الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (26) آيات من القرآن في ذم القسوة (4)

وهكذا ستجد في حياتنا أقسى الناس معاملة وأقلهم رحمة؛ أبعدهم عن توحيد الله -عز وجل- وطاعته

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (26) آيات من القرآن في ذم القسوة (4)
ياسر برهامي
الجمعة ٢٤ أبريل ٢٠٢٠ - ٠٠:٢٩ ص
635

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (26) آيات من القرآن في ذم القسوة (4)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال الله -تعالى-: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة:13).

الوقفة الثانية في قول ابن جرير -رحمه الله-: "فتأويل الكلام على قراءة: (قَاسِيَة) أي: غليظة يابسة عن الإيمان بي، والتوفيق لطاعتي، منـزوعة منها الرأفة والرحمة"؛ بيان الارتباط بين القسوة بمعنى عدم الإيمان والطاعة، وبين معناها بنزع الرأفة والرحمة في معاملة الخلق، فالكافر ثم الظالم نفسه بترك الطاعة وفعل المعاصي تجده أقسى الناس في معاملة الخلق، والمؤمن المطيع لله تجده أرق الناس قلبًا، وأرفقهم بالخلق وأرحمهم بهم، وأكثرهم إحسانًا إليه.

وتأمل بين قسوة فرعون وجبروته في ذبح الأبناء واستحياء النساء، وكفره وعتوه في قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص:38)، وقوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) (النازعات:24)، وقتله نحو 80 ألفًا من السحرة في صبيحة واحدة؛ بتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبهم على جزوع النخل ينزفون حتى الموت؛ لمجرد إيمانهم بالله -رب موسى وهارون- (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ) (الأعراف:118-119)، مع أن فرعون وملئه يعلمون أن هذه الآيات أنزلها رب السماوات والأرض بصائر (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (النمل:14).

تأمل هذه القسوة مع رحمة يوسف -عليه السلام- ورأفته وإحسانه للناس -حتى مع كفرهم- وهو في السجن، ثم وهو في الملك، فصاحباه في السجن يقولان له: (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:36)، روى الطبري بسنده عن الضحاك قال: "كان إذا مرض إنسان في السجن قام عليه، وإذا احتاج جمع له، وإذا ضاق عليه المكان وسَّع له. وعن قتادة، قال: كان يداوي مريضهم، ويعزِّي حزينهم، ويجتهد لربه؛ أي: في العبادة.

وقال: لما انتهى يوسف إلى السجن؛ وجد فيه قومًا قد انقطع رجاؤهم، واشتد بلاؤهم؛ فطال حزنهم؛ فجعل يقول: أبشروا واصبروا تؤجَروا؛ إن لهذا أجرًا، إن لهذا ثوابًا. فقالوا: يا فتى، بارك الله فيك، ما أحسن وجهك، وأحسن خلقك، لقد بورك لنا في جوارك، ما نحبُّ أنَّا كنا في غير هذا منذ حُبسنا؛ لما تخبرنا من الأجر والكفَّارة والطهارة؛ فمن أنت يا فتى؟

قال: أنا يوسف، ابن صفي الله يعقوب، ابن ذبيح الله إسحاق بن إبراهيم خليل الله. وكانت عليه محبَّة. وقال له عامل السجن: يا فتى، والله لو استطعت لخلَّيت سبيلك؛ ولكن سأحسن جِوارك، وأحسن إسارك؛ فكن في أيِّ بيوت السجن شئت" (انتهى).

وما ذكره قتادة مِن أن إسحاق ذبيح الله خلاف الصحيح مِن أنه إسماعيل -عليهما السلام-، وإنما دعاهم يوسف إلى الله -عز وجل- وجعل يبشِّرهم بثواب الآخرة إن هم آمنوا، فهو داعٍ إلى الله -عز وجل- في كل مكان، وكذا قال له إخوته وهو في الملك: (يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:78).

ولا شك أن ما فعله يوسف بالإحسان في إدارة الأزمة -أزمة السبع سنين العجاف- بحسن التدبير لمصر؛ بل لمَن حولها مِن الأمم والشعوب التي قام بها يوسف -عليه السلام- بتوفيق الله -عز وجل- بعلمه وحسن إمرته على الناس؛ مما لا يقوم به غيره بحالٍ مِن الأحوال، ولا شك أن هذا مِن أعظم صور الإحسان.

وتأمل في قسوة الكفار المشركين من قريشٍ في تعذيبهم الصحابة؛ كبلال وصهيب وعمار، وياسر وسمية وغيرهم، وإخراجهم للصحابة من ديارهم بغير حق، ثم تأمل رحمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الرءوف الرحيم وهو يقول لملك الجبال إذ استأذنه- فقال: (إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ)، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) (متفق عليه)، وكذلك موقفه يوم فتح مكة، وقد تمكَّن مِن أعدائه وأعداء الله -عز وجل- فعفا عنهم، وروي أنه قال لهم: "ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم؛ فقال اذهبوا؛ فأنتم الطلقاء" (انظر: السيرة النبوية لابن هشام).

وهكذا ستجد في حياتنا أقسى الناس معاملة وأقلهم رحمة؛ أبعدهم عن توحيد الله -عز وجل- وطاعته، وأكثرهم ظلمًا وإسرافًا في المعاصي، وأبعدهم عن اتباع الوحي، وأكثرهم كذبًا على الله في شرعه ودينه تجده أعظم، وتجد أعظمهم اتباعًا للدليل، والتزامًا بالطاعة؛ أكثرهم شفقة على الناس، ورحمة بهم، وبحثًا عن مصالحهم وتخفيفِ آلامهم، والبُعد عمَّا يضرهم، وإذا أردت أن تقيس نفسك وتزنها؛ فانظر إلى أثر إيمانك وطاعتك في رأفتك ورحمتك لغيرك من الناس.

الوقفة الثالثة: قوله -تعالى-: (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ): أي: تركوا نصيبًا مما أُمروا به في التوراة، وهذا يدل على أن العبد إذا كان قاسي القلب، فإنه يحرِّف الكلم عن مواضعه، ويفتري على الله الكذب في شرعه ودينه، وهو في نفس الحال يترك ما أمره الله به، ويعرض عنه؛ حتى ينسيه الله إياه، وينزع التوفيق من قلبه، ويترك إقامة حدود الله إلى أن يصل -مَن يفعل ذلك- إلى الكفر الأكبر -والعياذ بالله- كما وصل حال أهل الكتاب الذين وصف الله صفاتهم في هذه الآية، فتركوا أصل الإيمان، وكذَّبوا الرسل، وقتلوا الأنبياء وأشركوا بالله -تعالى-، كما قال -عز وجل-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:30-31)، وبيَّن -سبحانه- قسوة بعضهم على بعض؛ فقال: (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة:253).

فليحذر كل منا على نفسه أن يبدّل الدين، ويترك ما أُمِر به؛ خشية أن يقع في الفتن التي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا) (متفق عليه).

الوقفة الرابعة: قوله -تعالى-: (وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ): يدل على أن نقض الميثاق مع الله وقساوة القلب؛ تثمر الخيانة ونقض العهد مع البشر، كما فعل اليهود من الطوائف الثلاث -بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة- مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أذلهم الله وأخزاهم، ولا يزال هذا دأب اليهود إذا تمكنوا مِن نقض العهود؛ بادروا إلى ذلك لما يتوهمونه مصلحة له.

 وعلى طريقتهم المنافقون، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ) (متفق عليه)، وقال: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) (متفق عليه).

وأما المؤمن فإنه صادق الوعد يفي بالعهد، ويؤدي الأمانة ولا يخون، ولا يغدر ولا يغش، يمتثل أمر الله -عز وجل- في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة:1)؛ فليزن كل منا نفسه بهذه الآيات ليعرف حال قلبه مِن القسوة واللين.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة