الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (54) آيات من القرآن في ذم القسوة (32)

العبد لا يزال رابحًا على ربه أفضل مما قدم له

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (54) آيات من القرآن في ذم القسوة (32)
ياسر برهامي
الخميس ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٠ - ١٠:٣٤ ص
565

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (54) آيات من القرآن في ذم القسوة (32)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ . اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد:16-17).

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في حياة الفرح والسرور بعد أن بيَّن أن طريقها يبدأ بمعرفة الله، وحصول شواهد الآخرة في القلب، والزهد في الدنيا والتوبة، وفعل المأمورات الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات الظاهرة والباطنة، وحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومطالعة سنته وسيرته، وفهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه، ومشاهدة صفات الله -عز وجل- كأنه يراها.

قال -رحمه الله-: "فإذا رسخ قلبُه في ذلك؛ شهد الصفة المُصَحِّحَة لجميع صفات الكمال؛ وهي الحياة التي كمالها يستلزم كمال السمع والبصر، والقدرة والإرادة، والكلام، وسائر صفات الكمال لله -عز وجل-، وصفة القيُّومية الصحيحة المُصَحِّحَة لجميع الأفعال، فالحي القيوم: مَن له كل صفة كمال، وهو الفعَّال لما يريد.

فإذا رسخ قلبه في ذلك: فُتِح له مشهد القرب والمعيِّة؛ فيشهده -سبحانه- معه، غير غائب عنه، قريبًا غير بعيد؛ مع كونه فوق سماواته على عرشه، بائنًا من خلقه، قائمًا بالصنع والتدبير، والخلق والأمر؛ فيحصل له مع التعظيم والإجلال الأنسُ بهذه الصفة؛ فيأنس به بعد أن كان مستوحشًا، ويقوى به بعد أن كان ضعيفًا، ويفرح به بعد أن كان حزينًا، ويجد بعد أن كان فاقدًا؛ فحينئذٍ يجد طعم قوله: (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ) (رواه البخاري).

فأطيب الحياة على الإطلاق حياة هذا العبد؛ فإنه محب محبوب، متقرب إلى ربه، وربُّه قريب منه، قد صار له حبيبُه -لِفَرْطِ استيلائه على قلبه، ولَهْجِه بذكره، وعكوف همته على مرضاته- بمنزلة سمعه وبصره ويده ورجله، وهذه آلات إدراكه وعمله وسعيه، فإن سَمِع سَمِع بحبيبه، وإن أبْصَر أبْصر به، وإِنْ بَطَش بَطَش به، وإِنْ مشى مشى به.

فإن صَعُبَ عليك فَهْمُ هذا المعنى، وكون المحب الكامل المحبة يسمع ويبصر، ويبطش، ويمشي بمحبوبه، وذاتُه غائبةٌ عنه؛ فاضْرب عنه صفحًا، وخَلِّ هذا الشأن لأهله.

فإِنَّ السالك إلى ربه لا تزال همتُه عاكفة على أمرين: استفراغ القلب في صدق الحب، وبذل الجهد في امتثال الأمر، فلا يزال كذلك حتى يبدو على سره شواهد معرفته، وآثار صفاته وأسمائه، ولكن يتوارى عنه ذلك أحيانًا، ويبدو أحيانًا، يبدو من عين الجود، ويتوارى بحكم الفَتْرة (أي: الفتور)، والفترات أمر لازم للعبد، فكل عامل له شِرَّة، ولكل شِرَّة فَتْرة، فأعلاها فترة الوحي؛ وهي للأنبياء، وفترة الحال الخاص للعارفين، وفترة الهمة للمريدين، وفترة العمل للعابدين، وفي هذه الفترات أنواع من الحكمة والرحمة، والتعرُّفات الإلهية، وتعريف قدر النعمة، وتجديد الشوق إليها، ومحض التواجد إليها، وغير ذلك.

ولا تزال تلك الشواهد تتكرر وتتزايد، حتى تستقر، وينصبغ بها قلبه، وتصير الفترة غير قاطعة له؛ بل تكون نعمة عليه، وراحة له، وترويحًا وتنفيسًا عنه.

فَهِمَّةُ المُحب إذا تعلقت روحُه بحبيبه، عاكفًا على مزيد محبته، وأسباب قوتها؛ فهو يعمل على هذا، ثم يترقى منه إلى طلب محبة حبيبه له، فيعمل على حصول ذلك، ولا يُعْدَمُ الطلب الأول، ولا يفارقه البتة؛ بل يندرج في هذا الطلب الثاني (أي: محبة الله لعبده يندرج فيها محبة العبد لربه)، فتتعلق همته بالأمرين جميعًا، فإنه إنما يحصل له منزلة: (كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ) بهذا الأمر الثاني، وهو كونه محبوبًا لحبيبه، كما قال في الحديث: (فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ) إلخ، فهو يتقرب إلى ربه حفظًا لمحبته له، واستدعاء لمحبة ربه له.

فحينئذٍ يشد مئزر الجد في طلب محبة حبيبه له بأنواع التقرب إليه؛ فقلبه: للمحبة والإنابة، والتوكل والخوف والرجاء، ولسانه: للذكر وتلاوة كلام حبيبه، وجوارحه: للطاعات؛ فهو لا يفتر عن التقرب مِن حبيبه.

وهذا هو السير المُفْضي إلى هذه الغاية التي لا تُنَال إلا به، ولا يُتَوصل إليها إلا من هذا الباب، وهذه الطريق، وحينئذٍ تُجْمَع له في سيره جميع متفرقات السلوك من الحضور والهيبة، والمراقبة، ونفي الخواطر -(أي: خواطر السوء، والتخلص منها)- وتخلية الباطن -(أي: تخليته من شواغل الدنيا وتفريغه لعبادة الله وحده)-.

فإن المحب يشرع أولًا في التقربات بالأعمال الظاهرة، وهي ظاهر التقرب، ثم يترقى من ذلك إلى حال التقرب، وهو الانجذاب إلى حبيبه بكليته؛ بروحه وقلبه وعقله وبدنه، ثم يترقى من ذلك إلى حال الإحسان؛ فيعبد الله كأنه يراه؛ فيتقرب إليه حينئذٍ من باطنه بأعمال القلوب؛ من المحبة والإنابة، والتعظيم والإجلال والخشية؛ فينبعث حينئذٍ مِن باطنه الجود ببذل الروح، والجود في محبة حبيبه بلا تكلف، فيجود بروحه ونفسه، وأنفاسه وإرادته، وأعماله لحبيبه حالًا لا تكلفًا، فإذا وجد المحب ذلك فقد ظَفَر بحال التقرب وسره وباطنه، وإن لم يجده فهو يتقرب بلسانه وبدنه وظاهره فقط، فليدم على ذلك، وليتكلف التقرب بالأذكار والأعمال على الدوام، فعساه أن يحظى بحال القرب.

ووراء هذا القرب الباطن أمر آخر أيضًا، وهو شيء لا يُعَبَّر عنه بأحسن من عبارة أقرب الخلق إلى الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذا المعنى، حيث يقول حاكيًا عن ربه -تبارك وتعالى-: (إِذَا تَقَرَّبَ عَبْدِي مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا - أَوْ بُوعًا - وَإِذَا أَتَانِي يَمْشِي، أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) (متفق عليه)، فيجد هذا المحب في باطنه ذوق معنى هذا الحديث ذوقًا حقيقيًّا.

فذكر مِن مراتب القرب ثلاثة، ونبَّه بها على ما دونها وما فوقها؛ فذكر تقرب العبد إليه بالشبر، وتقربُه -سبحانه- إلى العبد ذراعًا، فإذا ذاق العبد حقيقة هذا التقرب انتقل منه إلى تقرب الذراع، فيجد ذوق تقرب الرب إليه باعًا؛ فإذا ذاق حلاوة هذا القرب الثاني أسرع المشي حينئذٍ إلى ربه؛ فيذوق حلاوة إتيانه إليه هرولة، وهاهنا منتهى الحديث، مُنبهًا على أنه إذا هرول عبده إليه كان قرب حبيبه منه فوق هرولة العبد إليه، فإما أن يكون قد أمسك عن ذلك لعظيم شاهد الجزاء، أو لأنه يدخل في الجزاء الذي لم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر، أو إحالةً له على المراتب المتقدمة، فكأنه قيل له: "وقس على هذا"؛ فعلى قدر ما تبذل منك مُتقربًا إلى ربك؛ يتقرب إليك ربك بأكثر منه -(وهذا هو الصحيح في معنى الحديث)-، وعلى هذا؛ فلازم هذا التقرُّب المذكور في مراتبه؛ أي: مَن تقرَّب إلى حبيبه بروحه وجميع قواه، وإرادته، وأقواله وأعماله؛ تقرَّب الربُّ منه -سبحانه- بنفسه في مقابلة تقرب عبده إليه.

وليس القرب في هذه المراتب كلها قرب مسافة حسية ولا مماسة؛ بل هو قرب حقيقي، والربُّ -تعالى- فوق سماواته على عرشه، والعبد في الأرض، وهذا الموضع هو سر السلوك، وحقيقة العبودية، وهو معنى الوصول الذي يدندن حوله القوم، ومِلَاكُ هذا الأمر هو قصد التقرب أولًا، ثم التقرب ثانيًا، ثم حال القرب ثالثًا، وهو الانبعاث بالكلية إلى الحبيب.

وحقيقة هذا الانبعاث: أن تفنى بمراده عن هواك، وبما منه عن حظك؛ بل يصير ذلك هو مجموع حظك ومرادك، وقد عرفت أن مَن تقرب إلى حبيبه بشيء من الأشياء جُوزِي على ذلك بقربٍ هو أضعافه، وعرفت أن أعلى أنواع التقرب تقرُّب العبد بجملته بظاهره وباطنه وبوجوده إلى حبيبه، فمن فعل ذلك فقد تقرب بكله، ولم تبقَ منه بقية لغير حبيبه، كما قيل:

لَا كَانَ مَنْ لِسِوَاكَ فِيهِ بَقِيَّةٌ               يَجِدُ السَّبِيلَ بِهَا إِلَيْهِ العُذَّلُ

وإذا كان المُتقرِّبُ إليه بالأعمال يُعطَى أضعاف أضعاف ما تَقرَّبَ به؛ فما الظن بمَن أُعطي حال التقربِ وذوقَه ووجْدَه؟ فما الظن بمَن تقرَّب إليه بروحه وجميع إرادته وهمته وأقواله وأعماله؟

وعلى هذا فكما جاد لحبيبه بنفسه؛ فإنه أهل أن يُجَاد عليه، بأن يكون ربه -سبحانه- هو حظه ونصيبه؛ عوضًا عن كل شيء جزاءً وفاقًا، فإن الجزاء من جنس العمل، وشواهد هذا كثيرة:

منها: قوله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق:2-3)، ففرَّق بين الجزاءين كما ترى، وجعل جزاء المتوكل عليه كونه -سبحانه- حسبه وكافيه.

ومنها: أن الشهيد لما بذل حياته لله أعاضه الله -سبحانه- حياة أكمل منها عنده في مَحَلِّ قُرْبِهِ وكرامته.

ومنها: أن مَن بذل لله شيئًا أعاضه الله خيرًا منه.

ومنها: قوله -تعالى-: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) (البقرة:152).

ومنها: قوله في الحديث القدسي: (فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ) (متفق عليه).

ومنها: قوله: (وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا) (متفق عليه).

فالعبد لا يزال رابحًا على ربه أفضل مما قدم له، وهذا المُتقرِّب بقلبه وروحه وعمله يفتح عليه ربُّه بحياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة؛ بل حياة مَن ليس كذلك بالنسبة إلى حياته؛ كحياة الجنين في بطن الأم بالنسبة إلى حياة أهل الدنيا ولذتهم فيها؛ بل أعظم من ذلك.

فهذا نموذج من بيان شرف هذه الحياة وفضلها، وإن كان علم هذا يوجب لصاحبه حياة طيبة؛ فكيف إن انصبغ القلب به، وصار حالًا ملازمًا لذاته؟ فالله المستعان.

فهذه الحياة: هي حياة الدنيا ونعيمها في الحقيقة؛ فمَن فقدها ففقده لحياته الطبيعية أولى به، فلا عيش إلا عيش المحبين الذين قَرَّتْ أعينهم بحبيبهم، وسكنت نفوسهم إليه، واطمأنت قلوبهم به، واستأنسوا بقربه، وتنعموا بحبه، ففي القلب فاقة لا يسدها إلا محبة الله والإقبال عليه والإنابة إليه، ولا يُلَمُّ شعثُه بغير ذلك البتة، ومَن لم يظفر بذلك؛ فحياته كلها هموم وغموم، وآلام وحسرات، فإنه إن كان ذا همة عالية تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، فإن همته لا ترضى فيها بالدون، وإن كان مَهينًا خسيسًا؛ فعيشه كعيش أخس الحيوانات، فلا تقر العيون إلا بمحبة الحبيب الأول.

نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الهَوَى                   مَـا الــحُــبُّ إِلَّا لِـلـحَــبِـيـبِ الْأَوَّلِ

كَـــــمْ مَــــنْزِلٍ فِي الْأَرْضِ يَــأْلَفُهُ                   الـفَـتَــى وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْــزِلِ

انتهى كلام ابن القيم -رحمه الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة