الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

ملخص كتاب: (تنظيم الأسرة وتنظيم النسل) للعلامة الأزهري (محمد أبو زهرة) (4) ضوابط رخصة تنظيم النسل

ملخص كتاب: (تنظيم الأسرة وتنظيم النسل) للعلامة الأزهري (محمد أبو زهرة) (4) ضوابط رخصة تنظيم النسل
عبد المنعم الشحات
الجمعة ٠٩ أبريل ٢٠٢١ - ١٦:٥٩ م
966

ملخص كتاب: "تنظيم الأسرة وتنظيم النسل" للعلامة الأزهري "محمد أبو زهرة" (4) ضوابط رخصة تنظيم النسل

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

تمهيد:

هذا هو الجزء الثالث مِن تلخيص كتاب: "تنظيم الأسرة وتنظيم النسل" للعلامة الأزهري "محمد أبو زهرة" -رحمه الله تعالى-، وقد اخترتُ له عنوان: "ضوابط رخصة تنظيم النسل".

وسوف يرى القارئ مِن عرض العلامة "أبو زهرة" أنه بالفعل ورد في السُّنَّة إباحة العزل -وهو الصورة التي كانت معروفة في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لمنع الحمل-؛ إلا أن هذا الإذن جاء استثناءً من نصوص كثيرة تحضُّ على كثرة النسل؛ بل والنصوص التي فيها الإذن ورد فيها ما يبيِّن أن هذا ليس هو الأصل، ومِن ثَمَّ يُصنَّف منع الحمل باعتباره رخصة، والرخصة لا ينبغي التوسُّع في الحض عليها، وقد ناقش الشيخ اعتبار منع الحمل أداة تنظيم اقتصادي فأجاد في ذلك -رحمه الله-.

يقول -رحمه الله- ما ملخصه:

"تاريخ الدعوة إلى تحديد النسل"(1)

وإن الدعاية لتحديد النسل ظهرت في البلاد الإسلامية من مصادر أووربية وأمريكية، ولم تُفرِّق بين بلدٍ ذات موارد كثيرة وأخرى قليلة، وكانت في الماضي تظهر وتختفي؛ حتى إذا احتلت إسرائيل الأرض المقدسة، وأخرجوا أهلها من ديارهم وأموالهم وأرضهم، وظاهر على إخراجهم الأمريكان والإنجليز وغيرهم من أهل أوروبا، وأكثر أهل أمريكا = عندئذٍ وجدنا الدعاية إلى تحديد النسل تعود جذعة قوية في عنف ولَجَاجَة، وتخص البلاد العربية التي تحيط بإسرائيل بالدعاية، تحتل ربوعها حتى ما كان منها سكانه لا يصل إلى خمسة ملايين، وفيه موارد طبيعية تتسع لثلاثين أو أربعين، وفي أهله مهارة في الصناعة، وكياسة في التجارة كسوريا.

وكادت الفكرة الباعثة تنكشف بهذا التعميم؛ فاتجهوا إلى التخصيص إلى حدٍّ، وخصوا مصر بالدعاية اللجوج؛ لأن دعوى قلة الموارد الطبيعية فيها ربما تروج؛ ولأن سكانها في نماء ببركة الله -تعالى-؛ ولأنها تقف بالمرصاد في الصدر لإسرائيل؛ ولأن جيشها المظفَّر بعون الله -تعالى- هو قوة العرب أجمعين، وفيه عتادهم؛ ولأنها هي قبر أمراء الصليبيين؛ ولأنها هي التي ردَّت التتار على أعقاهم خاسرين.

معرفة الاستفتاء يؤثر على الفتوى(2)

 ولقد كان الإمام أحمد -رضي الله عنه- يحرص على ألا يَفتي المفتي في أمرٍ إلا بعد أن يعرف وقائع الفتوى والباعث على الاستفتاء، ونفسية المستفتي، فقد يتخذ من الحق ذريعة لباطل.

وإنَّا لهذا ندرس موضوع تحديد النسل من الناحية الدينية، ثم ندرس الباعث الذي يتذرَّع به الذين يتكلمون فيه.

إن الإسلام دعا إلى النكاح، وحثَّ عليه، واعتبره النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- سنة الإسلام، فقال -عليه الصلاة والسلام- في الدعوة إليه: "إِنَّ مِنْ سُنَّتِنَا النِّكَاحُ، ومَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِنَا فَلَيْسَ مِنَّا"، ودعا -عليه الصلاة والسلام- الشباب إلى النكاح، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَن استَطَاعَ البَاءَةَ -أي: تكاليف الزواج- فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ -أي: عصمة من الزلل-) (رواه البخاري).

والأحاديث الصحاح الواردة في الدعوة إلى النكاح كثيرة، ولا نريد أن نحصيها عدًّا، وذلك معروف لا يحتاج إلى الإطالة، وذكر بعضه يغني عن ذكر كله.

 والمقصد الأول من الزواج هو النسل والإكثار منه، فقد روى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، إِنِّي مُكَاثِرٌ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، وعن معقل بن يسار -رضي الله عنه- قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ، وَإِنَّهَا لَا تَلِدُ، أَفَأَتَزَوَّجُهَا، قَالَ: (لَا) ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: (تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ) (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني). وهذان حديثان مرفوعان لم يتكلم العلماء في رواتهم.

ورُوي عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- أنه قال: "الحَصِيرُ في نَاحِيَةِ البَيْتِ خَيْرٌ مِنَ امْرَأَةٍ لَا تَلِدُ"، وقد قالوا: إنه موقوف على عمر -رضي الله عنه-، وحديث يكون موقوفًا على عمر -رضي الله عنه، وهو الصادق الأمين الفاهم للإسلام حقَّ الفهم- لا يمكن إلا أن يكون معبِّرًا تعبيرًا دقيقًا عن صفاته.

ورُوي أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- قال: (خَيْرُ نِسائِكُمُ الوَلُودُ الوَدُودُ) (رواه البيهقي، وصححه الألباني)، وقد قال أهل الخبرة: إنه مرسل؛ لأنه لم يذكر الصحابي، والمرسل حجة عند أبي حنيفة ومالك، وحجة عند الشافعي إذا عاضده مسندٌ في معناه، وأحمد -رضي الله تبارك وتعالى عنه- رَوَى الحديثَ مسندًا برواية أخرى عن أنس، ومثلها عن ابن عمر -رضي الله تبارك وتعالى عنهما-.

وقد رُويت في الدعوة إلى الإكثار من النسل أحاديث كثيرة، ويذكر أهل الخبرة بالحديث أنه في بعض الرواة مَن فيه ضعف؛ ولكن يذهب بضعف الضعفاء کثرة الرواية عن الأصحاء، وتضافر المعنى في كل الأخبار؛ ولذلك قال ابن حجر بعد أن ذكر الأحاديث التي في رواتها بعض الضعفاء، ما نصه: "وهذه الأحاديث -وإِنْ كان في الكثير منها ضعف- مجموعها يدل على ما يحصل به المقصود من الترغيب في التزويج؛ ولكن في حق مَن يتأتى منه النَّسْل" (فتح الباري).

إذًا فالإكثار من النسل مطلوب في ذاته، وهو غاية الزواج الأولى السامية في الإسلام، وإن ذلك هو الفطرة والطبيعة الإنسانية؛ بل الطبيعة الحيوانية، ولا شك أن منع النسل ضد الفطرة، والإسلام دين الفطرة كما قال -تعالى- في كتابه الكريم: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم:30).

وأن الله -سبحانه وتعالى- دعا إلى الاعتماد عليه في رزق الأولاد، بعد أن يأخذ كلٌ طريقه في الكسب الحلال، فقال -تعالى-: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (الأنعام:151)، وقوله -تعالى-: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) (الإسراء:31)، وإن التعاون الذي فرضه الله -تعالى- على المؤمنين، والتكافل الاجتماعي الذي أوجبه عليهم يوجبان أن يُعِين الغني الفقير، وذو الميسرة ذا الحاجة؛ فإذا كان هناك ذو عيال لا يجد ما يكفيهم بالمعروف كان على مَن يجد أن يمدهم بالعون، والدولة تأخذ مِن القادر لتكفل غير القادر، فالنسل قوة للأمة، وبدل أن نقول لكثير العيال: اقتل أسباب النسل في أصلاب أو أرحام الأمهات.. نقول للدولة: خذي من ذوي الفضل من المال، وأعطي مَن يحتاج، والجميع بكثرتهم قوة للأمة.

رخصة العزل(3)

هذه هي النظرة العامة للشريعة بالنسبة للنسل، وهي تدعو إلى الإكثار، فالأحاديث تحث عليه، والقرآن يشير إليه وهو الفطرة، وتحديده يناقضها، ولكن وردت أحاديث في العزل، وهو إلقاء النطفة في غير مقرها من الأرحام؛ لكيلا يكون إنتاج، وفي بعضها صحة وقوة، فما مَدَى دلالتها وقوتها في الوقوف أمام الدعوة إلى الإكثار من النسل؟

فلننظر في هذا، فإن كثيرين من الذين يتكلمون في هذا يتخذون منها دليلًا للدعاية العامة لتحديد النسل.

لقد وردت أحاديث في العزل بعضها متفق عليه في الصحاح، وبعضها في سنده ضعف، ولنذكر ما عثرنا عليه مُنبِّهين إلى الضعف، ومُوفِّقين بين ما ظاهره التعارض.

1- رُوي عن جابر: "كُنَّا نَعْزِلُ عَلى عَهْدٍ رَسُولِ اللهِ -صلَّى اللهُ تعالى عليه وسَلَّم- والقرآنُ يَنْزِلُ"، وهو حديث متفق عليه، وفي رواية مسلم زيادة: "فَبَلَغَهُ فَلْمْ يَنْهَنَا".

2 - ورُوي عن جابر: "أن رجلًا أتى النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم-، فقال: ‘نَّ رَجُلًا أَتى رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقالَ: إنَّ لي جارِيَةً، هي خادِمَتُنَا وَساقِيَتُنا، وَأَنا أَطُوفُ عَلَيْها، وَأَنا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، فَقالَ: (اعْزِلْ عَنْها إنْ شِئْتَ، فإنَّه سَيَأْتِيها ما قُدِّرَ لَهَا) (رواه مسلم وأحمد وأبو داود).

3- عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: كُنَّا في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبية من العرب فسألنا عن ذلك رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم-، فقال: (لَا، عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، مَا كَتَبَ اللهُ خَلْقَ نَسَمَةٍ هِيَ كَائِنَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إِلَّا سَتَكُونُ) (متفق عليه).

وظاهرٌ أن المراد: النهي عن العزل كما قرر ابن سيرين؛ لأن حرف (لَا) للنهي، وقد تأكَّد النهي من بعد ذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا)، وبيان أن الله کتب ما هو خالق إلى يوم القيامة.

 4- عن أبي سعيد الخدري قال: وقالت اليهود: العزل الموءودة الصغرى، فقال النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم-: "كَذَبَتْ يَهُودُ إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَهُ، لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَصْرِفَهُ" (رواه أحمد)، وقد ضُعِّفَ بعضُ رواته، ويعارضه حديث أقوى منه سندًا.

5- عن جذامة بنت وهب الأسدية قالت: حضرتُ رسولَ الله -صلى الله تعالى عليه وسلم- في أناسٍ سألوه عن العزل، فقال -عليه السلام-: (ذَلِكَ الوَأْدُ الخَفِيُّ، وإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بَأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (رواه مسلم وأحمد)، وهذا حديث صحيح، كل رجاله ثقات؛ ولذا لا يقف أمامه عند التعارض حديث أبي سعيد الخدري الخاص بموءودة اليهود؛ لأن في حديث أبي سعيد ضعفًا، وهذا لا ضعف فيه، وبأنه يعاضده حديث غزوة بني المصطلق، والنهي عن العزل فيه صريح، ومِن العلماء مَن رَجَّح حديث أبي سعيد؛ لأن له طرقًا مختلفة، ولكن في كلها ضعف، والقوي لا يُعارَض بأحاديث قد كثرت طرق ضعفها، وقد قال الحافظ ابن كثير في ذلك: "هذا دفع للأحاديث الصحيحة بالتوهم، والحديث صحيح لا ريب فيه".

الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض في شأن العزل(4)

والذي نراه بادي الرأي: أن هنا حديثين مُتفقًا عليهما متعارضان هما؛ حديث جابر: "كُنَّا نَعْزِلُ"، وحديث: "بَنِي المُصْطَلِق". ومثلهما حديث: (الوَأْدُ الخَفِيُّ) مع حديث تكذيب اليهود متعارضان.

ولذلك اختلف العلماء في جواز العزل، ففريق جوَّزه، وفريق منعه، ومِن هؤلاء: ابن حزم وبعض الحنابلة، والذين أجازوه -أجازوه على أنه رخصة فردية، وإن اختلفوا في أسباب هذه الرخصة ما بين مُوسِّع ومُضيِّق،

 ومِن أشد مَن وَسَّعوا الغزالي في الإحياء، فقد وَسَّع في أسباب الرخصة.

ومع ذلك فقد قَرَّر الغزالي مع غيره: أن العزل ترك الأفضل؛ بل إنه مكروه، وإليك كلامه في التعليق على حديث جذامة بنت وهب عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد قال: "قوله -عليه السلام-: (الوَأْدُ الخَفِيُّ) يوجب كراهة لا تحريمًا"(5).  

وننتهي مِن هذا إلى أن بعض الفقهاء يقرر أنه ممنوع، وبعضهم يقرر أنه غير ممنوع، ولكنه ترك للأفضل، ومنهم مَن يقول: إنه مكروه.

وفي الجملة: إن الإباحة لا تكون إلا برخصة باعثة، وفي غيرها لا يكون جائزًا، هذا ما ينتهي إليه التفكير السليم.

ويجب أن نقرر أن العزل أو المنع الشخصي للنسل يتعارض مع الفطرة، وفيه معارضة الأحاديث المتفق عليها الداعية إلى تكثير النسل، ويعارضه أيضًا الأحاديث الصريحة المانعة له، حتى قال بعض العلماء: إنها ناسخة لأحاديث الإباحة على سبيل الرخصة، وخصوصًا الحديث الصحيح الذي قال: إنه (الوَأْدُ الخَفِيُّ).  

ثم تعارضه قاعدة أجمع عليها المسلمون، وهي: "المحافظة على النسل"، فقد أجمع العلماء على أن الضرورات التي تجب المحافظة عليها خمس، هي: "النفس، والدِّين، والعقل، والنسل، والمال"، فنظرية منع النسل معارضة صريحة ليكون المحافظة على النسل من الأمور الضرورية في الإسلام بإجماع العلماء.

العزل رخصة فردية، ولكن النسل مطلوب كلي:

تبيَّن مِن البحث السابق أن المنع الفردي للنسل ترك للأفضل أو مكروه، وإذا وُجد موجبه عند الفرد كان مُباحًا على مقدار هذه الرخصة الفردية، ولا يوجد في الفقه الإسلامي ما يجعل الرخصة جماعية لأمة من الأمم أو لإقليم من الأقاليم، فالرخص دائمًا فردية.

وإذا انتهينا إلى الإباحة في هذه الدائرة، فإنه من المقررات الشرعية أن المباح بالشخص أو بالجزء يكون إما مطلوبًا بالكل، أو ممنوعًا بالكل على حسب موافقته للمبادىء الكلية المقررة في الشريعة، أو مناقشتها، فإن كان خادمًا للمبادىء الشرعية الثابتة كان مطلوبًا بالکل، مباحًا بالجزء، وإن كان مناقضًا للمبادىء الكلية العامة في الشريعة، كان مباحًا بالجزء حرامًا بالكل.

كلام نفيس للشاطبى فى بيان هذا الأمر:

ولنترك الكلمة للشاطبي في الموافقات، فهو يقول: "إن المباح ضربان: أحدهما: إما أن يكون خادمًا لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي. والثاني: ألَّا يكون كذلك.

فالأول: قد يُرَاعَى ما هو خادم له، فيكون مطلوبًا ومحبوًبا فعله، وذلك كالتمتع بما أحلَّ الله -تعالى- من المأكل والمشرب ونحوهما مباح في نفسه، وإباحته بالجزء، وهو خادم لأصله ضروري، وهو إقامة الحياة، فهو مأمور به من هذه الجهة، ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب، فالأمر به راجع إلى حقيقته الكلية، لا إلى اعتباره الجزئي.

والثاني: إما أن يكون خادمًا لما ينقض أصلًا من الأصول الثلاثة المعتبرة، أو لا يكون خادمًا لشيء كالطلاق؛ فإنه تركٌ للحلال الذي هو خادم لكلي هو إقامة النسل في الوجود، وهو ضروري لإقامة مطلق الألفة والمعاشرة، واشتباك العشائر بين الخلق، وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما، فإذا كان الطلاق بهذا النظر خرقًا لذلك المطلوب ونقضًا عليه؛ كان مبغضًا ولم يكن فعله أولى من تركه، أو بعارض أقوى کالشقاق (بين الزوجين)، وعدم إقامة حدود الله، وهو مِن حيث كان جزئيًّا في هذا الجزئي، وفي هذا الزمان مباح وحلال" (انتهى كلام الشاطبي).

وبتطبيق(6) هذه القواعد على قضية منع النسل نقرر الأمر الشرعي في هذه القضية أنه إذا أبيح لرخصة، فإنه يباح للشخص الذي كانت عنده الرخصة، ولا يباح كقاعدة عامة تعمُّ الناس في إقليم أو أمة؛ بحيث ينتفع بالإباحة صاحب الرخصة وغيرها، ثم هو خادم لأمر يناقض مبدأ مقررًا ثابتًا، وهو المحافظة على النسل والإكثار منه الذي جاءت به الأحاديث الصريحة المتَّفَق عليها.

ونريد أن نطبق هذا الحكم على ما يجري الآن في مصر، تقوم الجماعات التي أصلها قد أنشئت للخير، وبعض الرعايات الاجتماعية بإعطاء أقراص أو حبوب لمنع النسل، وتقوم دعاية صحفية، وعلى منبر الإذاعة المرئية وغير المرئية لتحديد نسل الأمة بدعوى قلة الموارد، وتزايد السكان، باسم جواز ذلك شرعًا، وقد رأينا حكم الشرع، وأنه لا يجوز منع النسل بالکل، ولا يباح كأمر عام؛ لأنه يعارض قوله -تعالى-: (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (الأنعام:151)، وقال -تعالى-: (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) (الإسراء:31)؛ ولذلك نعارض هنا باسم الدِّين، ولا نريد أن نقطع نسلنا، ونقلل جمعنا، ونعصي رسولنا، ونكفر بقدرة ربنا؛ الذي يرزق مَن يشاء بغير حساب.

خاتمة:

بعد أن تعرَّض الشيخُ -رحمه الله- إلى المناقشة الشرعية، ناقش القضية من الناحية الدنيوية وكيفية الاستفادة من ثروة النسل، وهو كلام -وإن بدا مرتبطًا بزمن كتابة الكتاب-؛ إلا أنه يتضمن رؤية واقعية موجودة إلى يومنا هذا، وإنما تركناه اختصارًا، ولكن ننصح بقراءة الكتاب كاملًا،

نفعنا الله به، وبسائر تراث علمائنا في القديم والحديث.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) العنوان من وضعنا.

(2) العنوان من وضعنا.

(3) العنوان من وضعنا.

(4) العنوان من وضعنا.

(5) نص عبارة الغزالي -رحمه الله- في الإحياء: "وقوله: (الوَأْدُ الخَفِيُّ) كقوله: (الشِّرْكُ الخَفِيُّ)، وذلك يوجب كراهة لا تحريمًا".

(6) وَفْق كلام الشاطبي، في ميزان الشرع العزل والطلاق من بابٍ واحدٍ، لا ينبغي الترغيب فيهما، ولكن كثيرٌ مِن المعاصرين يفرِّقون بينهما.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com