السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (49) آيات من القرآن في ذم القسوة (27)

مَن مرض قلبه بالقسوة والغفلة والبُعد فلا ييأس أن يعود إلى حياة الخشوع والذكر والقُرب

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (49) آيات من القرآن في ذم القسوة (27)
ياسر برهامي
الجمعة ٢٣ أكتوبر ٢٠٢٠ - ٠٠:١٢ ص
419

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (49) آيات من القرآن في ذم القسوة (27)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال الله -تعالى-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ . اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد:16-17).

الفائدة السابعة: دلَّ قوله -سبحانه وتعالى-: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) بعد قوله: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) على أن القلوب تتقلب بين الحياة والموت، كما تتقلب الأرض بين موتها وحياتها بالنبات، وأن الله -سبحانه وتعالى- كما يحيي الأرض بعد موتها؛ يحيي القلوب بعد موتها.

ودلَّت على أن القلب القاسي ميت، وأن القلب الخاشع حي، وأن مَن مرض قلبه بالقسوة والغفلة والبُعد فلا ييأس أن يعود إلى حياة الخشوع والذكر والقُرب، فالله يحيي القلوب بالإيمان من بعد موتها بالكفر، ويحييها بالعلم بعد موتها بالجهل، ويحييها بالخشوع بعد موتها بالقسوة، ويحييها بالإخلاص بعد موتها بعبادة الهوى وإرادات الدنيا؛ فلا تيأسن أيها الإنسان بسبب ما تجده من القسوة في القلب؛ فإن الله قادر على إحيائه، كما يحيي الأرض بعد موتها.

 وقد تكرر هذا المعنى كثيرًا في القرآن، قال الله -تعالى-: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ . وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ . وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ . وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ . إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) (فاطر:19-23).

الأموات جماعة الكفار وهم الذين في القبور، والأحياء جماعة المؤمنين، والله -عز وجل- يحيي مَن يشاء بالوحي المنزل، قال الله -تعالى-: (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَ?لِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:122).

قال ابن القيم -رحمه الله-: "المراد بها مَن كان ميت القلب بعدم روح العلم والهدى والإيمان؛ فأحياه الرب -تعالى- بروح أخرى غير الروح التي أحيا بها بدنه؛ وهي روح معرفته وتوحيده ومحبته وعبادته وحده لا شريك له إذ لا حياة للروح إلا بذلك وإلا فهي في جملة الأموات؛ ولهذا وصف الله -تعالى- مَن عدم ذلك بالموت، فقال: (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ)، وقال -تعالى-: (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ) (الروم:52).

 وسمَّى وحيه روحًا لما يحصل به من حياة القلوب والأروح؛ فقال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى:52)، فأخبر أنه روح تحصل به الحياة، وأنه نور تحصل به الإضاءة، وقال -تعالى-: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) (النحل:2)، وقال -تعالى-: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) (غافر:15)، فالوحي حياة الروح، كما أن الروح حياة البدن؛ ولهذا مَن فقد هذه الروح؛ فَقَدْ فَقَدَ الحياة النافعة في الدنيا والآخرة.

أما في الدنيا فحياته حياة البهائم وله المعيشة الضنك، وأما في الآخرة فله جهنم؛ لا يموت فيها ولا يحيا، فقد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته؛ فقال: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97).

وقد فسِّرت الحياة الطيبة بالقناعة والرضا والرزق الحسن، وغير ذلك، والصواب: أنها حياة القلب ونعيمه وبهجته وسروره بالإيمان، ومعرفة الله ومحبته، والإنابة إليه والتوكل عليه؛ فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة، كما كان بعض العارفين يقول: "إنه لتمر بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا؛ إنهم لفي عيش طيب" "قلتُ: وهذا على توهمه؛ فإن ما في الجنة من أنواع النعيم الحسي والمعنوي ما لا يخطر على القلب، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ) (متفق عليه)". 

وقال غيره: "إنه ليمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربًا"، وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح، فإنه ملكها؛ ولهذا جعل الله المعيشة الضنك لمن أعرض عن ذكره؛ وهي عكس الحياة الطيبة، وهذه الحياة الطيبة تكون في الدُّور الثلاث؛ أعني دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار، والمعيشة الضنك أيضًا تكون في الدور الثلاث؛ فالأبرار في النعيم هنا وهنالك، والفجار في الجحيم هنا وهنالك، قال الله -تعالى-: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) (النحل:30)، وقال -تعالى-: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) (هود:3)،  فذِكْرُ الله -سبحانه وتعالى- ومحبته وطاعته والإقبال عليه ضامن لأطيب الحياة في الدنيا والآخرة، والإعراض عنه والغفلة ومعصيته كفيلة بالحياة المنغصة، والمعيشة الضنك في الدنيا والآخرة" (انتهى).

وقال أيضًا في كلام صاحب المنازل: "الحياة في هذا الباب يشار بها إلى ثلاثة أشياء: الحياة الأولى: حياة العلم من موت الجهل، ولها ثلاثة أنفاس: نفس الخوف، ونفس الرجاء، ونفس المحبة.

قال: الحياة التي أشار إليها المصنف، هي حياة العلم من موت الجهل؛ فإن الجهل موت لأصحابه، كما قيل:

وفـي الجهْلِ قبل الموتِ موتٌ لأهله                وأجـسامـُهـم قـبـل القـبـورِ قبـورُ

وأرواحُهم في وَحْشَةٍ من جُسُومِهم                 فـلـيـس لـهـم حتى النشورِ نشورُ

فإن الجاهل ميت القلب والروح، وإن كان حي البدن؛ فجسده قبر يمشي به على وجه الأرض، قال الله -تعالى-: (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَ?لِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:122)، وقال -تعالى-: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ . لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) (يس:69-70)، وقال -تعالى-: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ) (النمل:80)، وقال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (فاطر:22)، وشبههم في موت قلوبهم بأهل القبور؛ فإنهم قد ماتت أرواحهم، وصارت أجسامهم قبورًا لها، فكما أنه لا يسمع أصحاب القبور، كذلك لا يسمع هؤلاء، وإذا كانت الحياة هي الحس والحركة وملزومهما، فهذه القلوب لمَّا لم تحس بالعلم والإيمان ولم تتحرك له؛ كانت ميتة حقيقة، وليس هذا تشبيهًا لموتها بموت البدن؛ بل ذلك موت القلب والروح.

وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد من كلام لقمان أنه قال لابنه: "يا بني جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك؛ فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الأرض بوابل القطر".

وقال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "تعلموا العلم؛ فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدِّث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقوامًا؛ فيجعلهم في الخير قادة وأئمة؛ تُقتص آثارهم، ويقتدَى بأفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، تَرغبُ الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، يستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه؛ لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظُّلَم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار، والدرجات العلا في الدنيا والآخرة، التفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يُعرف الحلال من الحرام، وهو إمام العمل، والعمل تابعٌ له، يُلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء". رواه الطبراني وابن عبد البر، وغيرهما، وقد روي مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، والوقف أصح. والمقصود قوله: "لأن العلم حياة القلوب من الجهل" فالقلب ميت، وحياته بالعلم والإيمان" (انتهى كلام ابن القيم -رحمه الله- من مدارج السالكين).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة