السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (51) آيات من القرآن في ذم القسوة (29)

مِن أهم علامات حياة القلب ولينه، وذهاب القسوة عنه والجفاء: أخلاق الإنسان، وطريقة تعامله مع مَن حوله مِن الناس

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (51) آيات من القرآن في ذم القسوة (29)
ياسر برهامي
الخميس ٠٥ نوفمبر ٢٠٢٠ - ٢٣:٣٢ م
448

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (51) آيات من القرآن في ذم القسوة (29)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال الله -تعالى-: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد:17).

إن مِن أهم علامات حياة القلب ولينه، وذهاب القسوة عنه والجفاء: أخلاق الإنسان، وطريقة تعامله مع مَن حوله مِن الناس؛ بل ومع الخلق جميعًا؛ فإنها مرآة إيمانه وأحواله مع الله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلِ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وهذا مِن أوضح الأدلة على الارتباط بين الإيمان وحسن الخلق.

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ) (رواه الترمذي وأبو داود وابن حبان، وصححه الألباني)، وفي رواية: (وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ، فَقَالَ: (تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ)، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ، فَقَالَ: (الفَمُ وَالفَرْجُ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وعن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- قال: سَألْتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عن البِرِّ والإِثْمِ، فقال: (الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ) (رواه مسلم).

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا، وَكَانَ يَقُولُ: (إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا) (متفق عليه).

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ، قَائِمِ اللَّيْلِ صَائِمِ النَّهَارِ) (رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني).

وفي الحديث الطويل لأبي ذر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: (لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ، وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ) (رواه ابن ماجه، وقد حُسِّن إسناده)،  وعن أبي أُمَامة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ) (رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الألباني).

وعن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)؛ وذلك لأن حسن الخلق هو علامة غنى القلب بالله -سبحانه وتعالى- بحسن عبادة الله -عز وجل- وحصول حبه في قلب العبد، والرغبة فيما عنده، والخوف من سخطه وعقابه؛ فيعامل الناس بالأخلاق الحسنة لاستغنائه عنهم، كما قال الجيلاني -رحمه الله-: "كن مع الخَلْق بلا نَفْس، وكن مع الحق بلا خلق"؛ فكونه مع الحق بلا خَلْق هو الإخلاص، وكونه مع الخَلْق بلا نَفْس هو حُسْن الخُلُق، والعفو والصفح والتجاوز.

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في حياة الأخلاق والصفات المحمودة: "هي حياة راسخة للموصوف بها، فهو لا يتكلف الترقي في درجات الكمال، ولا يشق عليه؛ لاقتضاء أخلاقه وصفاته لذلك؛ بحيث لو فارقه ذلك لفارق ما هو من طبيعته وسجيته، فحياة مَن قد طُبِع على الحياء والعفة، والجود والسخاء، والمروءة والصدق والوفاء، ونحوها، أتم مِن حياة مَن يقهر نفسه، ويغالب طبعه حتى يكون كذلك، فإن هذا بمنزلة مَن تعارضه أسباب الداء وهو يعالجها ويقهرها بأضدادها، وذلك بمنزلة مَن قد عُوفي مِن ذلك.

(قلتُ: وإن كان الذي يجاهد نفسه لإصلاح خُلُقه على سبيل نجاة أيضًا؛ فإن الناس ثلاث مراتب؛ مَن جُبل على الأخلاق الحسنة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأشج عبد القيس: (إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمُ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا؟ قَالَ: (بَلِ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا) قَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ". (رواه مسلم مختصرًا، وأبو داود بلفظه وحسنه الألباني). والمرتبه الثانية: مَن يجاهد لتحقيق حُسْن الخلق؛ ولو لم يكن هذا الأمر ممدوحًا مرغَّبًا فيه مقدورًا عليه؛ لَمَا رغَّب فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. والمرتبة الثالثة: مَن سَاء خُلُقه؛ لعدم مجاهدة نفسه في تحسين خلقه، وهذا أقل المراتب)- وكلما كانت هذه الأخلاق في صاحبها أكمل كانت حياته أقوى وأتم؛ ولهذا كان خُلُق الحياء مشتقًا مِن الحياة اسمًا وحقيقة؛ فأكمل الناس حياة أكملهم حياءً، ونقْص حياء المرء مِن نقصان حياته.

فإن الروح إذا ماتت لم تحس بما يؤلمها من القبائح؛ فلا تستحيي منها، فإذا كانت صحيحة الحياة أحست بذلك؛ فاستحيت منه، وكذلك سائر الأخلاق الفاضلة والصفات الممدوحة تابعة لقوة الحياة، وضدها مِن نقصان الحياة؛ ولهذا كانت حياة الشجاع أكمل مِن حياة الجبان، وحياة السخي أكمل من حياة البخيل، وحياة الفَطِن الذكي أكمل مِن حياة الفَدْمِ البليد؛ ولهذا لما كان الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- أكمل الناس حياة -حتى إن قوة حياتهم تمنع الأرض مِن أن تُبْلِيَ أجسامهم- كانوا أكمل الناس في هذه الأخلاق، ثم الأمثل فالأمثل.

فانظر -الآن- إلى حياة حلَّافٍ مَهين همَّاز مشَّاء بنميمٍ، منَّاع للخير معتد أثيم، عُتُل بعد ذلك زنيم، وحياة جَوَادٍ شجاع بَرٍّ عادل عفيف مُحسن؛ تجد الأول ميتًا بالنسبة إلى الثاني، ولله در القائل:

وما لـلـمرء خَـيْـرٌ في حياةٍ               إذا ما عُدَّ مِن سَقَطِ الـمَتَاعِ"

انتهى كلام ابن القيم -رحمه الله-.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة