الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (41) آيات من القرآن في ذم القسوة (19)

هذا النور به عرفوا الحق من الباطل، والإسلام من الكفر، والسنة من البدعة، والحلال من الحرام

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (41) آيات من القرآن في ذم القسوة (19)
ياسر برهامي
الجمعة ٢٨ أغسطس ٢٠٢٠ - ٢٠:٣٨ م
458

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (41) آيات من القرآن في ذم القسوة (19)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (الزمر:22).

الفائدة الثالثة: ذكر الله -عز وجل- من أحوال قلب المؤمن بعد الانشراح للإسلام الذي يترتب عليه الشعور بالسعة والراحة؛ بخلاف الضيق والكرب والكظم، ويترتب عليه تحمل أذى الخلق وسهولة الصفح والعفو، والسماحة والرحمة؛ ذكر سبحانه صفة النور، (فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)، ونسب -سبحانه- هذا النور أنه منه؛ لأن مبدأ النور منه بإنزال كتابه الذي فيه الميزان العدل لعقائد الناس، وأعمالهم وأخلاقهم، وأحوال قلوبهم، وفيه الشرائع التي بها قِوام السماوات والأرض.

وهذا النور في قلب العبد المؤمن من الله خلقًا وإيجادًا، واصطفاءً واجتباءً، قال -تعالى-: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج:78)، فالله الذي سمَّاهم المسلمين حين خلق أرواحهم، وجعلهم من أهل قبضة اليمين، وكتب أسماءهم وأسماء آبائهم في كتاب عنده بأسماء أهل الجنة، وسمَّاهم المسلمين في كتابه المنزل.

وهذا النور به عرفوا الحق من الباطل، والإسلام من الكفر، والسنة من البدعة، والحلال من الحرام، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الأنفال:29)، وهذا مِن جهة الإجمال في اختيار دين الإسلام على ما سواه من الملل، والبراءة من كل دين سوى دين الإسلام، وشهود أنها ظلمات، قال -تعالى-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) (الأنعام:1).

ومِن جهة التفصيل في كل مسائل الحياة كل عام، بل كل شهر، بل كل يوم، بل كل ساعة، فالامتحان مستمر على مَرِّ الأنفاس، قال -تعالى-: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) (الفرقان:20).

 والواحد مِن البشر يتخذ مواقف مختلفة كل لحظة؛ حبًا وبغضًا، وأمرًا ونهيًا، ورضًا وسخطًا؛ فلو لم يكن عنده مِن النور ما يميز به بين الخير والشر لَحَار وجَار، وأخطأ ولم يَهتدِ، قال -تعالى-: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:122).

وقال -تعالى- في بيان مَثل النور الذي جعله في قلب عبده المؤمن: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ .  رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ . لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (النور:35-38).

ثم ذكر قلوب الكفار وما فيها من الضلالات والأوهام والظلمات، فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ . أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) (النور:39-40).

وكان مِن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا، وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا، وَخَلْفِي نُورًا، وَاجْعَلْ لِي نُورًا) (متفق عليه)، وفي رواية: (وَاجْعَلْنِي نُورًا) (رواه مسلم)، فهو عنده النور، وهو كذلك نور للآخرين، فصلَّى الله وسلم على السراج المنير.

وهذا النور مِن أهم ما نحتاجه في وسط فتن متكاثرة، كانت في الماضي كل عام مرة أو مرتين؛ صارت اليوم كل أسبوع مرة أو مرتين في أمورٍ عظيمةٍ، ربما يترتب عليها كفر وإيمان، وفساد وصلاح لمجموع من الناس أو جزءٍ كبيرٍ من الأمة، ودماء تسفك أو تعصم، فالحاجة إلى البصيرة والنور من الله ضرورية كل ساعة وربما كل نفس، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ) (رواه مسلم).

 تُعْرَضُ الفِتَنُ على القُلُوبِ كالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سَوْداءُ، وأَيُّ قَلْبٍ أنْكَرَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حتّى تَصِيرَ على قَلْبَيْنِ، أبْيَضَ مِثْلِ الصَّفا فلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرْضُ، والآخَرُ أسْوَدُ مُرْبادًّا (أي: متسخة) كالْكُوزِ مُجَخِّيًا (أي: منكوسًا) لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إلّا ما أُشْرِبَ مِن هَواهُ " متفق عليه.

فالقلب المستنير ذو البصيرة: صلب كالصخر في الثبات على الحق في العقيدة والعمل والأخلاق الإسلامية الإيمانية، وهو في نفس الوقت لين في حقوق نفسه، سهل التسامح والعفو، والقلب المظلم: شديد الجهل والضلال في معرفة الحق والباطل، يتنازل عن الحق والدين بأيسر ثمن بخس، وهو في نفس الوقت شديد القسوة والشح بالحقوق وأخذ ما لا يستحق؛ يظلم نفسه ويظلم الناس بالبغي والاعتداء، وقد زين له سوء عمله فرآه حسنًا، ورأى سبيل الضلال والغي -الذي هو فيه- سبيل الرشاد، ورأى الحق والإيمان فسادًا في الأرض، قال -تعالى-: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ) (غافر:26).

وقال الله -عز وجل-: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر:29)، فكذب في الجملة الأولى؛ فهو بالفعل يرى خلاف ما أَرَاهُ قوْمَه، (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) (الإسراء:102)، وقال -تعالى-: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (النمل:14)، فهو يعرف الحقيقة، ومع ذلك يقول عن موسى -عليه السلام- ساحر كذاب، وضلَّ في الجملة الثانية فهو يهديهم إلى سبيل الهلاك والردى والنار لا سبيل الرشاد؛ وسبب ذلك هو انعدام النور والبصيرة.

فسبحان الله! الذي قَسَم أحوال القلوب والأعمال والأخلاق بين الناس قسمة عدل؛ فجعل القسوة والظلمة، والظلم والكذب والفجور في الخصومة، والغدر والخيانة، واتباع الشهوات، والعدوان والبغي، صفات وأخلاق مُقارِنة للكفر والنفاق والفسوق والعصيان بدرجاتٍ متفاوتةٍ، وجعل اللين والعلم والبصيرة، والعدل والصدق، والإنصاف والوفاء، وأداء الأمانات، ونهي النفس عن الهوى، والتزام الحق مع الأعداء فضلًا عن الأولياء، صفاتٍ وأخلاقٍ مُقارِنة للإسلام والإيمان والإحسان.

والناس بين الطرفين أنصبة مختلفة؛ فانظر مكانك فيها، وإن كنتَ قد رزقك الله العلم والبصيرة، والعدل والصدق والوفاء، ولو ظُلمتَ وغُبنت واعتُدي عليك وبُغي عليك؛ فاحمد الله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء مِن شيءٍ بعد.

فالدنيا كلها تزول، ظالمها يزول ومظلومها يزول، وإنما يبقى عملك وخلقك وإيمانك، باء الظالم بظلمه وفُزْتَ وربِّ الكعبة بالصفقة الرابحة، قال -تعالى-: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (الإسراء:21)، وقال -تعالى-: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَاب) (آل عمران:195).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة