الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الفساد (58) التعليم الأساسي وقبله هو البداية (2-2)

من أخطر السلبيات في العملية التعليمية في بلادنا: الإقبال المتزايد على التعليم باللغات الأجنبية في المدارس والجامعات الخاصة

الفساد (58) التعليم الأساسي وقبله هو البداية (2-2)
علاء بكر
السبت ١٣ يونيو ٢٠٢٠ - ٢٠:١٨ م
485

الفساد (58) التعليم الأساسي وقبله هو البداية (2-2)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فتعد مرحلة رياض الأطفال ومرحلة التعليم الأساسي الأجدر بالأولوية في البدء في إصلاح التعليم في مصر دون الإخلال بشمولية تناول الإصلاح مراحل التعليم ككل.

وتشير تجارب الدول التي قطعت شوطًا في الاعتناء برياض الأطفال والتعليم قبل الابتدائي -كما في جنوب إفريقية وبيرو- إلى أن العقبة الرئيسية التي واجهت هذا الإصلاح هي ضعف التنسيق بين المؤسسات ذات الصلة بتعليم الصغار؛ وعليه فالمدخل الناجح نحو الإصلاح يكمن في التنسيق والتكامل بين المؤسسات المعنية برعاية الصغار وتعليمهم، وفي مقدمة تلك المؤسسات: الأسرة ومعلمو رياض الأطفال، وهو تنسيق لا يحتاج إلى تمويل، وإنما يحتاج إلى تفاهم وتعاون وتكامل في الأدوار.

دور المربين في تنشئة الأطفال:

إن دور الوالدين في تهيئة أطفالهما للتعليم لا يعطي نتائجه المرجوة دون قيام المعلمين المربين بدورهم؛ إذ إن مفتاح نجاح إصلاح التعليم مرتبط بتوفير معلمين محترفين تم إعدادهم وتأهيلهم بعناية فائقة.

إن معلمي رياض الأطفال ومعلمي التعليم الأساسي لهم دورهم الكبير في تنشئة الأطفال الاجتماعية من خلال الإسهام في إكساب التلاميذ القيم الإنسانية، وتزويدهم بخبرات ومهارات التعلم الذاتي، بما يجعلهم فعالين في المجتمع.

وهذه المهارات تحتاج إلى التطوير باستمرار؛ لتعويد الطفل على الاستجابة المرنة للمستجدات والتلاؤم والتكيف معها، وهذا أهم ما يجب أن يتعلمه التلميذ من خبرات أستاذه، وللأسف فإن إعداد المعلم في بلادنا يواجه أزمة أسبابها عديدة، من أهمها: تدني مكانة المعلم الاقتصادية والاجتماعية، وافتقاد برامج إعداده للجدية والتكامل، كما أن النظم التربوية عندنا لا تواكب متغيرات العصر، فما زالت نظرة الكثير مِن مدارسنا لنظم التربية تتبع نفس نظرة الجيل الماضي لها.

يقول د. عبد المنعم شحاتة: (ولا يقتصر هذا الأمر على التعليم الأساسي، بل يعد ضرورة قصوى في التعليم ما قبل الابتدائي (رياض الأطفال)، فالتغيير المتسارع في المعلومات يتطلب تعلم إستراتيجيات جديدة لاكتساب المعرفة خلال كل مراحل الحياة، ويعد التعلم المنظم ذاتيًّا على رأس قائمة هذه الإستراتيجيات التي يجب أن يتعلمها الطفل في مرحلة رياض الأطفال، هنا يأتي دور معلم رياض الأطفال بوصفه قدوة يمارس تعلمًا منظمًا ذاتيًّا فيحتذي به الأطفال.

ويقصد بالتعلم المنظم ذاتيًّا تعلم كيف نتعلم وكيف ننظم ما تعلمناه حتى نستطيع التغلب على مشكلات التعلم وعقباته، وفي هذا السياق تصبح علاقة طفل الروضة بمعلمه مهمة جدًّا لارتقائه المعرفي والانفعالي والاجتماعي، فباستطاعة هذه العلاقة أن تكون عامل وقاية للطفل يضعف المردود الارتقائي السلبي لخبرات رعاية غير آمنة ويقلل سلوكه العدواني، وتجعل المربي أكثر حساسية لتفهم حاجات الطفل، معنى ما سبق أهمية علاقة مدرس الروضة بأطفالها كأساس لنجاح العملية التربوية، ليس هذا فحسب، بل خلال كل المراحل التعليمية اللاحقة.

وهناك ثلاثة أنماط لعلاقة مدرس الروضة بأطفالها:

نمط حميم: يمثِّل أعلى درجات الدفء والمساندة نتيجة له يصبح الأطفال أكثر ميلًا للبحث عن مساعدة ملائمة لمدرسهم، وأكثر استجابة لطلباته، وبالتالي يكونون متعاونين في الفصل، وترتبط هذه العلاقة بكل مَن سلوك بناءً أكثر وأعلى درجات الكفاءة الاجتماعية، وأدنى مستوى لميول عدواني وفوضوية، وانسحاب اجتماعي أقل.

نمط صراعي: تميزه تفاعلات عدائية يغلب عليها الجدل وينقصها الدفء فيتحدى الطفل آراء معلمه ويتصرف بشكل لا تعاوني، ويرتبط هذا النمط بكل مَن مردود اجتماعي انفعالي سلبي ومشكلات سلوكية كالعدوان وفرط النشاط، وإحداث فوضى في الفصل.

نمط اعتمادي: حيث يميل الطفل للتصرف بسلبية نحو مدرسه لاجئًا إليه حتى يحل مشكلات الطفل الانفعالية الاجتماعية والدراسية مفضلًا التفاعل معه، وليس مع الأقران، وينتج عن هذا النمط طفلًا منسحبًا اجتماعيًّا منخفض الكفاءة يعاني الشعور بالوحدة والقلق.

ويعد النمط الأول (الحميم) هو المعبِّر عن علاقة إيجابية بين الطفل ومعلمه، أما النمطين: الصراعي والاعتمادي فيمثِّلان العلاقة السلبية، وبالطبع تعكس علاقة الطفل بمدرسه العلاقة بين والديه والمدرس، ومن ثَمَّ حتى نؤسس علاقة حميمة بين الطفل ومدرسه يجب تكوينها أولًا، واستمرارها ثانيًا بين الوالدين والمدرس.

ومن الصعب أن يعامل المدرس كل طفل في الفصل المدرسي بإستراتيجية (أي خطة تعلم تؤدي إلى غياب مشكلة تعليمية أو على الأقل تحد من تفاقمها) خاصة بهذا الطفل وفي موقف بعينه؛ إلا أنه باستطاعة المدرس جعل موقف التعلم مثيرًا للاستمتاع بوجه عام، ولكل الأطفال بواسطة مساندتهم وتشجيعهم وإثارة روح التحدي لديهم حتى يتعلموا بأنفسهم ما يناسب الموقف، كما يمكنه على الأقل تفهم رؤية الوالدين.

وإذا كان الوالدان قد تجاهلا كون طفلهما مختلفًا، فعلى المدرس أن يكتشف ذلك سريعًا ثم يطلب من إدارة الروضة، إما إحالة الطفل إلى استشاري أو تخصيص، فصل لكل مجموعة يشتركون في الصعوبة نفسها أو في مؤشر معين للصعوبة، ليقوم مدرس مؤهل بالتعامل مع ذوي هذه الصعوبة بتعليم هؤلاء الأطفال (راجع مقالة: إصلاح التعليم: أي النقاط أولى بالبدء؟ د. عبد المنعم شحاتة - مجلة الفكر المعاصر - أكتوبر/ ديسمبر2017 م، ص: 32 - 33).

ويضيف د. عبد المنعم شحاتة: (يضاف إلى ما سبق: أن يكون المعلم القائم بالتدريس لهذه المرحلة متسمًا بخصال متفردة تجعله قادرًا على تقبل كل الأطفال، مَرنًا في التواصل معهم حساسًا لاحتياجاتهم ومؤهلًا للتصرف بشكل إبداعي، فيقوم بتصميم مواقف لعب تجذب الأطفال للتعاون في أدائها والتعلم من خلالها، وبإمكانه تعديل هذه المواقف وتغيير أهدافها من يوم لآخر) (المرجع السابق، ص 34).

عظم مسئولية التعليم الأساسي:

تضم مرحلة التعليم الأساسي كمًّا ضخمًا مِن التلاميذ الذين يحتاجون إلى تعلم العلوم الأساسية من جهة، وغرس القيم والمبادئ والأخلاق فيهم وإكسابهم الخبرات والمهارات والقدرة على التعلم الذاتي مع إعدادهم لمواجهة الحياة من جهة أخرى، ففي العام الدراسي 2004م - 2005م بلغ عدد طلاب المرحلة الابتدائية وحدها حوالي 6 و8 مليون تلميذ موزعين على 16369 مدرسة حكومية، بينما بلغ عدد التلاميذ في المرحلة الإعدادية في نفس العام الدراسي حوالي 9 و2 مليون تلميذ وتلميذة موزعين على 8757 مدرسة (راجع: كم ينفق المصريون على التعليم؟ عبد الخالق فاروق - الهيئة المصرية للكتاب - ط. مكتبة الأسرة، ص 119 - 120)، وهي أعداد تحتاج إلى أعدادٍ كبيرةٍ مِن المعلمين المؤهلين علميًّا وتربويًّا إلى درجة احتراف مهنة التعليم للتعامل مع هذا الكم الهائل في هذه المرحلة المهمة من العمر، والتي يعد النجاح في تعليمها وتربيتها إصلاحًا للمجتمع، ويعود الفشل في تحقيق ذلك بالوبال على المجتمع ومستقبله ككل.

وللأسف فنسب التسرب مِن التعليم في مرحلة التعليم الأساسي كبيرة، ومستوى كثير من المتخرجين منها متدنٍ بما يوجب ضرورة إعادة النظر في الاهتمام بهذه المرحلة الحرجة مِن مراحل العملية التعليمية في بلادنا.

وقد يتعجب البعض إذا علم أن ِمن أكبر الوظائف أجرًا وأعلاها مكانة اجتماعية في الدول المتقدمة تعليميًّا هم مدرسو التعليم الأساسي، وأن كثيرًا منهم مِن حملة الماجستير والدكتوراة، وعلى درجة كبيرة من التأهل التربوي على عكس الأوضاع في بلادنا تمامًا.

مدة التعليم في السنة الدراسية:

و(مِن البيانات التي لم يلتفت إليها: عدد أيام العمل في السنة الدراسية بعد حذف عطلات الأعياد والمناسبات القومية والامتحانات مما يمثِّل طول السنة التي تتم فيها عمليات التعليم والتعلم الفعليين. ومن الملاحظ: أنها أقصر الفترات مقارنة بالدول المتقدمة والدول الناهضة، ومدتها في تعليمنا ما قبل الجامعي والجامعي لا تتجاوز 170 يومًا في حين أنها في اليابان وفي ماليزيا وسنغافورة، وكوريا الجنوبية والشمالية، وشيلي وباراجوي ما بين 240 و220 يومًا في تلك الدول، وكذلك الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة 220 يومًا.

ومِن ثَمَّ يتيح طول المدة فرصة واسعة لكفاءة التعليم واستيعاب الطلاب وللأنشطة المختلفة، ومِن ثَمَّ نوصي بإطالة فترة الدراسة ثلاثة أسابيع على الأقل، حتى لا يكون قصر المدة ضاغطًا على أجواء العمل؛ مما يعني أيضًا تخفيضًا في فترة العطلة الصيفية) (راجع: المرشد الأمين لتعليم البنات والبنين في القرن الحادي والعشرين، د. حامد عمار - الهيئة المصرية للكتاب - ط. مكتبة الأسرة 2015م، ص: 394 - 395).

أهمية اكتساب الطالب القدرة على التعلم الذاتي:

(يظل التعليم الذاتي من مختلف مصادر المعرفة والثقافة المتاحة في المجتمع مِن أخصب وأمتع مصادر المعرفة التي يمكن أن يستفيد منها الفرد خلال حياته، ويعتمد هذا التعليم الذاتي على ما يتاح للطفل من تأثير أسرته ومحيطه الاجتماعي؛ فضلًا عن دور المدرسة بدءًا مِن مرحلة التعليم الابتدائي في تنمية حواسه المختلفة وحبه للكتاب والقراءة. ومِن ثَمَّ ينمو معه عشق القراءة وصحبة الكتاب بقية حياته، وهذا ما نلحظه لدى أبناء وبنات الثقافات الأمريكية والأوروبية، ومِن الكبار أيضًا في اصطحابهم الكتاب أينما ذهبوا، ونظرًا لقيمة القراءة العلمية في عملية التعلم خلال المدرسة أو الجامعة إلى جانب قيمتها خلال مراحل الحياة خارج المدرسة أو الجامعة يدعوني تقدير تنمية الحب، بل العشق للقراءة إلى اعتباره أهم ما يمكن تنميه وترسخه مرحلة التعليم الابتدائي، مما يهيئ القاعدة والعاطفة نحو التعلم الذاتي.

ومما يؤسف له: أن معظم الطلاب الملتحقين بكليات التربية مثلًا، وبالتالي من خريجيها من المعلمين هم ممن لا يمارسون بشغف القراءات خارج الكتب المقررة، ولا أكون متزيدًا إن قلتُ: إن هذا ينسحب على كثيرٍ مِن طلاب الجامعات وبعض أساتذتها. ومن هنا يتراكم الفقر المعرفي في أجواء التعليم والتعلم بين طلبته وخريجيه ومعلميه وأساتذته.

وهناك الكثير مما هو متاح من مصادر المعرفة والثقافة في مجتمعنا؛ مما يوفِّر زادًا ثريًّا في هذا الشأن مهما تنوعت أو اختلفت توجهاته الفكرية، ويمكن الاستفادة منه عن طريق التعلم الذاتي ومما يغذي ويفتح الآفاق للخصب المعرفي؛ منها مثلًا: الصحافة اليومية أو الأسبوعية، حيث نلحظ أن قليلًا جدًّا من طلابنا ومعلمينا مَن يطلع بانتظام على أي صحيفة أو مجلة علمية أو ثقافية خلال مسيرة تعلمه وبعدها، وهناك كذلك عشرات المنتديات والجمعيات الثقافية وبرامجها الثقافية وقصور الثقافة).

(كذلك لا ننسى التعلم عن مصادر المعرفة الالكترونية في عالم اليوم وما تتيحه صفحات الكومبيوتر من المعارف المطلوبة أو الجديدة بكل يسر وسهولة. وهي مصدر من مصادر المعرفة التي لا غنى عنها. وتسعى كليات الجامعة لدينا إلى أن يكون التدريب على بلوغ مستوى معين من إجادة توظيفه من المقررات الإجبارية للدراسات العليا).

(وينتهي بنا المطاف مع المجتمع المعلم إلى أنه: مِن معوقات التعليم الذاتي لدى الطلاب والمعلمين والأساتذة، قداسة الكتب المقررة والاعتماد الكلي عليها؛ هذا إلى جانب ضعف القدرة المالية لدى كثيرٍ مِن الطلاب مما لا يتيح لهم شراء أو اقتناء أو المشاركة في مصادر المعرفة الأخرى)، (إنه على المدارس والكليات والجامعات أن تتخذ الوسائل التي تزيل تلك العقبات، وأن تتيح لطلابها مصادر التنمية الثقافية الذاتية بمختلف الإجراءات) (راجع: المرشد الأمين لتعليم البنات والبنين في القرن الحادي والعشرين، ص 43 - 45 بتصرفٍ).

خطورة التعليم باللغات الأجنبية:

من أخطر السلبيات في العملية التعليمية في بلادنا: الإقبال المتزايد على التعليم باللغات الأجنبية في المدارس والجامعات الخاصة، وينبغي أن نفرِّق بين أن تكون اللغة الأجنبية هي لغة التعليم على حساب اللغة العربية -اللغة الأم- وبين تعلم لغات أجنبية ضمن المواد الدراسية، فالنهج الأول مرفوض، والأمر الثاني مقبول، طالما أنه لا يطغى على تعلم اللغة العربية. وقد تناول الكاتب د. شكري عياد تلك القضية في كتابه: (مدارس بلا تعليم وتعليم بلا مدارس) حيث يصف الكاتب حال اللغة العربية بأنه (ليس على ما يرام) سواء في التعليم المدرسي أو على المستوى المجتمعي، ويشخص هذه الظاهرة العامة بأنها (تحلل لغوي)، وأنه لابد أن يؤدي إلى تحلل قومي إذا ما استفحل الأمر في سياق ثقافة العولمة وما يسود من ولع بتعليم اللغات الأجنبية كلغة للتدريس في مدارسنا، وتشمل هذه الحال قصور دور المدرسة في مناهجها وطرائق تدريسها، وإلى عدم إتقان الأجيال الناشئة من الشباب لمقومات ألسنتهم وأقلامهم، بل يتعدى ذلك إلى معظم الكبار ممن لا يحسن استعمال لغتهم.

ويضع هذا التحلل اللغوي في سياق ما يجري في المجتمع من تغيرات العولمة والتي نجم عنها التكييف الهيكلي للاقتصاد المصري بما يمكنه من الاندماج في سوق الاقتصاد العالمي. ويعتبر تملك مهارات اللغة الأجنبية أداة مهمة في التعامل مع مجريات تلك الأسواق وما يهيمن عليها من المؤسسات الأجنبية والمتعددة الجنسية، والبنوك الدولية، وعمليات الاستثمار والتجارة استيرادًا وتصديرًا.

واستتبع ذلك ضرورة مزاحمة اللغات الأجنبية للغة العربية في التعامل مع الخارج وفي الداخل لخدمة الخارج أيضًا، ومع توجه التعليم إلى قبلة الخارج أخذت تك اللغات تحتل منزلة متميزة لدخول سوق العمل في قطاعاته الأجنبية ذات الدخل المرتفع لمن يتطلع إلى مناصب مرموقة وأجور مجزية من أجيال اليوم وغدًا، ومِن ثَمَّ انتشرت مدارس اللغات في التعليم العام، كما بدأت الجامعات الخاص تشق طريقها بمقررات تدرس باللغات الأجنبية، ومع تعليم كثير من المقررات بجامعاتنا في كلية الطب والهندسة والعلوم والصيدلة بلغة أجنبية زحف الطلب الضاغط لهذه اللغات على مقررات في كليات أخرى لم تكن تصطنعها من قبل من بينها كليات التجارة والحقوق والتربية، ومع مغريات السوق وعالم (البيزنس) تنفتح أبواب العمل لخريجي الجامعة الأمريكية)، (وهكذا يتسع الطلب على مَن يتقنون لغات أجنبية ليتنامى معه العرض مِن مؤسسات اللغات في مختلف مراحل التعلم من رياض الأطفال إلى الجامعات، وتنضاف مطالب السوق حاليًا تبريرًا لهذه الموجة مع ما ساد مِن الزعم بأن اللغة العربية لا توفِّر للطلاب القدرة على متابعة الحركة العلمية في العالم المتقدم تنضاف لترسخ التعليم باللغات الأجنبية كضرورة مجتمعية، ولا يتسع المجال هنا لمناقشة الفرق بين تعليم اللغة الأجنبية كمادة من مواد الدراسة من ناحية، وبين جعلها لغة التعليم لمناهج الدراسة من الناحية الأخرى.

ونحن مع الطرف الأول وإتقانه للغة أجنبية إلى أقصى درجة مع إدراكنا لما يحدثه الطرف الثاني من صعوبات تعليمية في فهم مضامين المعرفة العلمية لدى الطلاب حين يجهدون في الفهم المزدوج لكلٍّ مِن العلم بلغته واللغة الأجنبية) (راجع: مواجهة العولمة في التعليم والثقافة، د. حامد عمار - الهيئة العامة المصرية للكتاب - مكتبة الأسرة 2006م، ص: 210 - 211).

التمكين للغة العربية من الصغر:

(وفي ضوء تلك الأهمية البالغة لدور اللغة في اكتساب الثقافة القومية وإنتاجها، وفي ضرورة معالجة ما اعتراها من تحلل وتشوه يرى المؤلف -د. شكري عياد-: أن إيقاف هذا التردي وتنمية المهارات اللغوية يتطلب المعالجة على ثلاث جبهات من حياة المتعلم، وهي: جبهة المرحلة السابقة لدخول المدرسة وفي رحاب الأسرة، فمرحلة التعليم المدرسي، ثم جبهة المجتمع كله بمؤسساته الثقافية والإعلامية والعلمية.

وفي نطاق الأسرة يلحظ المؤلف اهتمام الأسرة ومساعدتها للطفل في تعلم اللغة المحكية مِن خلال مواقف التعبير عن احتياجاته، وتفاعله مع أفراد الأسرة منذ السنة الثانية أو الثالثة، وتقوم الأسرة بتصحيح أخطائه عند نطق الحروف وعندما يبدأ في تركيب الجمل؛ بيد أن ذلك الاهتمام والتصحيح يقل أو يتوقف عندما يتقن الطفل لغة الأم المحكية، ولا تظهر محاولات للترقي بتلك اللغة إلى مستوى اللغة المكتوبة، أي: لغة الثقافة، وبعبارة أخرى: يضعف النمو اللغوي للطفل، وتبدأ الفجوة بين لغة الحياة الجارية ولغة الثقافة.

وتؤكد الأبحاث العلمية التجريبية الارتباط بين اقتران النمو العقلي والفكري للطفل من ناحية، واطراد استثارته للنمو اللغوي من الناحية الأخرى؛ ولهذا يتضح الدور الفعال للأسرة في استدامة التنمية لمدركاته اللغوية والعقلية في مرحلة الطفولة المبكرة.

وفي جبهة الأسرة كما في الجبهتين الأخريين تنمو المهارات اللغوية من خلال ما يسميه المؤلف بالنشاط اللغو العملي الذي يتألف من جانبين: أحدهما: استقبال يتمثل في السماع والقراءة، والآخر: إرسال يتمثل في التعبير والكتابة.

وفي هذه المرحلة الباكرة من حياة الطفل يتغذى السماع عن طريق القصص التي تحكي للطفل بطريقة منتظمة سواء أكانت من القصص التقليدية الشعبية المألوفة أم عن طريق قراءة الوالدين له من كتب قصص الأطفال المصورة، ومن المفيد أن يتخلل عملية القصص حديث بين الطفل، ومَن يحكي أو يقرأ له، وأن يتم هذا اللون من النشاط بما يشعر الطفل باهتمام المرسل دون إيحاء منه بشعور الملل أو الضجر.

وفي كثيرٍ مِن البلاد الأجنبية توجد لمرحلة الطفولة المبكرة كتب مصنوعة من القماش تقدم للطفل ويشجع على تقلبيها وعلى التوهم بأنه يقرأ منها ويحرص الكبار على الاستماع إليه والحوار معه حول ما يقوله عنها، وبذلك تغرس بذور الصداقة الحميمة بين الطفل والكتاب، ومع التعبير عما يقرأ أو يحكي يتحقق الجانب الآخر من نمو المهارات اللغوية في الكتابة عن طريق تقديم أوراق وأقلام ملونة ليمارس الطفل (الشخبطة) فيها بداية، ثم محاولة الرسم حين يتقدم به العمر منذ الثالثة أو الرابعة من عمره.

وتتركز خلاصة رأي المؤلف: في أن التعليم والتعلم للغة في مرحلة الطفولة المبكرة في جبهة الأسرة والحضانة ورياض الأطفال، إنما يتم عن طريق النشاط اللغوي العملي الذي يمثِّل روح اللعب وسياقها محوره الرئيسي في عمليات الاستماع والقراءة، والتعبير والكتابة بالصورة التي أشرنا إليها؛ يلعب الطفل باللعب وبالكتاب وبالكتابة، وبالمشاهدة لأفلام الكرتون وألعاب الكومبيوتر، ويحدثنا ونتحدث معه في خلال ذلك كله ساعين إلى تنمية خبراته ومفرداته، وجمله وأساليب تعبيره واستثارة خياله، وتوسيع آفاقه للتعرف والاستكشاف لما يرى ويسمع مع تنامي البيئة التي يتحرك فيها.

ومع هذا النشاط اللغوي العملي بتنوع مواقفه وأدواته وتفاعلاته يتنامى رصيد الطفل اللغوي ويحس بمزيدٍ مِن نضج قدراته العقلية والاجتماعية على التواصل والتعبير، ومِن ثَمَّ يصبح وقد تهيأ لتعليم مهارات القراءة والكتابة والتعبير حيث يتم تمهيد الأرضية التي يمكن أن تغرس فيها تعلم تلك المهارات في رموزها وأشكالها ودلالاتها المكتوبة في المدرسة الابتدائية؛ ذلك هو الأسلوب والمنهج التربوي السليم الذي ينبغي أن تعتمده الأسرة في تهيئة الطفل للتعلم في المراحل الدراسية التالية) (المرجع السابق، ص 213 - 215).

يقول د. حامد عمار: (وتأسيسًا على تلك القاعدة: لا يعجب المرء مِن هبوط مستوى الإتقان والاستمتاع بمهارات اللغة العربية الأم قراءة وكتابة، حين يعلم الاقتصار على كتابِ مطالعةٍ وحيدٍ في مرحلة التعليم الابتدائي والإعدادي، يتألف من تعرف مهارات القراءة والكتابة في السنتين الأولى والثانية في الابتدائي، ويضم في السنوات التالية مجموعة متناثرة من الموضوعات، والقصص والأناشيد والأشعار، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ويقوم التلاميذ بقراءتها، كما يقوم المدرس بشرح كلماتها وتراكيب جملها.

وهكذا تتحدد مستويات النمو اللغوي من حصاد هذا الكتاب الأوحد، ولا يتيح المقرر للتلميذ مصادر أخرى مناسبة تشبع نهمه للقراءة بعد أن سيطر على آلياتها!

والواقع أن عشق القراءة وتكوين مواطن قارئ فيما بعد، لا يتحقق إلا مِن خلال توفير كتب وقصص متنوعة يستمتع بها التلميذ في قراءة حرة لا تثقلها معاني المفردات وتراكيب الجمل ومسائل الإعراب، والمعلومات الجافة كما في كتب العلوم الأخرى) (المرجع السابق، ص 215 - 216).

ويضيف د. حامد: (وفي هذه المرحلة من مراحل التعليم، تغرس بذور هواية القراءة التي يكون لها مردود مباشر وغير مباشر في سلامة التعبير والتفكير، كلامًا وكتابة) (المرجع السابق، ص 216).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة