وهو يعظه، وتجدها في وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنهما- وهو يقول له: (يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)؛ هذه الكلمات التي أثرت أعظم الأثر في نفس الابن والمربي والمعلّم، وبقيت في قلبه عبر السنين كما سنرى عن قريب في قصتنا الكريمة.

وقول يوسف -عليه السلام-: (يَا أَبَتِ) تجد فيه رقي الحوار، والأدب الرفيع مع الأب، كما تلمس فيه الشعور بالخصوصية؛ فهو أبوه هو، وإضافته التاء المكسورة للفظ الأب تشعر بالقرب الشديد، وكسرة جناح الذل، وتستخرج من الأب أنهار الحنان والعطف، وتهيج عاطفة الأبوة الرحيمة؛ تلك العاطفة العجيبة التي هي مِن آيات الله في خلقه، ومن أدلة اتصاف الرب -سبحانه- بصفة الرحمة؛ إذ خلق في قلوب عباده هذه العاطفة ليرحمهم، (ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا) (متفق عليه)، ولا تجد جوابًا لهذه الكلمة: (يَا أَبَتِ) أحسن مِن: (يَا بُنَيَّ) تصغير ابني؛ وذلك للتعبير عن كمال الشفقة، والنصح والمحبة، والرحمة، وكلمة: (يَا بُنَيَّ) كلمة جليلة اختفت للأسف مِن قواميس لغتنا، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعملها؛ فقال لأنس: (يَا بُنَيَّ) (رواه مسلم)، كما بوَّب النووي -رحمه الله- في كتاب الأدب في صحيح مسلم: "باب جواز قوله لغير الولد: (يَا بُنَيَّ)، واستحبابه للملاطفة".

وكما ذكرنا أنه استعملها إبراهيم مع ولده إسماعيل -عليهما السلام-، واستعملها لقمان مع ابنه وهو يعظه، ولا يزال يستعملها الآباء الرحماء مع أبنائهم، والمربون الناصحون مع تلامذتهم؛ للتعبير عن الود والنصح والرحمة.

قارن هذا مع ما تسمعه من كلمات التعنيف التي تصدر من الآباء والأمهات في مجتمعاتنا، فضلًا عن السباب والشتم مما يدمر الشخصية، ويُعَوِّدُ القسوة، وينزع الرحمة؛ فينشأ الأبناء على نزعات الغلظة والقسوة؛ فتحصل الأخلاق الفاسدة، والانحرافات النفسية، وما يتبعها من أمراض المجتمعات، وتشوهات الشخصية؛ حتى يستعجب الناظر في كثيرٍ مِن الشخصيات، كيف وُجدت فيها هذه القسوة التي لا توجد عند الوحوش؟! وحقيقة الأمر أنها نبعت من سوء التربية، وقلة الحنان أو انعدامه في الصغر؛ فنسأل الله أن يرحم آباءنا وأمهاتنا كما ربونا صغارًا: (رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء:24).

 ويوسف -عليه السلام- حين رأى رؤياه كان غلامًا، فلم يكن قد نُبِئ بعد؛ لأن الأنبياء رجال -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، ولكن كانت رؤياه صادقة، كما عَلِمها كذلك أبوه يعقوب -عليه السلام- وعلم منها علوَّ يوسف -عليه السلام- على إخوته؛ فكانت نصيحته له: (قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا)، ومن هنا يُستدل على أنه لا ينبغي أن تقص الرؤيا إلا على ناصح محب؛ لأن الرؤيا كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبَّرْ، فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، فربما كان غير الناصح سببًا لوقوع المكروه بتأويلها على وجهٍ غير مرغوب فيه.

وكذلك يُستدل بهذه الآية على كتمان بعض ما فضل الله به بعض عباده من أنواع الإكرام والاختصاص عمن يتوقع منه الحسد والحقد، كما في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اسْتَعِينُوا عَلَى إنْجَاحِ الْحَوَائِجِ بِالْكِتْمَانِ، فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ) (رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني)، وأما قوله -تعالى-: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (الضحى:11)؛ فهو إما بمعنى الحديث بما علّمه الله من النبوة والعلم فيعلّمه للناس، وإما بمعنى الثناء على الله -عزَّ وجل- بها، وكلا المعنيين صحيح، وعلى الثاني: فهو يحدث بها أهل الصلاح والخير الذين لا يحسدون مؤمنًا على ما أنعم الله به عليه.

ونلحظ هنا علم يعقوب -عليه السلام- بنفسية أبنائه الآخرين، وما يوقعهم الشيطان فيه من الحسد ليوسف -عليه السلام- لما اختصه الله به من أنواع الفضل الذي كانت مباديه ظاهرة منذ الصغر؛  ولذا كان حبُّ يعقوب -عليه السلام- له أكثر من إخوته؛ للصفات الجميلة التي اختصه الله بها، وهكذا ينبغي للأب أن يكون خبيرًا بصفات أبنائه، وكذا المربي والمعلم مع تلامذته؛ ليستطيع -قدر الإمكان- معالجة ما يقع بينهم، وليكن منتبهًا لهذا الداء العضال؛ داء الحسد الذى هو مِن أدواء إبليس، والذي كان من أسباب هلاكه، وكان داء ابن آدم الأول القاتل لأخيه -نعوذ بالله منه-، هذا الداء هو الذي يدفع إلى أنواع الكيد والمكر بالمحسود؛ لمحاولة إزالة النعمة التي فضل الله بها مَن شاء مِن عباده على بعض، وهذا كله منبعه الشيطان؛ رأس الحاسدين، وأول الحاقدين المتكبرين.

ولذا حرص يعقوب -عليه السلام- أن يبيِّن ليوسف -عليه السلام- ذلك بقوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)، وهذا مِن أهم وسائل التربية والتوجيه في مثل هذا المقام، وهو يريد منع العداوة بين الإخوة، وتوجيهها للعدو الحقيقي البيّن (الشيطان الرجيم)، فالكيد السيئ طارئ على الإنسان؛ فلا ينبغي أن تكون العداوة متأصلة معه إلا مَن صار شيطانًا -والعياذ بالله-، وهذا هو الواجب على الأب المربي، أن يعمق في نفوس أبنائه وتلامذته عداوة الشيطان، والانتباه لعداوته؛ فإن أكثر الناس لا يلتفت لعداوته، ولا يتخذونه عدوًّا، بل وليًّا! فلا ينتبهون لوسوسته وخواطر السوء التي يلقيها، وشبهات الضلال التي يغذيها؛ فتثمر في قلوبهم ثمار الغي والضلال.

وتأمل كيف أثرت هذه الكلمة من يعقوب -عليه السلام- في نفس يوسف -عليه السلام-، فقال بعد نحو أربعين سنة: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) (يوسف:100)! فهو قد وعى الدرس مِن أبيه جيدًا، وعلم أن ما وقع من إخوته كان نزغًا من الشيطان، وليس أصله من قلوب إخوته؛ فعلى الرغم مما كان فيها من الحسد وما وقع بينهم من الكيد؛ إلا أن الخير في قلوبهم كان أغلب، وهو الذي انتصر في النهاية -بفضل الله- وزال الحسد والعداوة بشهود تفضيل الله وإيثاره؛ الذي هو دواء الحسد حين قالوا: (لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ) (يوسف:91).

وتأمل الأدب الرفيع في ترك المعاتبة واللوم كما وعدهم، فقال: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) (يوسف:92)، ونسب الأمر للشيطان، ولما ذكر ما وقع بينه وبينهم ذكر نفسه أولًا؛ فقال: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) فذكر نفسه أولاً؛ لئلا يجد إخوتُه من الحرج أن الشيطان نزغ في قلوبهم هم -وهي الحقيقة-، ولكنها العبارة الرفيعة الأدب التي تؤدّي المعنى ولا تجرح الشعور في مثل هذا المقام!

والمقصود: أن المؤمن عليه دائمًا أن ينتبه إلى عداوة الشيطان؛ مما يقتضي حراسة الخواطر مِن كيده، والاستعاذة بالله منه، ومِن همزه، ونفثه، ونفخه.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة