السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الإسلام والتنمية الزراعية (4)

الإسلام والتنمية الزراعية (4)
وائل عبد القادر
الأربعاء ٢٤ فبراير ٢٠٢١ - ١٣:١٣ م
353

الإسلام والتنمية الزراعية (4)

كتبه/ وائل عبد القادر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زال حديثنا موصولًا حول الإسلام والتنمية الزراعية.

رابعًا: الحث على إعارة الأرض لمن يزرعها إذا لم يُرد صاحبها ذلك أو عجز عنه:

فالشريعة تتشوَّف إلى إعمار الأرض ونمائها واستثمارها لمنافع العباد، وتكره تعطيل القدرات والطاقات والموارد بلا استفادة منها؛ لذا ندب أصحاب الأراضي الذين لا يرغبون في زراعتها أو عجزوا عن ذلك، أن يعطوها لغيرهم للاستفادة بزراعتها والانتفاع بها، فأرشد صاحبها إلى إعارتها، وعدم إجارتها، ففي صحيح مسلم عن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْض فَلْيَزْرَعْهَا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَزْرَعهَا وَعَجَزَ عَنْهَا فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ الْمُسْلِم وَلَا يُؤَاجِرهَا إِيَّاهُ)، وَفِي رِوَايَة: (مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْض فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيُزْرِعهَا أَخَاهُ وَلَا يُكِرْهَا).

والكراء هو الإجارة، والنهي عنه في هذين الحديثين وغيرهما ليس على إطلاقه، وإنما هو متأوّل عند العلماء بتأولين ذكرهما الإمام النووي في شرح مسلم فقال: "وَتَأَوَّلُوا أَحَادِيث النَّهْي تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدهمَا: حَمْلهَا عَلَى إِجَارَتهَا بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَات أَوْ بِزَرْعِ قِطْعَة مُعَيَّنَة أَوْ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُع وَنَحْو ذَلِكَ كَمَا فَسَّرَهُ الرُّوَاة فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَالثَّانِي: حَمْلهَا عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه وَالْإِرْشَاد إِلَى إِعَارَتهَا كَمَا نَهَى عَنْ بَيْع الْغَرَر نَهْي تَنْزِيه بَلْ يَتَوَاهَبُونَهُ وَنَحْو ذَلِكَ. وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ لَا بُدّ مِنْهَا أَوْ مِنْ أَحَدهمَا لِلْجَمْعِ بَيْن الْأَحَادِيث. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيل الثَّانِي الْبُخَارِيّ وَغَيْره، وَمَعْنَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَاَللَّه أَعْلَم".

وقال النووي -رحمه الله-: "أَمَّا (الْمَاذِيَانَات)... هِيَ مَسَايِل الْمِيَاه. وَقِيلَ: مَا يَنْبُت عَلَى حَافَّتَيْ مَسِيل الْمَاء. وَقِيلَ: مَا يَنْبُت حَوْل السَّوَاقِي. وَهِيَ لَفْظَة مُعَرَّبَة لَيْسَتْ عَرَبِيَّة".

وفى رواية لابن عباس -رضي الله عنهما- عند مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَأَنْ يَمْنَحَ الرَّجُلُ أَخَاهُ أَرْضَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا خَرْجًا مَعْلُومًا).

وقال الصنعاني في سبل السلام: "قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَدْ عَقَلَ الْمَعْنَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ تَحْرِيمَ الْمُزَارَعَةِ بِشَطْرِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنْ يَتَمَانَحُوا وَأَنْ يَرْفُقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ".

خامسًا: إحياء الأرض الموات:

مِن أفضل الأعمال التي حَثَّ عليها الإسلام، ورغَّب فيها، ووعد فاعلها بأفضل المثوبة: استصلاح الأراضي البور؛ لما فيه مِن توسيع الرقعة الزراعية، وزيادة مصادر الإنتاج، وكثرة الأيدي العاملة المنتجة، وقد عُرِف هذا الأمر في الفقه الإسلامي بعنوان معبِّر وسديد وهو: "إحياء الموات" أي: إحياء الأرض الميتة، ففي صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ) قَالَ عُرْوَةُ قَضَى بِهِ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ".

قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح: "فَالْمُرَاد مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا بِالْإِحْيَاءِ فَهُوَ أَحَقّ بِهِ مِنْ غَيْره".

وقد بوَّب البخاري -رحمه الله- لهذا الحديث بقوله: "بَاب مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا".

قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح مبينًا أحكام إحياء الموات ما نصه: "قَوْله: (بَاب مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا) بِفَتْحِ الْمِيم وَالْوَاو الْخَفِيفَة؛ قَالَ الْقَزَّاز: الْمَوَات: الْأَرْض الَّتِي لَمْ تُعْمَر، شُبِّهَتْ الْعِمَارَة بِالْحَيَاةِ وَتَعْطِيلهَا بِفَقْدِ الْحَيَاة، وَإِحْيَاء الْمَوَات أَنْ يَعْمِد الشَّخْص لِأَرْضٍ لَا يَعْلَم تَقَدُّم مَالِكٍ عَلَيْهَا لِأَحَدٍ فَيُحْيِيهَا بِالسَّقْيِ أَوْ الزَّرْع أَوْ الْغَرْس أَوْ الْبِنَاء فَتَصِير بِذَلِكَ مِلْكه سَوَاء كَانَتْ فِيمَا قَرُبَ مِنْ الْعُمْرَانِ أَمْ بَعُد، سَوَاء أَذِنَ لَهُ الْإِمَام فِي ذَلِكَ أُمْ لِمْ يَأْذَن، وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُور".

ويكون إحياء الأرض بما يناسب إحيائها مِن الوسائل والتغلب على الأسباب التي جعلتها مواتًا؛ قال الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله-: "وإحياء الأرض الموات جَعلُها صالحة للزراعة بإزالة السبب الذي جعلها غير صالحة، فإن كان مواتها بسبب غَمْر المياه لها؛ فإحياؤها بإقامة السدود، وإن كان بسبب قلة المياه أو عدم انتظامها فإحياؤها بإجراء المياه لها، وحفر الآبار ووضع الآلات الرافعة، وإن كانت غير مستوية سوِّيت، وإن كانت الأرض غير طيبة بأن كانت لا تنبت زرعًا فإحياؤها بتسميدها، وإضافة المواد التي تخصبها وهكذا".

ويُبرز -رحمه الله- دور إحياء الموات في التنمية فيقول: "إننا نرى في فتح باب الإحياء فتحًا لباب العمارة في الأرض، وتنميةً للثروة، وتعاونًا اجتماعيًّا، وخصوصًا أن ما يُنتج مِن زرع أو غِراس تجري فيه المقاسمة التي تُقيم بناء الدولة وتَضمن التكافل الاجتماعي، أو تَجري فيه زكاة الزروع والثمار، وهي أيضًا في معنى المقاسمة وإن كانت أقل في المقدار من الخَراج، وهي حق الفقير، وحق المدين، وحق ابن السبيل، وحق المجاهد، وقد قرر الفقهاء أن وجوبها في الزرع وجوب مقاسمة فهي بمقدار ما تخرجه الأرض إن سُقيت بغير آلة، وبمقدار نصف العشر إن سُقيت بآلة، وبذلك يكون بيت مال الزكاة شريكًا لمن أخرج الزرع أو تَعهد الغراس" (التكافل الاجتماعي في الإسلام).

كما لا يخفى ما لإحياء الأرض من دورٍ في التنمية بتحفيز الأفراد على العمل، والقضاء على البطالة باستغلال الطاقات المعطلة في عملية إحياء الأرض واستصلاحها، والحصول على ثمارها، وكذلك زيادة رقعة الأرض المنتجة، وتوسيع قاعدة الملكية بين الأفراد.

سادسًا: إقطاع الإمام الأرض لبعض الرعية:

كان مِن سياسة النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين الإقطاع مِن الأراضي البور لبعض الرجال الذين أدوا خدمات جادة للدولة الإسلامية، فهي مكافأة لهم من جهة، وتشجيعًا على استصلاحها وعمرانها من جهة أخرى.

فللإمام أن يُقطِع من رعيته ما شاء مِن الموات لمن يُحيّيه، أي لمصلحة إحيائه، ودليل ذلك ما ثبت عن أسماء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقطع الزبير بن العوام نخلًا (أخرجه أبو داود، وصححه الألباني).

ويشهد لهذا رواية البخاري عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: " كُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى رَأْسِي، وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ".

وعن علقمة بن وائل عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقطعه أرضًا في حضرموت، لكن لا يملكه بالإقطاع، بل يملكه بالإحياء، فإذا أقطعه أرضًا للسكن أو للزراعة، أو للغراس، فلا يملكها إلا بالبناء إن كانت للسكن أو بالزراعة إن كانت للزراعة أو بالغراس إن كانت للغراس، فهو أحق بها، لكن لا يملكها إلا بإحيائها، ودليل ذلك ما ثبت عند البيهقي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أخذ من بلال بن الحارث ما عجز عن عمارته مما أقطعه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد أقطع النبي -صلى الله عليه وسلم- بلال بن الحارث المعادن القبليّة، فلما ولي عمر نزع عنه ما عجز عن عمارته، ولو كان يملكها بالإقطاع لما نزعها منه، هذا هو مذهب الجمهور فلا يملكها بالإقطاع، بل هو أحق بها، أي: بأن يسبق غيره في غرسها أو زراعتها أو بنايتها، وحينئذٍ إن لم يحيّها؛ فإن الإمام يمهله زمنًا يتمكن بمثله من إحيائها، وإلا فإنه ينزعها منه" (شرح كتاب زاد المستقنع في اختصار المقنع الشيخ حمد بن عبد الله الحمد).

قال الإمام أبو يوسف -رحمه الله- في كتابه الخراج: "ولا أرى أن يترك الإمام أرضًا لا ملك لأحد ولا عمارة حتى يُقطعها، فإن ذلك أعمر للبلاد وأكثر للخراج. كما لا يُقطع الإمام أحدًا أرضًا إلا بالقدر الذي يمكنه إحياؤه، قال بن قدامة في المغني: "وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَع الْإِمَامُ أَحَدًا مِنْ الْمَوَاتِ، إلَّا مَا يُمْكِنُهُ إحْيَاؤُهُ؛ لِأَنَّ فِي إقْطَاعِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ تَضْيِيقًا عَلَى النَّاسِ فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمْ، بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ. فَإِنْ فَعَلَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ عَجْزُهُ عَنْ إحْيَائِهِ، اسْتَرْجَعَهُ مِنْهُ، كَمَا اسْتَرْجَعَ عُمَرُ مِنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ مَا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ عِمَارَتِهِ مِنْ الْعَقِيقِ، الَّذِي أَقْطَعَهُ إيَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-".

والحمد لله رب العالمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة