السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (9)

قصة بناء الكعبة (7)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (9)
ياسر برهامي
الخميس ٠٤ مارس ٢٠٢١ - ٠٩:٠٩ ص
399

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (9)

قصة بناء الكعبة (7)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة:125).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "ورَوَى الإمام أحمد عن أنسٍ قال: قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: وَافَقْتُ رَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ- فِي ثَلَاثٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ فَنَزَلَتْ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ نساءكَ يدخلُ عَلَيْهِنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ. وَاجْتَمَعَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نِسَاؤُهُ فِي الْغَيْرَةِ فَقُلْتُ لَهُنَّ: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) (التَّحْرِيمِ:?)، فَنَزَلَتْ كَذَلِكَ. وقد رواه البخاري عن عمرو بن عون، والترمذي عن أحمد بن منيع، وقال الترمذي: حسن صحيح.

ورواه الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه بسندٍ آخر، ولفظ آخر، عن عمر قال: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: فِي الْحِجَابِ، وَفِي أُسَارَى بَدْرٍ، وَفِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ.

وروى أبو حاتم الرازي عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب: وَافَقَنِي رَبِّي فِي ثَلَاثٍ -أَوْ وَافَقْتُ رَبِّي- قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ فَنَزَلَتْ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ حَجَبْتَ النِّسَاءَ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ. وَالثَّالِثَةُ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُصَلِّي عَلَى هَذَا الْكَافِرِ الْمُنَافِقِ! فَقَالَ: "إِيهًا عنك يا بنَ الْخَطَّابِ"، فَنَزَلَتْ: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (التَّوْبَةِ:??). وهذا إسناد صحيح أيضًا، ولا تعارض بين هذا ولا هذا؛ بل الكل صحيح، ومفهوم العدد إذا عارضه منطوق قُدِّم عليه، والله أعلم.

وروى ابن جريج عن جابر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رمل ثلاثة أشواط، ومشى أربعًا؛ حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى).

(قلتُ: الصحيح كما في صحيح مسلم مِن حديث جابر الطويل؛ أنه قرأ الآية وهو في طريقه إلى خلف المقام، وليس بعد أن صلَّى الركعتين).

وروى ابن جرير عن جابر قال: اسْتَلَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الرُّكْنَ، فَرْمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَرَأَ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.

وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه، من حديث حاتم بن إسماعيل.

وروى البخاري بسنده، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن عمر يقول: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ.

هذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام: إنما هو الحَجَر الذي كان إبراهيم -عليه السلام- يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجِدَار أتاه إسماعيل -عليه السلام- ليقوم فوقه ويناوله الحجارة؛ فيضعها بيده لرفع الجدار، وكلما كمَّل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى، يطوف حول الكعبة، وهو واقف عليه، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى تم جدارات الكعبة، كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري. وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفًا؛ تعرفه العرب في جاهليتها؛ ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية:

وَمَوْطِئُ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٌ      عَـلـَى قـَدَمَـيْـهِ حَـافِـيًا غَـيْـرَ نَاعِلِ

وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضًا، كما روى  عبد الله بن وهب عن أنس بن مالك قال: رَأَيْتُ الْمَقَامَ فِيهِ أَثَرُ أَصَابِعِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وإخْمَص قَدَمَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَذْهَبَهُ مَسْحُ النَّاسِ بِأَيْدِيهِمْ.

(قلتُ: ولا يُستغرب ذلك؛ فإنه لم يكن على ذلك الحجر شيء في أول الإسلام؛ بل كان يمكن نقله ولمسه مباشرة قبل أن يُبني عليه الحاجز النحاسي كالقبة الموجود الآن).

ورَوَى ابن جرير عن قتادة: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى): إنما أُمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه. وقد تكلفت هذه الأمة شيئًا ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا مَن رَأَى أثر عَقِبِه وأصابعه فيه، فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى.

قلتُ -أي: ابن كثير-: وقد كان هذا المقام مُلصقًا بجدار الكعبة قديمًا، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحِجْر، يُمْنَةَ الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك (قلت: أي يكون الباب بين الحجر الأسود وبين مقام إبراهيم مُلاصقًا للكعبة أمام المكان الذي هو فيه الآن بعيدًا عن الكعبة).

قال: وكان الخليل -عليه السلام- لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك؛ ولهذا -والله أعلم- أُمِر بالصلاة هناك عند فراغ الطواف، وناسَب أن يكون عند مقام إبراهيم؛ حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنما أخَّره عن جدار الكعبة أميرُ المؤمنين عمرُ بن الخطاب -رضي الله عنه- أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين؛ الذين أُمِرنا باتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اقْتَدَوْا باللَّذَين مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده؛ ولهذا لم يُنكِر ذلك أحدٌ مِن الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-.

روى عبد الرزاق، عن ابن جريج: حدثني عطاء وغيره من أصحابنا: قالوا: أول مَن نقله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.

 وروى عن مجاهد قال: أول مَن أخَّر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.

وروى الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناده عن عائشة -رضي الله عنها-: أن المقام كان زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزمان أبي بكر -رضي الله عنه- مُلتصقًا بالبيت، ثم أخَّره عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. هذا إسناد صحيح مع ما تقدَّم.

وروى ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة -وهو إمام المكيين في زمانه-: كان المقام في سُقْعِ البيت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحوَّله عمر إلى مكانه بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعد قوله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إيَّاه من موضعه هذا؛ فردَّه عمر إليه.

وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله. وقال سفيان: لا أدري أكان لاصقًا بها أم لا؟

فهذه الآثار مُتعاضِدَةٌ على ما ذكرناه، والله أعلم.

(قلتُ: والذي قالته عائشة -كما رواه البيهقي بإسنادٍ صحيحٍ- أنه كان ملصقًا بالبيت؛ فهذا هو الصحيح، فليس بينه وبين البيت مسافة).

وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن مجاهد: قال عمر: يا رسول الله لو صلينا خلف المقام؟ فأنزل الله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)؛ فكان المقام عند البيت؛ فحوَّله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى موضعه هذا. قال مجاهد: كان عمر يرى الرأي؛ فينزل به القرآن.

قال ابن كثير: هذا مرسل عن مجاهد، وهو مخالِف لما تقدم من رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد: أن أول مَن أخَّر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وهذا أصح من طريق ابن مردويه، مع اعتضاد هذا بما تقدَّم. والله أعلم" (انتهى من تفسير ابن كثير).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة