الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

لحظة... قبل أن تطلق! (2)

فأهل البصيرة أشعروا أنفسهم عداوة الشيطان وترصده فألزموها الحذر واشتغلوا بعداوته ما عاشوا

لحظة... قبل أن تطلق! (2)
وائل عبد القادر
الخميس ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٠ - ١٠:٢٤ ص
430

لحظة... قبل أن تطلق! (2)

كتبه/ وائل عبد القادر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإليك -أخي الكريم- القواعد والضوابط التى تحكم حل المشكلات الزوجية:

القاعدة الأولى: اعرف عدوك:

عداوة الشيطان للإنسان عداوة قديمة ومعلومة من خلال الآيات والأحاديث الكثيرة، قال -تعالى-: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (فاطر:6)، (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (يس:60)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) (النور:21).

وقد أخذ الشيطان العهد على نفسه بالأيمان المغلظة بإغواء بني آدم وإضلالهم، وتنكيبهم الصراط المستقيم، (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (ص:82).

وقال -تعالى- على لسان إبليس: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف:16).

وذلك من خلال وسائل وأساليب تمثِّل في مجموعها حربًا ضروسًا واضحة المعالم ضد الإنسان، فقال -سبحانه-: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا) (الإسراء:64).

جاء في "التفسير الميسر": "واستَخْفِف كل مَن تستطيع استخفافه منهم بدعوتك إياه إلى معصيتي، واجمع عليهم كل ما تقدر عليه مِن جنودك مِن كل راكب وراجل، واجعل لنفسك شِرْكة في أموالهم بأن يكسبوها من الحرام، وشِرْكة في الأولاد بتزيين الزنى والمعاصي، ومخالفة أوامر الله حتى يكثر الفجور والفساد، وعِدْ أتباعك مِن ذرية آدم الوعود الكاذبة؛ فكل وعود الشيطان باطلة وغرور".

فأهل البصيرة أشعروا أنفسهم عداوة الشيطان وترصده فألزموها الحذر واشتغلوا بعداوته ما عاشوا، وأهل الغفلة تناسوا ذلك؛ فوقعوا في شراكه، واستجابوا لحبائله ولبوا دعواته، فكان الخسار والبوار، ولم يفيقوا إلا بعد وقوع المحذور وانتهاء الأعمار، فتحسروا وندموا ولات حين مناص؛ فهو لا يترك ما يمكن أن يلقي العداوة بين الناس إلا ويأتيه ويحرص عليه، ومن ذلك: إلقاء الفتن والتحريش بينهم لما يجره ذلك من التقاطع والتدابر والتقاتل بين المسلمين.

وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ) (رواه مسلم). وَمَعْنَاهُ: أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ أَهْلُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنَّهُ سَعَى فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ بِالْخُصُومَاتِ وَالشَّحْنَاءِ وَالْحُرُوبِ، وَالْفِتَنِ وَنَحْوِهَا.

وأعظم أنواع التحريش: أن يسعى للفرقة بين المرء وزوجه؛ فهذا منتهى أمانيه من بني آدم بعد الكفر، وقد صوَّر هذا المعنى حديث مسلم -رحمه الله- في بَابُ تَحْرِيشِ الشَّيْطَانِ وَبَعْثِهِ سَرَايَاهُ لِفِتْنَةِ النَّاسِ، فأخرج بسنده عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ) قَالَ الْأَعْمَشُ: أُرَاهُ قَالَ: (فَيَلْتَزِمُهُ).

والعرش هو: سرير الملك، ومعنى إن عرش إبليس على البحر: أن مركزه البحر، ومنه يبعث سراياه في نواحي الأرض. (قاله النووي -رحمه الله- في شرح مسلم).

فالمسلم العاقل هو الذي يعرف عدوه ويعي جيدًا ما يبتغيه منه؛ فيفوت عليه فرصة التحريش بينه وبين زوجته، فيعرف كيف يحل الأمور قبل أن تتضخم وتتكاثر عليه فلا يقيم الدنيا على أتفه الأمور، ولا يبحث عن دقائق الأشياء ويثيرها ويلهب الحديث عنها، ولا تستفزه بُداءات المشاكل أو مطالب الزوجة المتكررة بطلاقها مع أول مشكلة تقع، ولا يتتبع العثرات والزلات التي لا تخلو منها البيوت، بل هو العاقل اللبيب الذي قالت عنه العرب: (العاقل: هو الفطن المتغافل)، فيمرر ما يقبل التمرير مِن الحوادث والأشياء، ولا يقف على صغيرها وحقيرها فيضيق منافذ الجدال، والقيل والقال، بما يعني تضيق منافذ الشقاق والخلاف، فيحل مشاكله بعيدًا عن التلفظ بالطلاق أو الحلف به أو التوعد بإيقاعه، فيا له من زوج عاقل لبيب!

وَمـن لَـم يُغـمّـض عَـينَهُ عَن صَديقِهِ               وَعَن بَعضِ ما فيهِ يَمُت وَهُوَ عاتِبُ

وَمـَن يـَتـَبَّـع جَـاهِــدًا كُــلَّ عَــــثــرَةٍ                 يجدها وَلا يَسلَم لَهُ الدَهرَ صـاحِــبُ

ومِن هنا ندرك أن كثيرًا مِن حالات الطلاق مرجعها إلى: تضخيم الأمور والمشكلات التى بدأت صغيرة، والتي يمكن أن توأد في مهدها؛ إلا أن الاستجابة إلى وساوس الشيطان جعلها تكبر حتى استعصت على الحلول إلا بفصم عرى الزوجية.

القاعدة الثانية: إدراك طبيعة المرأة وما جبلت عليه فى أصل خلقتها:

ويخبرك عن ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ) قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: (يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ) (متفق عليه)، وكذا ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، إِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا) (متفق عليه)، وفي رواية لمسلم: (إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا).

وفي هذه الأحاديث عدة فوائد، منها:

1- ما جبلت عليه المرأة فى أصل خلقتها من عوج أخلاقهن وضعف عقولهن، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يكمل منهن سوى أربعة نسوة من نساء البشر كلهن.

2- أن كفرانها العشير، أي: جحودها لحق الزوج وما له من فضل عليها؛ فهو دأب المرأة مع زوجها، وحالها الذي لا يكاد تنخلع عنه أو تنفك منه كالمصرة عليه دائمًا.

قال ابن حجر -رحمه الله- في "الفتح": "فيه إشارة إلى وجود سبب التعذيب؛ لأنها بذلك كالمصرة على كفر النعمة، والإصرار على المعصية من أسباب العذاب".

3- أن تقويم الاعوجاج يكون برفقٍ حتى لا يكسر بالكلية، وكذا لا يترك فيستمر على عوجه... خاصة إذا تعدى الاعوجاج من نقص هو في طبيعة المرأة إلى معصية بمباشرة منكر أو ترك واجب.

4- قال الإمام النووي -رحمه الله-: "وَفِي هَذَا الْحَدِيث: مُلَاطَفَة النِّسَاء وَالْإِحْسَان إِلَيْهِنَّ وَالصَّبْر عَلَى عِوَج أَخْلَاقهنَّ وَاحْتِمَال ضَعْف عُقُولهنَّ، وَكَرَاهَة طَلَاقهنَّ بِلَا سَبَب، وَأَنَّهُ لَا يَطْمَع بِاسْتِقَامَتِهَا وَاَللَّه أَعْلَم".

5- قال الإمام ابن حجر -رحمه الله-: "وفي الحديث: سياسة النساء بأخذ العفو منهن والصبر على عوجهن، وأن مَن رام تقويمها فاته الانتفاع بهن، مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معاشه، فكأنه قال: الاستمتاع بها لا يتم إلا بالصبر عليها".

فمفاد ذلك كله: أن الزوج العاقل هو مَن يتعامل مع زوجته على مقتضى هذه الفطرة والجبلة التى قال عنها الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: (لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ)، والتي فسَّرها الأئمة الأعلام بقولهم: "وَأَنَّهُ لَا يَطْمَع بِاسْتِقَامَتِهَا"، فيلزمه التحمل والصبر لهذا العوج الناشئ عن جبلة خلقية فيهن، والذي لا سبيل لاستقامته؛ إلا بالمداراة تارة، والتغافل تارة، والصبر والتحمل تارة أخرى.

ولا ينقص أبدًا من قدر الرجل أن يلعب كل هذه الأدوار وغيرها فى تعامله مع زوجته؛ فنظرة تأمل لسيرة خير الأزواج لأهله -صلى الله عليه وسلم-، سيطالع فيها الزوج كل هذه الأساليب كنموذج عملي لما قاله ونصح به -عليه الصلاة والسلام-.

ومِن ذلك مثلًا: هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري -رحمه الله- عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتِهَا يَدَ الخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ: (غَارَتْ أُمُّكُمْ) ثُمَّ حَبَسَ الخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ المَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ".

ومِن هنا نعلم: لماذا تفشل كثيرٌ مِن العلاقات الزوجية، والتي قد يرجع السبب فيها غالبًا إلى الزوج الذي لا يتعامل مع زوجته على مقتضى هذه الخلقة والفطرة، فينسى نفسه، ويظن أنه يتعامل مع رجل مثله فينتظر كمال العقل والسؤدد والحكمة، وهذا لا شك إن حدث في بعض الأوقات؛ فلن يسلم له في أحوالٍ أخرى كثيرة.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة